الأربعاء 19 يونيو 2024

ولد الدهشة أحمد دحبور

21-5-2017 | 11:05

زكريا محمد - شاعر فلسطيني

 شهد منتصف الستينيات، أو قبيل ذلك بقليل، نهوض جيل شعري فلسطيني جديد: محمود درويش، سميح القاسم، أحمد دحبور، عز الدين المناصرة، محمد القيسي، خالد أبو خالد، وآخرون. وقد ترافق نهوضه مع قيام منظمة التحرير الفلسطينية، التي ما إن أعادت صياغة ذاتها بعد هزيمة عام 1967، حتى عقدت حلفا مع هذا الجيل، الذي نطق باسمها وباسم مشروعها. انغمس هذا الجيل في المواجهة، بل حمل جزءا لا بأس به منهم السلاح في لحظات محددة.

   لعب هذا الجيل دورا حاسما في إعادة صياغة الهوية الفلسطينية الحديثة. لم يكن لعبه لعبا أدبيا فقط، بل كان لعبا أوسع من ذلك بكثير. وإذا كان درويش قد اعتبر لاحقا إنجيل هذا الجيل، فإن دحبور لم يكن هامشا صغيرا على هذا المتن الإنجيلي، بل إن كلماته تسللت وصارت جزءا من هذا المتن. كانت قصائده الأولى، التي بدا وكأنما ولدت فجأة وبلا مقدمات، عالما من الدهشة المكتملة الناضجة. كانت تتدفق مثل نهر برموزها وطينها ومياهها المتلاطمة. انتشرت هذه القصائد، وحفظها الناس في كل مكان: جمل المحامل، العودة إلى كربلاء، حكاية الولد الفلسطيني، إلخ. وكان دحبور ولدا بالفعل. ولدا من حيث العمر، وولدا مدهوشا ومندهشا باللغة والكون والثورة. تلقف الناس دهشته الطفولية هذه، وصاروا جزءا منها. بذا يمكن القول، ومن دون تردد، إن دحبور كان واحدا من الذين صاغوا وعي الفلسطينيين، وصاغوا أفقهم.

   لكن مسار دحبور الشعري اختلف عن مسار درويش. في بداياتهما لم يكن المرء يشعر بتفوق حاد لدرويش. كانا فرسي رهان متعادلين. لكن الذي حصل في ما بعد أن شعر دحبور أخذ يفقد (دهشته) وحدّته، ويغرق في الصياغة، في اللغة والعروض. أما محمود درويش فكان أكثر قدرة على الموازنة. من أجل هذا بدا وكأن شعر درويش يأخذ مسارا صاعدا، في حين أنك لا تستطيع أن تجد سلما صاعدا في شعر دحبور. فكرة الصعود لا يمكن العثور عليها جديا عند دحبور. هناك لغة تصبح أشد إتقانا، وهيمنة على الوزن والعروض تصبح أشد وضوحا ومهابة، لكنك لا تستطيع أن تصعد مع أحمد دحبور إلا نادرا. مع درويش أنت تتبع خطا صاعدا، وتجد أن عوالمه تتغير مع كل خطوة. أما مع دحبور فهناك مراوحة ما.

   لم اختلف المساران؟ لم فقد دحبور دهشة بداياته المبكرة، أو لمَ لمْ يطورها، بينما حافظ درويش على دهشته وطورها؟ لست أدري حقا. فقد كان دحبور قارئا مدهشا. كان لا يقرأ بلغة أخرى مثل درويش، لكنه كان قارئا مدهشا بالعربية. لم يكن يفلت شيء من بين يديه. وكان يكتب عما يقرؤه دوما. كان بيته أرشيفا كبيرا، وذاكرته العظيمة أرشيفا أكبر. مع ذلك، فإن ركودا ما حوم فوق شعره.

   وبشكل ما يمكن القول إن دحبور كان يقف في موقف وسط بين درويش وسميح القاسم. سميح القاسم كان واثقا بذاته وثوقا تاما، واثقا بشعره، منقطعا عن شعر الأجيال التي تليه. كان يحس أنه وصل إلى الحقيقة الشعرية، وأنه لا حاجة به أن يعثر على هذه الحقيقة في أشعار الآخرين. الآخرون لم يكونوا هناك. أما درويش فقد كان الآخرون تحت نافذته. كان يحس بتحديهم، بتحدي الأجيال الجديدة. لذا كان يقظا إلى حد مخيف. وكانت هذه في ما يبدو لي مأثرته. كان يتابع نتاجاتهم هؤلاء الآخرين بلا توقف. وقد تشكل لدي إحساس- أنا الذي عملت معه في مجلة "الكرمل" لأربع أو خمس سنوات- أنه لا يريد أن ينتهي إلى ما انتهى إليه سميح القاسم. لا أن يغرق في طبق عسله الخاص. كان الغرق في هذا العسل هو خوفه الكبير. لذا شغل أنتيناته في كل اتجاه كي تلتقط شعر الأجيال الجديدة. أما القاسم فقد أوقف أنتيناته عن العمل باكرا جدا. دحبور كان بين الاثنين. لم يكن يغفل عن مجموعة شعرية واحدة لشاعر شاب. لكن فكرة التحدي، فكرة القلق من القادمين الجدد، لم تكن تشغله. كان كريما مع الجميع، لكن اليقظة المتحدية لم تكن هناك.

   ثم ماذا؟ هل أردت أن أقول إنه يمكن اختصار أحمد دحبور ببدايته؟ بـ (جمل المحامل) و(حكاية الولد الفلسطيني)؟ ليس بالضبط، ليس بالضبط. لكن ليس بالعكس أيضا. فكرة الصعود بكثافتها لم تكن هناك. فكرة الجلوس على حرف السكين لم تكن هناك.

   على كل حال، فالبدايات تتحكم فينا جميعا. وبداية أحمد دحبور ونهايته هي الهوية، الهوية الجمعية لا الهوية الذاتية. نحن الآن مهووسون بالهوية الذاتية، لكن ربما لأن دحبور وجيله نجحا في تثبيت الهوية الجمعية. ترف الهوية الذاتية إذن ما كان ليحصل لولا أحمد دحبور ومحمود درويش وجيلهما، جيل (جمل المحامل)، الذي حمل عبئنا ومحملنا.

***

جمل المحامل

ويا جَمَل المحاملِ: دربنا شوكُ

وليس بغير ضرسكَ يُطحن الشوكُ

ويا جمل المحامل: دربنا رملٌ

 وأنت المبحر العدّاءْ

تهجيّناك في كتب القراءة في طفولتنا،

فكنت سفينة الصحراءْ

ويوم على شفير اليأس كنّا جئتَ تصطكُّ

كما الأطفال، من وجع الولادةِ

من نشاف الريق جئتَ

ومن هوى الفقراءْ

فيا جمل المحامل: سرْ بنا، وبإذن حُبّ الأرض لن نشكو

سيسقط بعضنا والشوك محتشدٌ

سيُحرق بعضنا والشمس حاميةٌ

سيُقتل بعضنا والموت رمح في عُباب الدرب منشكُّ

أجل، وبإذن حبّ الأرض لن نشكو

ولكنا متى حان الوصول وعرّشَتْ حيفا على الأجفانْ

سنُحضر جوعنا الدهريّ للدمع الحبيس

 ونُفلت الأحزانْ

فيا جمل المحامل سِرْ بنا

ومتى وصلنا، قل لنا: ابكوا".