الإثنين 25 نوفمبر 2024

مؤسسة ثقافية .. اسمها سمير فريد

  • 20-5-2017 | 13:12

طباعة

محمود عبد الشكور - كاتب مصري

أصابنى خبر رحيل سمير فريد، المثقف والناقد السينمائى الكبير، بصدمة مؤلمة، رغم معرفتى، مثل كثيرين، بخطورة مرضه اللعين، ورغم علمى بتدهور حالته قبل وفاته، مما استدعى نقله إلى المستشفى. كان شعورى المسيطر أننا فقدنا مؤسسة ثقافية بأكملها، فلم يكن ناقد أفلام وكفى، وكان إحساس بالفقد مضاعفا، لأنه جاء فى وقت نحتاج فيه، أكثر من أى وقت مضى، إلى قلمه، ومعاركه التنويرية، بل إلى الجدل مع شخص فى مثل سعة أفقه، وثقافته، وإيمانه بأن التنوع والاختلاف هو أصل الأشياء، وقانون الحياة، الذى لا سبيل لتغييره.

   مرّ أمامى شريط طويل من الذكريات المتشعبة حول فريد ومعه، فقد كان من أول الذين قرأت لهم، عندما كنت صبيا فى السبعينيات، وأنا أستكشف عالم السينما الساحر. كان فى قلب الصورة مع آخرين مثل سامى السلامونى ورؤوف توفيق ورفيق الصبان ومصطفى درويش. تميز فريد بمقالاته القصيرة، وبعباراته المكثفة والمحددة، لم يتابع الأفلام فحسب، ولكنه كان يتابع الظواهر السينمائية، مثل منع عرض فيلم ما لأسباب سياسية، ومثل ظاهرة نجومية عادل إمام, أتذكر أننى قرأت له فى مطلع الثمانينيات مقالا قصيرا عن إيرادات أفلام إمام ونجوميته، انطلق فريد ليتحدث عن مفهوم النجم فى السينما المصرية، يؤصله تاريخيا، ويرصده حاضرا، ويتنبأ بما سيكون مستقبلا.

   وعندما عرفت فى مرحلة لاحقة نشرات نادى السينما، كان سمير فريد هناك أيضا بمقالات مطولة تفصيلية من أفضل وأعمق ما قرأت فى نقد الأفلام. لم أتوقف تقريبا عن قراءة مقالاته أينما وجدتها، حصلت على كتبه القديمة التى كان ينشر فيها قراءته لأفلام مهرجانات حضرها، وجمعت بدأب أعداد إصداره المهم "السينما والتاريخ"، الذى تضمن مقالات مهمة للغاية، أتذكر منها مقال فريد نفسه عن علاقة أنور السادات بالسينما، وكانت الأعداد تتضمن نصوصا مهمة، وتكشف عن ميل ناشرها ورئيس تحريرها سمير فريد إلى التوثيق، وبحثت كثيرا عن جريدة "السينما والفنون" التى أصدرها فريد فى السبعينيات، ثم أغلقت، حتى وجدت بعض أعدادها أخيرا عند الصديق الناقد أمير العمرى، وسعدت كثيرا عندما أهدانى بعض هذه الأعداد.

   كان سمير فريد حاضرا أمامى كلما حضرت السينما، بل إنه كان حاضرا فى مطبوعات عربية اقتنيتها عن السينما، وبعض كتبه طبعت فى الدول العربية، وظل انطباعى الدائم، رغم اختلافى أحيانا معه حول قيمة هذا الفيلم أو ذاك، أن هذا الرجل مؤسسة حقيقية، لا يفتر جهده، ولا يجد مشكلة فى أن يفتح نوافذ جديدة، كلما اضطربت الأحوال فى بيته الأول جريدة "الجمهورية"، اسمه وحده صار عنوانا على الدراسة النقدية السينمائية الجادة، وعلى الاهتمام بالشأن الثقافى العام، وعندما قام بتنظيم أنشطة سينمائية فى دار الأوبرا، أو فى المجلس الأعلى للثقافة، كانت أيضا عنوانا على التميز، من الاهتمام بسينما المرأة، إلى أفلام السينما الأوروبية، بل إنه نظّم ذات مرة، أسبوعا لا ينسى فى المجلس الأعلى للثقافة عن أفلام مصرية وعالمية أثارت مشكلات رقابية، أتذكر من هذه الأفلام مثلا "راجلها" لأيتن أمين، و"المهنة امرأة" لهبة يسرى.

