عاصم عبد المحسن - كاتب مصري
حظي توفيق الحكيم بين أبناء جيله بعدد من الصفات التصق بعضها به حتى وفاته، منها البخل وأنه عدو للمرأة وأنه يطل على الدنيا من برج عاجي يفصله عن واقع مجتمعه وناسه.
الحكيم ولد في دمنهور وأهل دمنهور ومعظمهم من التجار مشهورون بالحرص، ولم يكن الرجل نشازا فكان حريصا على ماله، ومن ثم التصقت به صفة البخل بل يذهب البعض إلى القول إنه كان يشيع ذلك عن نفسه ليبعد عنه الطامعين في كرمه.
ولعله كان سعيدا بوصف عدو المرأة الذي كان يجعل اسمه حاضرا دائما في كل ما يثار عن المرأة رغم أن واحدة من أولى مسرحياته وهي "المرأة الجديدة" قدمت نموذجا إيجابيا عن المرأة.
أما وصفه بأنه يعيش في برج عاجي فلعله يعود إلى كتابه "من البرج العاجي" الذي نشر عام 1941، وهو وصف قد يكون فيه ظلم للرجل تدحضه أعماله مثل "عودة الروح" و"يوميات نائب في الأرياف" و"الصفقة".
في عام 1956 نشر الحكيم مسرحية "الصفقة". أحداث المسرحية تدور في قرية أرضها مملوكة لإحدى الشركات التي تقرر بيع الأرض. الفلاحون الذين كانوا يعملون في أرض الشركة بالسخرة يرون في قرار الشركة فرصتهم للخلاص مما يعانون، ولكي يصبحوا هم أنفسهم سادة أنفسهم وملاك أرضهم.
تتحدث المسرحية عن كيف باع الفلاحون كل شيء واستدانوا من أجل إتمام صفقة شراء الأرض وما تعرضوا له من مؤامرات وعراقيل وكيف تغلبوا عليها حتى فازوا أخيرا بالصفقة.
هذا تلخيص لفكرة المسرحية وقد يبدو مخلا. ثمة أسئلة لا جواب عليها. هل هناك علاقة بين نشر المسرحية عام 1956 وبين قوانين تحديد الملكية والإصلاح الزراعي التي أعقبت قيام ثورة 1952؟ هل كتب الحكيم المسرحية في أعقاب هذه القرارات أم أنها كانت مكتوبة لديه قبل قيام الثورة ولم يكن من الممكن نشرها في العصر الملكي؟
ثم السؤال الأهم: هل المسرحية التي قد تبدو فكرتها غريبة على المجتمع المصري من بنات أفكار الحكيم أم أنها مستوحاة من واقع حدث؟
في حدود ما هو متاح فإن أحدا لم يسأل الحكيم هذه الأسئلة ولم يتطوع هو بالحديث ومن هنا يكون منطقيا التساؤل عن العلاقة بين إبداع أدبي وبين قرية يكاد لم يسمع ولا يسمع بها أحد؟
الإجابة عن التساؤل بسيطة.. أحداث المسرحية مستوحاة بكاملها ـ إلا ما اقتضته الضرورات الفنية ـ مما حدث في قرية "الصافية" التي ولدت بها والشواهد على علم الحكيم بها قائمة بما يؤكد هذا العلم.
"الصافية" قرية تابعة لمركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ. المساحة الزراعية للقرية وقت ما سوف يرد من تفاصيل هي نحو من 800 فدان وقف خيري وحوالي 200 فدان مملوكة لبعض أهالي القرية تتراوح ما بين بضعة قراريط وبضعة أفدنة.
كانت الأوقاف تقوم بطرح أرض القرية بنظام الالتزام.. وهو نظام بدأ في العصر المملوكي والعثماني.. بحيث يقوم الملتزم بدفع مبلغ من المال مقابل الحصول على الالتزام ويتولى هو بطريقته بعد ذلك إدارة شئون الأرض بما يحقق له مكاسب تفوق أضعاف ما سبق له أن دفعه. لم يكن الالتزام في العصرين المملوكي والعثماني قاصرا على الأرض، بل كان يشمل أيضا الوظائف العامة ومن بينها القضاء.. من يدفع أكثر يذهب بالغنيمة.
في بدايات القرن العشرين كان التزام أرض الوقف الخيري في "الصافية" يرسو دائما على أحد الأثرياء الذي تعود جذوره إلى قرية أخرى في المنطقة.
ما سوف يلي هو ما تبقى في الذاكرة مما سمعته من أبي ومن كبار رجال القرية في أحاديث المصطبة.
ضاق أهل القرية ذرعا بممارسات الملتزم وكان اسمه أبو الفتوح. لم أعرف أبدا اسمه بالكامل فالذين كانوا يتحدثون عنه لم يذكروا ذلك، وما كانوا بحاجة إلى مزيد من التعريف فهم يعرفونه. بالنسبة إلينا نحن الأبناء والأحفاد أصبح أبو الفتوح علما يستغني عن التعريف بابن فلان.
