الأربعاء 12 يونيو 2024

طلعت الشايب .. في ذكر ما جرى

20-5-2017 | 13:13

د. عيد صالح - شاعر مصري

  لن تصدقوا الحدث والمشهد وكل من بالقاعة مشدوه ومشدود بخيط سحري يحلق بنا في فضاءاته بأجنحة من نور، وهو يطوف بنا في سيرته الذاتية، وقد تلاشي بنا الزمان والمكان حقيقة لا مجازا. صدقوني كنا في بساطة نتشمم مكتبة أبيه ونتصفح عناوينها ونتملى في ملامح أبيه المعلم التنويري العظيم كسائر الكثيرين في قرانا والذين حملوا عبء انتشالها من الجهل والأمية في النصف الأول من القرن الماضي عروجا على المدرسة والجامعة وكلية المعلمين وأساتذتها العظام لبداية عمله بالتدريس في الإسكندرية لتلميذيه محمود عبد العزيز ومحمد وفيق لتجنيده ضابطا بالقوات المسلحة لتعلمه الترجمة من وإلى الروسية وعمله مع أشهر القادة الروس في حرب الاستنزاف لتطوير القوات المسلحة وبناء الجيش الذي انتصر في 1973 وأن نصر أكتوبر صنعه التدريب والتطوير والعلم والمؤهلات العليا التي حملت عبء هذا التطور النوعي في المواجهة الحاسمة والنصر الذي تحقق بيد جنودنا الشجعان... هيه   ثم ماذا يا سيدي ماذا تقول "أنا تعبان يا جماعة شوية".

    ولماذا الآن بالله عليك لا تتركنا هكذا ﻻ توقظنا من سحر اللحظة وجمالها الجميع مشدودون لنبرات صوتك العميق الهادئ الصادق المشحون؟ كانت كل خلايا روحك ودمك هي الصوت الذي يحملنا في جلال وخشوع وجمال لحظة تاريخية من عمر الزمان لن تتكرر. لا ﻻ نرجوك خذ بعض السكر عله يردك من الغفوة، لا تطل نرجوك فكلنا في مدارك الآن، ليتك تؤجلها لأننا مأخوذون في حوزتك يا قطبنا وملاكنا وطفلنا السماوي، أما تأخرت ساعة أو ساعتين؟ أما جئت في مواعيد سابقة حال القدر أن نلتقي فيها؟ أما من سبيل لإيقاف عجلة الزمن الهائلة ومطرقتها التي أيقظتنا بأن الأمر جد خطير وأن الروح قد صعدت في قمة حضورها وتألقها رغم قسوة الألم الرهيب.

...

  عرفت طلعت الشايب ككثيرين قبل أن ألتقيه من ترجماته التي كانت تحيل النص من سلاستها ودقتها وجمالها لنص عربي إلى أن تقابلنا في دمياط في بداية تسعينيات القرن العشرين، في احتفالية لتأبين عبد الفتاح الجمل من تلاميذه وكان على رأسهم يوسف القعيد وجمال الغيطاني الذي قدم لي الأستاذ طلعت الشايب كمسؤول عن الهوامش التي أبديت إعجابي بها في جريدة "أخبار الأدب" والتي كانت في بدايتها حدثا ثقافيا وأدبيا مهما. ومنذ لقائنا الأول تصادقنا ونشر لي كثيرا من القصائد الكثيرة في هوامش أخبار الأدب، وكان من أدبه وجمال روحه يؤكد لي أنه ينشر لي لا بسبب صداقتنا ولكن لإعجابه بنصوصي، ورغم لقاءاتنا القليلة في المؤتمرات الأدبية كان في كل مرة يحرص على إهدائي إحدى ترجماته وكنت أكتشف أحيانا أنه أهداني نفس الكتاب من قبل.

    ولأن الجغرافيا وطبيعة الحياة التي تحول بين تحقيق أشياء كثيرة كأن تلتقي من تحب وتسعد بمرافقته والاستفادة من رؤيته ورؤاه ويتعمق المشترك الإنساني والروحي بينكما في سعة من الوقت، الوقت سوط الزمن الذي يجلدنا بلا هوادة وينتزع منا أفراحنا الصغيرة الوقت الذي يقطع الأواصر ويهيل تراب الجفاء والنسيان الوقت الذي يأخذنا منا يدور بنا في طاحونة الحياة التي تدهس المشاعر وتسحق القلوب.

   ﻻ أريد أن أنكأ جرح الإقليمية التي حرمتنا من لقاء عشرات بل مئات من نحب. فقط ﻻ يجب تحت أي ظرف أن نؤجل لقاء أصدقائنا، وأن نتحين الفرص بل نقتنص الوقت لنعوض ما فاتنا للقاء من بقي من أصدقائنا بعد أن سرقنا الزمن واختطف أعمارنا في معترك حياة جافة قاحلة من حضور وبهجة الأصدقاء.

   وبعد

   فآه يا لوعة القلب حين تعجز أن توقف أو تؤخر الروح التي تتسحب أمامك وبين يديك في وداعة وإصرار.

  وكأنها جاءت فقط بعد غياب السنين لتودعنا في ابتسامة خجلى كما لو كانت تعتذر عن فراق موجع أليم.

فقط ﻻ أنسي ما حييت فرح طلعت الشايب بنا، في دمياط، وسعادته بجمعنا وبإصرارنا علي قهر الكآبة والحزن المقيم.

   جاء طلعت الشايب كالمعلمين العظام ليقول لنا عليكم بالحب لتقهروا الدمامة والغطرسة والأحقاد.

  تحية لروحك الشفافة الطاهرة، ولما قدمت من إنجاز خالد عظيم.