بمجرد أن مات الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، انفجرت وقبل دفنه بساعات، آلاف الأسئلة الشائكة المغلقة المعلقة حول حكايات ملايين الدولارات التي زعم بعضهم أنه وضعها في سرية تامة في حساباته الخاصة في بنوك سويسرا، وكيف كان يعيش هو وأسرته في بذخ وإسراف لا حدود له؟
وحول حقيقة تلك الأسئلة الملغمة أكد لي السيد محمد أحمد، خلال الساعة الكاملة التي استغرقها لقائي الوحيد واليتيم معه في شقته بجاردن سيتي، أن كل الاتهامات التي وجهت إلى الرئيس عبد الناصر في ذمته المالية كانت اتهامات ساذجة وعبيطة.. فأنا كنت كسكرتير خاص أقبض مرتبه، وأنفق منه على المنزل، وأخصص جزءًا منه لوالده كما طلب مني، وكانت مصاريف المقر ( بيت منشية البكري الذى كان يمارس منه اختصاصاته كرئيس للجمهورية ) لا تزيد على 500 جنيه في الشهر تأتي من رئاسة الجمهورية، لقد كانت هناك تبرعات كثيرة تصل إلى الرئيس، بعضها يصل إلى الرئيس مباشرة، ومن حصيلة هذه التبرعات أقيم المسجد الذي بُنى له ضريح بجواره في كوبري القبة، وأنشئ معهد ناصر لبحوث وعلاج مرضي السكر.
قلت للسيد محمد أحمد: من فضلك حدثني بصراحة عن تفاصيل حياة الرئيس في بيته.. وكيف كان يتصرف كرجل صعيدي؟ قال: لقد كان الرئيس عبد الناصر في بيته رجلا" شرقيًا" تضرب أصوله بعمق في جذور جنوب مصر، فالسيدة تحية كاظم زوجته لم تعرفها الجماهير إلا في آواخر خمسينيات القرن الماضى، عندما جاء الرئيس اليوغسلافى تيتو إلى القاهرة ومعه زوجته، وكان لا بد أن تكون السيدة تحية في صحبة زوجها عند استقبال الرئيس الضيف، ولكن ربما لا يعلم الكثيرون أنه كانت هناك تعليمات واضحة ومكتوبة تصدر لرئاسة التلفزيون بعدم إظهار
صورة حرم الرئيس وأن يتم تجنب تصويرها إذا تصادف ودعت الظروف أن تحضر مع الرئيس أى احتفالات
فى ذلك اللقاء اليتيم، قال لي الرجل الذي عمل مع الزعيم الخالد كظله: لم تكن حياة عبد الناصر العائلية مختلفة عن حياة مئات البسطاء من أبناء الشعب، باستثناء أنه حرص تماما على أن يكون بعيدا عن أي كلام أو شائعات، وساعده على ذلك مسؤولياته الكبرى التي غرق فيها.
روي لي سكرتير عبد الناصر واقعة حدثت في السنوات الأولى للثورة كان طرفها والد الرئيس شخصيا، فقال :ذات مرة جاء واحد من أصحاب شركات النقل الخاصة في الصعيد ليضع والد جمال عبد الناصر عضوا بمجلس إدارة الشركة، وبالطبع لم يكن والد الرئيس خبيرًا في شئون النقل، لكنها كانت محاولة مفضوحة للاستغلال عن طريق اسم والد الرئيس، وعندما سمع الرئيس عبد الناصر بتلك الواقعة رفض بشدة، ولم يعين والده، رغم أنه كان فخورا به يقدره ويقدسه ويحترمه.
وكشف لي السيد محمد أحمد واقعة أخرى جرت مع أحد أفراد عائلة الرئيس قائلا : كان للرئيس عبد الناصر عم يدعى خليل، وكان له تاريخ وطني مشرف، فقد كان ضمن الثوار في عام 1919، حيث جرى اعتقاله ليمضي في السجن فترة طويلة، وقد كان هذا العم هو الذي خطب له السيدة تحية كاظم، ولذا كان الرئيس يقول عنه ويكرر أنه صاحب أفضال عليه، وقد حدث ذات يوم أن سمع الرئيس أن عمه قد حصل على ساعة ذهبية هدية من أحد الأشخاص المشبوهين، وأن علاقته بهذا الشخص قد توطدت إلى حد هدايا ذهبية وغيرها، ، فما كان منه إلا أن أمر بتفتيش منزل عمه، وعندما ذهب رجال المباحث العامة بقيادة اللواء حسن طلعت لم يجدوا عمه ولم يعثروا في منزله علي أى شئ باستثناء عباءة متواضعة، فما كان من الرئيس إلا أن أمر باعتقال عمه، وبعد فترة أمر أفرج عنه واستقبله وسأله :
- هل الشربيني صديقك؟
- لا
- أماّل بتقعد معاه ليه.. ده بيحاول يصادقك ويلتقط صورا معك لأنك عم جمال عبد الناصر.
