الأحد 16 يونيو 2024

مجانية التعليم .. حرب تتجدد

21-5-2017 | 11:07

صلاح زبادي

«التعليم حق كالماء والهواء» قالها طه حسين منذ عقود قاصدا امتلاك أفراد أمته لوسيلة الاطلاع على المعارف والعلوم وإسعادهم بالانفتاح على حضارات وثقافات حجبها عنهم الجهل الذي خيم بظلامه عليهم ومنع نور المعرفة والتقدم أن يصلهم حتى كان الانحطاط في كل شيء.

تبنى العميد فكرة وحارب من أجلها حتى يصل إلى ما هدف إليه من تعميم التعليم على كل الطبقات عن طريق مجانيته وبذلك يكون بالفعل كالماء والهواء، دخل إلى ساحة التعليم على أثر هذه الفكرة كثير من أبناء الطبقات التى لم تكن تعرف طريقاً إلى أى بوابة من بوابات التعليم وتدرج بعضهم فى السلم حتى وصل إلى قاعات الدرس فى الجامعات. نجحت الفكرة التى كان وراءها من أرادوا للتعليم أن يصبح سلاحا لأمة عانت ويلات الغزو الاستعمارى والفكرى بكل طرقه ديناً وسياسة واقتصادا، ساعد الغازى على ذلك الأمية التى جعلت كثيرا من الطبقات لا تعرف أين حقوقها وكيف يحارب عدو بيده وسائل التفوق فى الحرب والفكر.

كلمة السر فى تحقيق هدف العميد ومن معه من المنادين بأحقية أبناء الأمة فى التعليم كانت المجانية ولم يكن إقرار هذه المجانية بالأمر اليسير لكنها حرب ذهبت غنيمتها إلى أجيال متعاقبة مختلفة الطبقات.

تلقى أبناء الحقول والمناطق الشعبية آنذاك تعليما تنفق عليه الدولة فالمدارس - حينئذ - هى المكان الأوحد لمن قصد التعليم ومدرس الفصل هو مسئول البناء فى المراحل المختلفة، استمر وضع التعليم يعتمد على الكتاب المدرسى ومدرس الفصل بعيدا عن إدخال الأسرة فى معترك يفترض أنهم لا صلة لهم به حتى ثمانينيات القرن العشرين.

لم يخطر على قلب طه حسين ومن معه أن ما اكتسبوه لصالح أبناء أمتهم ستدور به الدائرة ويرجع شبيها بما كان عليه من قبل.

فى ذيل سبعينيات القرن العشرين عرف كابوس الثانوية العامة طريقه إلى بيوت طلبة المدارس الثانوية فاضطرب جو أسر هؤلاء ناهيك عن تضخم حجم هذا الجبل فى أعين الدارسين، حينها دخل معلمو هذه المرحلة ساحة التعليم خارج أسوار المدارس فكان العراك الذى بدت بوادره بينهم وبين أولياء الأمور والذى تبلور عاما بعد عام حتى بات من المسلمات التى لا معنى لإنكارها أو مجرد الجدال فى مشروعيته من عدمه.

لم يتوقف أمر هذا المرض الذى أصاب مرحلة ما قبل الجامعة عند ذلك، فبعد أن وصلت عدوى الثانوية العامة إلى القرى التى لم تكن تعرف طريقاً للتعليم إلا مدارس الدولة انتشر هذا الوباء ليصل إلى مرحلتى التعليم الأساسى لتشتعل معركة المعلمين مع أولياء الأمور الذين كانوا قد استسلموا مضطرين من قبل إلى شبح الثانوية العامة، ودخلوا عراكاً جديداً فى كل درجة فى سلم التعليم.

أصبح مناخ التعليم بالنسبة للطلبة وذويهم مهيأ لانتشار التعليم الخاص الذى كان موجودا قبل هذا على استحياء ولطبقات محدودة جدا، فعرف الشعبيون والقرويون طريق التعامل مع المدارس الخاصة وهنا دخلت مستويات التعليم كاملة حظيرة البيزنس ولا عزاء للفقراء.

ليت الدكتور طه حسين ومن حملوا الفكرة من مجايليه أو حتى من لاحقيهم وضعوا ضوابط تحافظ على نضارة التعليم الإلزامى الذى تمتع به من التحق بالمدارس فترة مهده قبل أن تلوثه أيد زجت به فى غياهب التجارة، ليتهم تنبهوا إلى أن مجانية التعليم ليست فقط فى إنشاء المدارس وانتشارها فى كل صقيع، أو فى دخول أبناء الشعب جميعا إلى ساحة العلم عبر مدارس تملكها الدولة دون مصروفات للملتحقين، وإنما أيضا فى العناية بمقومات العملية التعليمية ويأتى فى الصدارة منها «المعلم» الذى يعد أقوى سواعد هذه العملية دون شك أو جدال، فقد دأبت الأنظمة والحكومات المتعاقبة على إهانة المدرس ماديا ومعنويا حتى بات من أفقر طبقات الكادحين وبالتالى انعكس ذلك على شخصه فرأى نفسه أقل من آخرين فى المجتمع وهو صانع الأجيال وحامل أشرف رسالة، الذى من المفترض أن يكون من أولى الفئات اهتماما ورعاية من كل جانب حتى يتجه فكره إلى تطوير مهنته وصقلها بكل جديد ويصبح شغله الشاغل من دخلوا وعاء مسئوليته وأمانته وسيكون جزءاً من تكوينهم العلمى والعقلى والفكرى، إن المدرس منذ ما يربو على ثلاثة عقود بات عرضة للإتجار بمادته العلمية فكان أن ظهرت أنواع عديدة من أشكال التدريس خارج المدرسة بدءا بما عرف حينها بفصول التقوية وانتهاء بما يعرف فى وقتنا الحالى بالدروس الخصوصية.

 أقبل المعلمون على هذه الأساليب مضطرين فعلى غير العادة فى دول عديدة جعلت دخول المعلمين فى مصر من أدنى وأحط الدخول فى فئات الشعب فماذا ينتظر المجتمع من المعلم  على هذه الحال؟ وماذا عليه أن يفعل  هو غير البحث عن ما تتطلبه ضرورات معيشته؟ ، بذلك صار التكسب من تلقين العلم أمرا طبيعيا ودخل التعليم طوعاً أو كرها" حظيرة البيزنس" وانعكس هذا على أداء المدرسة مما أدى إلى نفور قطاع عريض من الناس من مدارس الدولة لتفتح الطرق المؤدية إلى التعليم الخاص أبوابها ويخرج الكثير من الدارسين عن مظلة المجانية مكرهين حاميلن أعباء كانت قد وضعت عنهم  منذ عقود خلت ، فأين الآن من ينادي " ولوا وجوهكم قبل التعليم الحكومي " شريطة أن يضمن تعافيه مما أصابه طيلة ثلاثة عقود مضت .