الأحد 16 يونيو 2024

ولادة الذكريات في رواية "غنا المجاذيب"

21-5-2017 | 11:13

مجدي عثمان - ناقد وفنان تشكيلي مصري

لأنها مجنونة أو هكذا يقولون، تصنع كل الأشياء في الوقت ذاته.. ناس كثيرون يقفون مكتوفي الأيدي، يتأففون من طول الانتظار، الطوابير تملأ الشوارع.. هناك حيث جورج أبيض أراد أن يبني قصرا ومسرحا، ليس بشارع الملك.

   السيدة التي لا تنجب، كانت سنية أول منْ نادى على سنية "يا مجنونة"، وسنية تلك تطرد رائحة النوم من شقتنا من شباك خشبي، يُدخل بدوره نورا آتيا من حارة عزيز متى، اعتدنا أن نأكل من القربان الآتي من الكنيسة كل أحد.. "نون والقلم وما يسطرون".. ماتت الجدة يوم جاءها نعش الابنة "العمة".

   السيدة التي لا تنجب ـ يا له من اسم طويل! حيث تصبح الصفة اسما ـ تضعها وسط الكومبارس، فلم يكن لها دور يُذكر، هى ذات العيون السود التي تنكسر عند بطن أمها، ذلك البطن الذي كانت الرغبة إلى انتفاخه شديدة حتى ولو كان ما حول البطن هواء، يعطي هذا الانطباع الجيد.

 

   حتى الزوج كان "زوج التي لا تنجب" ثم أحمد الذي لا ينجب.. مات محمد، ومات أحمد، المفتشة، العمة، الجدة.. ما أكثر الموت في حياتها، حتى تسأل النفس هل هو سعيد بهذا الأمر أم أنه – الموت – يؤدي عمله فقط؟ تقول الأخت الكبرى: الموت هو أن يغمض الواحد عينيه هكذا، ويميل برأسه ولا يتكلم.

   بجوار الجامع المطل على شارع الدويدار، تكمل كلامها الهادئ مع الشخوص الذين تراهم وحدها!! (الثانية) مجال حركتها من أول علي شعراوي عند استوديو جلال تعبر شارع الملك وصولا للكنيسة الصغرى وسط شارع الجراج.. لدينا هنا مجاذيب.. (الثالث) يهيم مثل شجرة سوداء في شارع محمد فرج ولا يخرج منه.. يوجد هنا مجاذيب، دائما عيونهم تبرق وحتى في صمتهم يغنون، هل للمجاذيب غناء؟ نعم "غنا المجاذيب" رواية منال السيد التي أصدرتها الدار المصرية اللبنانية، في جمع صورة من حنين جارف إلى الماضي، فيطغي على عملها ذلك العالم الذي يفتقده المرء في طفولته، زمن البراءة والاستسلام، تتداعى الذكريات من جديد في نظام لاعقلاني، أشكال شخوص مقلوبة غير خاضعة للمنطق، أشياء عادية المنظر باقترانات غير عادية، بين مشهد سينمائي وواقع حقيقي يتجاوز اليومي المألوف إلى حالة شبه ما فوق الواقعية. "أنا جسد عمتي الميتة، مثل تمثال تغلي فيه الحياة".

   "منال السيد" تُعامل بقايا الذكرى بحنان شديد يجمع بين المتناقضين الحلم والحقيقة كنوع من الحقيقة العليا أو المطلقة، إنها الكتابة التلقائية النفسية الخالصة، بمعزل عن سيطرة العقل في ترتيب الحدث، لقد وضعت العقل المُخزن للذكريات في خدمة اللاعقل للسرد، في انحياز ضد الكلاسيكية، حيث تهدم البنية الكلاسيكية من داخلها في لغة ليست مثقلة بالمحسنات البديعة ليكون السؤال: ما الحدث الرئيس بالفعل؟ بعد إعادة تشكيل الأحداث الواقعية لتصبح جانبية بوصفها واقعية خارج المشهد، انطلاقا من عدم التركيز على نقطة للبداية، والخروج من أسر الشخصية "المحور"، فلا يمكننا أن نطلق عليها تنظيرا غير "لا رواية " ذلك المفهوم الحديث على إبداعنا العربي، فالسبق إليه في الأدب الفرنسي منذ أوائل القرن العشرين تحت مسمى "الرواية الضد" مع اختلاف التناول والمحتوى – وهذا لا يعيب هذا العمل أبدا – حيث "منال" تحمل لك أكثر من صوت وصراع للفكرة في خطوط متوازية لا ترتبط بمركز محدد غير الراوي نفسه، في لغة تتفق مع الحياة البسيطة التي عاشتها، ليست لغة الكتب على الدوام، وإنما هى للغة الحياة، حين حولت ملامح وخصائص الأمكنة إلى أشخاص لهم رائحة الزمن، من أحلام الماضي لتقول لنا "الآن الوقت الصحيح توقف".