حكاية ثالثة لا يعرفها أحد رواها لي السيد محمد أحمد عن تفاصيل أزمة عائلية خطيرة حدثت بين الرئيس جمال ووالده: لقد حدثت تلك الأزمة أمامي، وقد صرخ والده في وجهه وأقسم أنه لن يدخل بيته مرة ثانية.. لماذا؟ لأن الرئيس رفض أن يدخل أخاه الكلية الحربية وكان سنه يزيد 12 يوما فقط عن السن المحدد للقبول، وقد شاهدت الرئيس جمال بكل شموخه وعظمته وهو يستقبل صراخ والده وتعنيفه له دون أن يفتح فمه ..لقد كان الزعيم الخالد بارًا جدًا بوالده.
جري هذا اللقاء الوحيد في عام 1998 مع الرجل الذى كان عبد الناصر يثق فيه تمام الثقة، حيث كان ينقل للرئيس بأمانة كاملة - كما روى لي ذات يوم السيد ضياء الدين داود رئيس الحزب العربي الناصرى- صورة دقيقة حول أي موقف، كان ينقلها بطريقة تختلف تماما عما هو شائع ومعروف وحادث من الطرق والأساليب التي تلجأ إليها حاشية الرئيس أي رئيس.
كان أبرز ما قاله لي السيد محمد أحمد: عندما علم الرئيس بأن موسكو سوف ترسل إلى القاهرة دكتور شازوف أكبر طبيب سوفيتي في أمراض القلب والسكر، كان تعليقه اللافت: طيب والمصريين العيانين بالسكر يعملوا إيه، هنجيب لهم شازوف إزاي ؟ وأمر على الفور قبل رحيله بشهور بأن يتم بناء معهد ضخم أطلق عليه معهد ناصر لبحوث وعلاج السكر.
وبالمناسبة فإن العبد لله قام بحملة صحفية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أي بعد قرابة 15 عاماً علي رحيل الزعيم، كان عنوانها : إذا كان اسم ناصر هو الذى يعوق ويعرقل خطوات اكتمال بناء هذا المبني الذي يبدو للناس كالأشباح فانزعوا منه فورأ اسم ناصر .!
لقد كان هذا هو اللقاء الوحيد الذي جمعني مع السكرتير الخاص للزعم الخالد، وصدقًا أشعر بندم عميق أنني ضيعت بيدي فرصة كانت ممكنة لمعرفة كل ما كان يمتلكه هذا الرجل من أسرار وقصص وحكايات وذكريات، عرفها بكل دقة وتفصيل بحكم اقترابه اللصيق والطويل بالزعيم الخالد عبد الناصر.
لقد مات السيد محمد أحمد (81 عاما) في الثامن من أغسطس 2002، وليس العاشر من أغسطس كما صحح لي نجله الوحيد جمال محمد أحمد (لاحظ اسم الابن ).
ولا أخفيكم أنني شخصيا شعرت بامتنان شديد في هذا اللقاء عندما قال لي السيد محمد أحمد: ما زلت أتذكر تلك الحملة الصحفية المكثفة التي شنتها مجلة المصور علي صفحاتها علي مدار عدة أسابيع ، عندما كنت رئيساً لمجلس إدارة معهد ناصر للبحوث والعلاج.
وقام السيد محمد أحمد بفتح أحد الملفات الخاصة بمعهد ناصر ليقول فجأة: ياه..ده أنت اللي عملت هذه الحملة.. مش كنت تقول كده من الأول.. إحنا لازم نقعد تاني.. بس خلينا نخلص الأول من بعض الفحوصات الطبية التي سأجريها خلال الأيام القادمة.. وللأسف دخل السكرتير الخاص لعبد الناصر في دوامة المرض وخاض معه صراعا طويلاً، طال واستطال لأربع سنوات، حتى جاءت لحظة نهاية رحلته في الحياة في مثل هذه الأيام منذ 19 عاماً !