مارس أبو الفتوح ورجاله كل أنواع الظلم والعسف والسخرة مع أبناء القرية الذين كانوا يعملون "تملية" في الأرض دون أي حقوق رغم أنهم كانوا مستأجرين لهذه الأرض منه. كان من سلطة رجال أبو الفتوح طرد أي فلاح من الأرض التي يزرعها في أي وقت يشاءون. الاستيلاء على المحصول بالكامل أو على معظمه وفاء لديون لا يعرف الفلاحون عنها شيئا كان سلوكا عاديا. تكسير طنابير من لا يستخف رجال أبو الفتوح دمه أو لا يروق لهم منظره كان تسلية. جر الرجال من شواربهم أمام أبنائهم لم يكن أمرا مستهجنا.
طفح الكيل بأهل الصافية وهم يحاولون البحث عن مخرج لهم من هذه المعاناة التي لم توفر أحدا.
كانت ثورة 1919 قد قامت. لم يذكر الكبار في أحاديث المصطبة إن كان قيام الثورة كان أحد المحفزات لهم للعمل على الخلاص من كابوس أبو الفتوح. لكن أخبار الثورة وصلتهم وانقسم شباب القرية فريقين.. فريق يناصر سعد زغلول وفريق يوالي عدلي يكن. لكن المفارقة على لسان بعض أبناء الفريقين أنهم لم يكونوا يعرفون في البداية عندما تحزبوا الاسم الكامل لأي من الرجلين فكان أنصار سعد يهتفون بحياة سعد يكن، والفريق الآخر ينادى بحياة عدلي زغلول.
بعد الثورة بعامين أو ثلاثة.. لم يذكر الكبار تاريخا محددا للسنة.. استقر عزم أهل الصافية على الوقوف في وجه أبو الفتوح والحصول على استئجار الأرض من الأوقاف بأنفسهم. لم تتعرض أحاديث المصطبة لمن كان أول من طرح الفكرة، وإنما كانت الإشارة دائما إلى "الناس". جلس كبار العائلات مع بعضهم واستقر عزمهم على أن تتكفل كل عائلة بمبلغ من المال يتناسب مع عدد أفرادها، ومن مجموع هذه الأموال يتقدم أهل القرية بعطائهم مقابل عطاء أبو الفتوح.
لم تكن هناك تجمعات حاشدة فكل رب عائلة مسئول عما هو مطلوب من عائلته وملتزم به. الذين ليس لهم عائلات كبيرة يلتزمون كأفراد وشمل ذلك بعض الأرامل. بدأت كل عائلة العمل على تدبير ما هو مطلوب منها. باع الناس ما وراءهم وما أمامهم حتى خلت القرية أو كادت من المواشي، إلا ما لا غنى عنه ومن الطيور. باع النسوة حلقانهن وخلاخيلهن. لم يكن ذلك كافيا. استدان من وجد سبيلا للاستدانة.
لم يكن ما يحدث في الصافية خافيا على أبو الفتوح من خلال رجاله وعيونه، لكنه لم يكترث بالأمر في البداية مقتنعا أن كلمة أهل الصافية لن تتوحد على موقف، وإن حدث فإن إمكانياتهم لن تصل بهم إلى مبتغاهم. لكن تواصل تحرّك الناس وسعيهم الحثيث بدأ يقلقه، وبدأ رجاله في مضايقة أهل القرية والتضييق على تحركاتهم. لبعض أهل الصافية أصهار وأقارب في قرى أخرى تقع على الجانب الغربي من نهر النيل والزوارق هي وسيلة العبور. بدأ رجال أبو الفتوح في الحيلولة بين الناس وبين العبور. تغلب الناس على ذلك بالتسلل ليلا على الأقدام إلى قرية "محلة دياي" المجاورة والعبور منها إلى "شبراخيت" ومن ثم إلى حيث يوجد الأقارب والأصهار.
اقترب موعد جلسة المزاد وبدا أن الناس قد ينجحون في تدبير المبلغ المطلوب. استعان أبو الفتوح بنفوذه وسلطانه بشرطة المركز لتلفيق اتهام إلى رب إحدى الأسر التي تعهدت بتقديم مبلغ من شأن عدم دفعه إفشال الصفقة بالكامل. وردت إشارة من المركز تطلب من شيخ الخفراء القبض على رب هذه الأسرة واثنين من أفرادها وإحضارهم إلى المركز في اليوم التالي.
وقتها كان أبي هو شيخ خفراء القرية. لم يكن تجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وهي سن صغيرة لمن يتولى مثل هذا المنصب الخطير في القرية، لكن يبدو أن كون والده كان شيخا للبلد ساعد على توليه المنصب.
أمر القبض كان يمثل ضربة قاضية لكل ما سعت القرية إليه لأنه يعني العجز عن استكمال المبلغ المطلوب وبالتالي فشل الصفقة.