   منال السيد في "غنا المجاذيب" لا تعتمد التقليدي، وإنما تُجرب على شخوص لا يتجاوز عددهم 20 وأماكن لا تتجاوز العشرة بين الحدائق والتل الكبير، حتى مقاطعها تتحرك سطور قليلة، لا تعتمل النهج المشهور للرواية القائم على أساس الحبكة الدرامية ذات البداية والنهاية المعتمدة على الشخصية أو الحدث محورا، فهذا غير جائز هنا، حينما تُقدم إليك دور الوجدان الذي يحتفظ بالذكريات المحببة أو غير المحببة، دون التأكيد على عامل المنطق في الحكي مع تضمين أحكامها الخاصة التي مصدرها العقل رغم ذلك.. وهى بهذا لا تبعد مطلقا عن الواقع، فالحياة على حقيقتها لا تعتمد تلك الحبكة الجديرة سابقا بالاهتمام، فالحياة على مستوى أوقاتها يكون لكل يوم فيها حالة محددة وموصفة لذاتها، إلى أن ترحل تلك الحياة مع صاحبها، وتجد "منال" هنا البديل يأتي من الوحدة الشعورية لعام الرواية، فلا وجود لأحداث متعاقبة أو شخصية ممتدة غير تلك التي تجعل منها بطلا، ليس بالمعنى التقليدي، وإنما بتقديمه إلى أول الصفوف على الشاشة بعيدا عن تهميش المجاميع.

   إنها تنقلك من الحالة النفسية للمشهد إلى الجو العام والعكس، ليس إقرارا بالهزيمة أو اعترافا بالمقدرة الفريدة لتلك الحالة، وإنما هو سرد للذكرى الذاتية حيث الحنين اللانهائي، والاستعارات البصرية مقصودة الإرباك، فنستطيع أن نطلق عليها "الذكريات الشنيعة المباركة".

   تحمل "منال السيد" الخلود في صفحة ماضيها، في شباك خشبي، في كوة أعلى السرير، في رائحة زيت مقدوح وصابون للغسيل، في فتحة صدر سيدة، وضفيرتي جدة تصارعها الجنية على شاطئ ترعة ساذجة. وما أكثر التذكر لديها بـ "مثوى الأموات" هل لمعرفتها بأننا بلاد لا تقول الحق إلا لحظة الموت؟! إن ذلك الاحتواء الرمزي لذكريات الموت يجعلك تكاد تلمس رسول الموت وشكل الحب معا، في مزيج من العذاب والأمل بالتعاقب، فهى تُعيد تفسير الماضي القديم بصيغة لا زمنية في مشهد كل ما فيه ثانوي إلا الإنساني، ورغم ذلك تُصر على نقل الذاكرة بواقعها البريء لتؤلف في مجموع الصور المختلفة تأملات في طبيعة الوجود حيث يمتزج الماضي بالحاضر، فنجد إلى جانب التضمينات النفسية ذات الخصائص الشكلية التي لها العمق نفسه والحذاقة ذاتها، عوالم أخرى مكتفية بذاتها، تغرينا على الدخول إليها واستكشافها مستمتعين بغوامضها العجيبة، ومسالكها المألوفة، ومع ذلك كله فهى تنأى عنه إلى مصاف أكثر روحانية إجمالا، مستغلة لغة لا مشقة فيها - كما ذكرنا – حتى أنك تؤكد أن المشهد العادي ينبغي ألا يخفي حقيقة واقعة هى أنها – منال– محاطة بعنصر هو جزء ما من طبيعتها..

"بنتك دي يا سنية؟

يا ريت؟

هل سنية المجنونة أيضا لا تنجب كمن وسمتها بالجنان مضاف اسما.. كيف هذا؟! وقد مات زوجها وهى حامل في مدحت الصغير؟

حتى لو أخرجتم زوجة أحمد الذي لا ينجب فلن أستطيع أن أُكمل!

يا رب لماذا كثر الذين يحزنونني؟

كثيرون قاموا علي، كثيرون يقولون لنفسي ليس لها خلاص... فأنت يا رب هو ناصري.. مجدي ورافع رأسي، بصوتي إلى الرب صرخت، فاستجاب لي من جبل قدسه".