   كان حضور سمير فريد عميقا بحجم ثقافته ورؤيته، والجدير بالملاحظة أن تركه لجريدة "الجمهورية"، ووصوله إلى سن المعاش، لم يقلل من نشاطه، بل على العكس، فقد جعله أكثر حرية وانطلاقا، والمساحة الصغيرة التى تحمل عنوان "صوت وصورة" فى جريدة "المصري اليوم"، صارت منارة ثقافية يثير من خلالها قضايا مهمة، ويدافع فيها عن الفن والأدب والحياة. كنت قد بدأت كتابة نقدية سينمائية منتظمة فى جريدة "روزاليوسف" اليومية، وفاجأنى سمير فريد ذات مرة بكلمات عنى فى مقال له فى "المصرى اليوم"، ما زلت أعتبرها من أكبر الأوسمة التى حصلت عليها، وزاد تأثرى بكلماته لأننى كنت أشك وقتها أن أحدا يقرأ ما نكتب، وكنت أرى أننا نحرث فى البحر، وكان الأغرب أنه ساعتها لم يكن يعرفنى شخصيا، فلما تعارفنا بعد ذلك فى إحدى دورات مهرجات الصورة فى المركز الثقافى الفرنسى بالمنيرة، كرر تقريبا نفس عباراته المشجعة، واندهش لأنى لم أدخل بعد إلى عالم الكمبيوتر، وألح كثيرا على أن أدخل عالم النشر الإلكترونى، وأن أرسل إليه عناوينى البريدية، ولم يتوقف فيما بعد عن ترشيحى لمهرجانات ومناسبات سينمائية كثيرة، وهو نفس الموقف الذى فعله مع كل أبناء جيلى تقريبا، ظل سمير فريد يشجع ويدفع للأمام بأجيال جديدة، لعله كان يتذكر ما فعله معه الراحل فتحى غانم، الذى أرسله لتغطية مهرجان كان لأول مرة فى منتصف الستينيات من القرن العشرين.

   وبعد أن توقفت مقالاتى فى "روزاليوسف"، فوجئت باتصال من سمير فريد يسألنى عن سبب الاحتجاب، ويؤكد من جديد أنه يتابع ما أنشره، ثم يقول عبارات مشجعة عن ضرورة الاستمرار فى مكان آخر. هذه اللمسات التى كان ينشرها فريد فى كل مكان، منحته دور الأستاذ الحقيقى، كنا نشعر بالفخر لأننا نكتب نقدا فى زمن سمير فريد، الرجل الذى أصر على أن يكون ناقدا وليس محررا فنيا، ليس تقليلا من شأن محررى الفن، وإنما تحديدا للأدوار، لأن متابعة الأنشطة الفنية وتغطيتها، تختلف عن مهمة الناقد فى التحليل والتفكيك والحكم والاشتباك مع موضوعات الأفلام ومخرجيها وصناعها، ساهم فريد بجدارة فى ترسيخ هذا الفصل، كما رسّخ فكرة أن يكون اسم الناقد هو رأسماله مستقلا عن المكان الذى يكتب فيه، وكل أمور أساسية نجنى وتجنى ثمارها أجيال النقاد المتتالية.

المنهج والمراجعة

 لكن دور سمير فريد يتجاوز كثيرا ريادته فى مجال تغطية المهرجانات العالمية، وتأسيسه لجمعية نقاد السينما، ومساهمته فى مهرجان القاهرة السينمائى، وقد كنت شاهدا على آخر دورة ترأسها فى هذا المهرجان، فقد حرص قبل كل ذلك على ضبط المصطلحات والمفاهيم، وقدم تعريفات محددة لما يمكن أن يعتبر نقدا، وما يخرج عن دائرة النقد، وشدّد على أهمية أن يحدد الناقد منهجه فى القراءة والتحليل، وكأن ذلك بمثابة العقد بينه وبين قارئه، ثم أضاف أمرا فريدا وهو مراجعة الناقد لنفسه ولأفكاره، وهو أمر مدهش لأن فريد بدأ الكتابة فى زمن كانت فيه مراجعة الأيديولوجيات والأفكار السياسية دربا من الكفر، وفى كتاباته النقدية القديمة عن الأفلام، نلاحظ لديه تلك الحدة والصرامة القاطعة فى الحكم على أفلام مهمة، لقد اختار مثلا لمقاله عن فيلم "الزوجة الثانية " عنوانا هو "أيتها الواقعية كم من الجرائم ترتكب باسمك؟"، وكان رأيه سلبيا تماما فى الفيلم الذى أصبح من كلاسيكيات السينما المصرية، وكان له رأى سلبى فى بعض أعمال فاتن حمامة مثل "الخيط الرفيع" لأنه يعبر عن ثرثرة برجوازية، وعن رفاهية لا نملكها، فى وقت كان فريد يبشر فيها بسينما شابة مختلفة، ويشارك فى تأسيس جماعة السينما الجديدة.