اصطحب أبي الثلاثة المطلوب القبض عليهم في قطار الدلتا إلى مدينة دسوق التي تبعد عن الصافية 12 كيلومترا. كان رب هذه الأسرة لم يستكمل بعد المبلغ المطلوب منه. في القطار سأل أبي رب الأسرة إن كان أقاربه في مدينة فوة على بعد 15 كيلومترا من دسوق يمكن أن يساعدوا وكان الرد بالإيجاب. تم الاتفاق على أنه عند وصول القطار إلى دسوق فإنهم لن يهبطوا منه وإنما سيواصلون السفر إلى "فوة" في القطار نفسه. قال لهم أبي إنه سوف يذهب إلى المركز ويقول إنهم هربوا منه عند نزولهم من القطار في محطة دسوق.
جادلوه بشأن ما سوف يحل به من عقاب لكنهم في النهاية وافقوا معه على أن هذا هو الحل الوحيد إن كان للصفقة أن تتم. جرى الاتفاق أيضا على أن الثلاثة سوف يظلون في "فوة" حتى يوم جلسة المزاد لكنهم سوف يرسلون رسولا إلى "الناس" في الصافية إذا نجحوا في الحصول على باقي المبلغ. تم الاتفاق أيضا على أنه في يوم الجلسة سوف يذهب وفد من أهل القرية للقاء الثلاثة عند حضورهم إلى دسوق وأخذ المبلغ منهم، تحسبا للقبض عليهم قبل حضورهم الجلسة.
ذهب أبي إلى المركز وقال إن المطلوبين الثلاثة هربوا منه في المحطة. كان يعرف ما سوف يحدث له. عقد له مجلس للمحاكمة وحكم عليه بالسجن شهرا و15 جلدة، وطبعا بالفصل من وظيفته كشيخ للخفراء.
لم يكن وصول رسول من "فوة" بأن المبلغ قد تم تدبيره يعني نهاية المطاف وقرب تحقيق الحلم بالنسبة للناس في الصافية. ذلك أن إحدى أرامل القرية التي كانت قد عبرت منذ أيام إلى الضفة الأخرى من النهر للحصول على قرض من بعض أقاربها لم تكن قد عادت بعد. عدم وصولها بما تعهدت به وهو جنيهات قليلة كان يعنى انهيار الصفقة. بعض شباب القرية كانوا ينتظرون عودتها عند شاطئ النيل عند الغروب. عشية جلسة المزاد رنت زغرودة أطلقتها السيدة عند ملامستها الشط بأنها عادت منصورة، وهي زغرودة قابلتها صيحات وتهليل الشباب الذي دوى صداه في القرية بأن الحلم سوف يصبح حقيقة.
صبيحة جلسة المزاد سارت الأمور كما سعى ورتب لها أهل الصافية. انسحب أبو الفتوح من جلسة المزاد الذي رسا على أهل الصافية، وقاموا بعد ذلك بتوزيع الأرض على الذين أسهموا في تدبير مبلغ المزاد. لم يحضر أبي جلسة المزاد لأنه كان في الحجز في المركز انتظارا لتشكيل المجلس المختص بمحاكمته.
هذا بعض ما بقي في الذاكرة من ملحمة صفقة "الصافية".
هل نما إلى علم توفيق الحكيم ما حدث وبالتالي استقى منه مسرحية "الصفقة"؟ عديد من الشواهد يقول ذلك.
الحكيم ابن مدينة دمنهور التي تبعد عن دسوق 22 كيلومترا. الحكيم كان قد أنهى دراسة الحقوق أو أوشك عندما وقعت هذه الأحداث. للحكيم أقارب في دسوق كان يتردد عليهم. عمل الحكيم وكيلا للنيابة في دسوق بعد عودته من باريس عام 1930.
ما قامت به الصافية لم يكن عملا عاديا، بل إنه غير مسبوق في تاريخ القرى المصرية. ولا شك أن صداه تجاوز محيط الصافية ودسوق إلى أماكن أخرى كثيرة وكان حديث الناس ردحا طويلا من الزمن.
هل لا يزال هناك شك في الارتباط بين الصافية وبين صفقة توفيق الحكيم؟ لا أدري.
ما أعلمه أن ملحمة أهل الصافية ـ التي لو حدثت في مكان آخر لكانت حدثا تتناقله الركبان ومدعاة لاحتفال سنوي ـ قد طواها النسيان، ولم يعد أحد من أهل القرية الآن يتذكرها، بل لعل الكثيرين من شباب القرية لم يسمعوا بها.
حداني إلى كتابة هذه السطور، وأنا أخطو نحو عامي الثمانين، الخوف من أن تضيع إلى الأبد ملحمة سطرها فلاحون بسطاء، وأملٌ في أن يتمكن أحد أبناء القرية يوما ما من تأصيل ما حدث من خلال وثائق قد تكون لا تزال محفوظة في أرشيف وزارة الأوقاف، بعد مرور ما يقرب من قرن من الزمان على حدوثها.