   لم يتردد سمير فريد فى مراجعة أفكاره ومنهجه الذى يمنح الأيديولوجيا ومضمون الأفلام مكانة أكبر وأهم تسبق كل شىء، وكان شجاعا فى أن يقدم لقرائه منهجا جديدا له أفق إنسانى واسع للغاية، ويعطى للواقعية ضفافا أوسع وأعمق، ويستشهد دوما بمقولة سارتر المهمة "حرية الإبداع هى محصلة التقاء ثلاث حريات: حرية الفنان، وحرية الناقد، وحرية القارئ"، ثم ينطلق بالسينما إلى آفاق تتجاوز قيمتها كفن مهم ومؤثر، لتصبح عنوانا ونتاجا حضاريا معقدا، وظاهرة ثقافية وإنسانية خطيرة، يتوسع منهج سمير فريد لكى يجعل من ناقد الأفلام شاهدا على زمنه، ومسؤولا عن حماية الثقافة والتراث والتاريخ والحضارة، وجنديا فى معركة المعاصرة، وعينا تحتفى بالجمال أينما وجد، وفى أى مكان ظهر، ويخوض بالفعل معارك مشهودة محورها الدفاع عن حرية الفن والفنان، سواء فى مصر أو فى سوريا أو فى إيران، يتسع الاهتمام حتى يبدو العالم كله مثل شاشة سينما هائلة، وتتسع مسؤولية الناقد والمثقف، فلا يخذل عملا جيدا، مهما كانت إمكانياته، وظروف إنتاجه، ولا يكل أو يمل من المطالبة بحماية الذاكرة الوطنية والفنية، ولا يتردد فى المساهمة بأى دور فى نشر الفنون، بل إنه كان يرى أن وزارة الثقافة لا بد أن يكون اسمها "وزارة الفنون".

   هنا إضافات حقيقية لسمير فريد تتجاوز مناصبه، وهنا بصمة حقيقية لا تزول صنعها بقلمه فحسب، لدرجة أننا كنا ننتظر فى كل موقف ما سيكتبه سمير فريد، ليس شرطا أن نتفق معه، ولكننا نؤمن جميعا أن رأيه معتبر وجدير بالحوار. أكثر ما تعلمته من معرفتي به ومن قراءة أعماله هو أن النقد ليس وظيفة، ولكنه طريقة تفكير تتيح لك أن تحلل وتتأمل وتصنع موقفا ووجهة نظر، وهو ثمرة جهد شاق ومستمر فى الثقافة العامة والمتخصصة، وفى التفاعل مع الناس. النقد موقف من الحياة، ورؤية أعمق للذات والعالم، قبل أن يكون موقفا من الأفلام أو الأعمال الأدبية.

   آخر لقاءين لى مع فريد كانا فى مهرجان القاهرة السينمائي الأخيرة (2016) هرولت بعد حفل توقيع كتابى عن محمد خان إلى المجلس الأعلى للثقافة، لأشارك فى حفاوة عربية ومصرية غير مسبوقة بسمير فريد، وبكتابيه "سينما الربيع العربي"، و"أفلام المخرجات في السينما العربية"، وتهدج صوتى فى الميكروفون، وأنا أتكلم بحرارة عنه فى نهاية الندوة، تأثرا بعودة الأستاذ. وبعد عدة أيام، سيظهر مرة أخرى فى المهرجان ونلتقى معه وأصدقاء آخرين فى كافتيريا المجلس الأعلى للثقافة، وكان احتفالا جديدا بالأستاذ، الذى أحضر لنا نسخا موقعة بأسمائنا من كتابه عن "أفلام المخرجات في السينما العربية"، وأخذ الأستاذ يتحدث بحماس (رغم تعبه وإجهاده) عن حلمه وحلمنا بمتحف للسينما المصرية، ثم كان وداعٌ هو الوداع الأخير.

   ذلك الشاب الذى تخرج فى قسم النقد بمعهد الفنون المسرحية عام 1965 (سنة مولدى)، وتتلمذ على يد الدكتور محمد مندور، وكتب دراسة مهمة عن "دلالة لحظات الصمت فى مسرحية فى انتظار جودو لبيكيت"، ذلك الشاب الذى عشق السينما قرر أن يكون ناقدا يقرأ الصور والأطياف، ولم يتوقف يوما عن الكتابة أو القراءة أو الفرجة أو تأمل العالم والبشر، فصار شاهدا على زمنه وعصره، ومنحنا سعادة أن نعرفه وأن نناقشه، ثم ترك طوفانا من المقالات والأفكار، ورصيدا هائلا من الحب والثقة فى الإنسان صانع الحضارة، ظلت دوما فى كتاباته نوافذ للنور، وتأكيدا متكررا بأن إرادة الحياة ستفرض نفسها فى النهاية، وهو درس بعمق حياة ثرية، بدأت بميلاده فى ذروة الحرب العالمية الثانية، وانتهت بوفاته يوم الثلاثاء الرابع من أبريل 2017.

وداعا يا أستاذ، مع السلامة والمحبة.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة