الخميس 30 مايو 2024

سركون بولص واغترابه في مكانه الأول

22-5-2017 | 13:34

رضا عطية - ناقد مصري

سركون بولص أحد أبرز شعراء قصيدة النثر العراقيين والعرب، مثّل شعره أيقونة تعبيرية عن المعاناة العراقية خصوصا في ستينيات القرن العشرين، تناول في شعره معاناة الذات في العراق، المكان الأول، الموطن، قبل رحيله عنه، كمعاناة الأب من عسر العيش وضيق سبل الرزق، لكنّ معاناة الأب تتجاوز ذلك إلى وقوعه فريسة للانتهاك والقمع، كما في قصيدة "طفل تحت جدار":

الطفل يؤرجحُ غُصنا

من أغصان التوت لقاء حواجبه

في كسلٍ بالقربِ من التنّور، ويدفنُ أحيانا

في أوراقهِ عينيهِ

أضعف من أن يتحمل أعينهم

هذا الجمع من الجيرانِ على الأسوار

كمجموعة من غربانٍ، أوسمةَ الشرطة..

وأبوهُ

في بيجامتهِ

في الباحة، يُجلَدُ بالكرْباج.

تؤسس الصياغة الشعرية مشهدا تصويريا مشبعا بظلال نفسية، حيث تدور حركة الكاميرا مبتدئة بنقل رد الفعل والحدث التابع (ما يفعله الطفل) الذي يكون بمثابة معلول/ نتيجة ثم يُختتم المشهد بالحدث المركزي/ العلة (جلد الأب). وبمعاينة حركة الطفل بأرجحته غصنا من أغصان التوت يبدو علامات القلق والتوتر وما يقوم به الطفل من حيلة تشاغلية هربا من صدمة مرأى الأب وهو يُجلد بالكرباج، أما استعارة كـ(يدفنُ أحيانا في أوراقه [التوت] عينيه) فتشي بالموات النفسي للطفل الذي لا يقوى على مواجهة أعين المتابعين لجلد أبيه وإهانته.

وبإعمال القراءة السيميولوجية لبعض مفردات المشهد تتبدى لنا دلالاته العميقة؛ فتموضع جمع من الجيران على الأسوار واكتفاؤهم بمتابعة جلد الأب/ الجار بالأعين، بفعل المشاهدة دونما فعل تضامني معه يعكس عجز هذا الجمع أما الأسوار فترمز لحالة القيد التي سادت المجتمع العراقي في ذلك الوقت الذي استحال سجنا واسعا لأفراده وجماعاته، وهو ما يبدو أيضا من عنوان القصيدة "طفل تحت جدار" الذي يبرز تمركز "الطفل" بما يعنيه من معاني البراءة والرقة وبساطة التجربة تحت جدار الانكسار النفسي وعدم القدرة على مواجهة الآخر ومشاهدة أبيه مقموعا مهانا، فهي تجربة أكبر من احتماله. أما اكتفاء الكاميرا بأن تضيق (Zoom in) لتبرز أوسمةَ الشرطة دون أجساد أفراد الشرطة أو وجوههم يدل على أن هذا الأسلوب القمعي هو مسلك أجهزة الأمن- في العراق وقتئذ- فلا يهم وجوه من يقومون بجلد المواطن، كما تفجر تلك الأوسمة التي تبرزها الكاميرا نوعا من المفارقة، وكأن رجال الشرطة يُكافئون على قمعهم المواطن بالحصول على أوسمة تقدير، أما البيجامة التي يرتديها الأب وهو يُجلد، فتدل على انتزاع الشرطة المواطن من بيته وتنفيذ عقوبة غليظة فيه (الجلد) دونما محاكمة ما يعكس غياب القانون والبطش بالمواطن وانتهاك كرامته.

ولئن كان المثقف أعمق وعيا وأشد حساسية لما يكتنف مجتمعه من ظواهر وما يداهم وطنه من أخطار فإن الشاعر يرصد التمييز الفئوي الذي تُعمله السلطة وموقفها من المثقف لاسيما بعد ثورة يوليو تموز 1958 بالعراق كما في قصيدة "حانة الكلب":

 وجدتُ نفسي نائما

في حانة السلحفاة والأرنب

في حانة الكلب والثعلب ورجل الأعمال

في حانة الخلد والفراشة والعظاءة والقرد

بجانبي مقامرٌ نائمٌ

تتدلى ذراعه من الكرسي

وفي يده ملكة دينارية وجوكر.

أطباء ملتحون، حلاقون وعارضات أزياء

أساتذة وتجار ماشية وتجار أسلحة ومهندسون

يدللهمُ الحاكم والنائب والله

وتحرسهم الدولة بالمدافع

بحياة آلاف الشعراء والعاطلين إذا اقتضى الأمر

يتقاضون أجورا عالية لن أطالها حتى

في أكثر أحلامي تفاؤلا

في عطلةٍ رخيَةٍ على المحيط الهادي تحت القمر الغربي.

لماذا وجد الشاعر نفسه نائما في حانة السلحفاة؟ هل يتماهى الشاعر مع السلحفاة؟ السلحفاة كائن ثقيل الحركة وشديد البطء، عاجز عن ملاحقة دونه من الكائنات، أما الحانة فهي مكان احتساء الخمور، والخمر مغيب للوعي، ولكن لماذا يلجأ الشاعر/ السلحفاة إلى الحانة/ تناول الخمور وتغيب الوعي؟ هل هو يهرب من واقع قاسٍ لا يقوى على مواجهته؟ ثم ما علاقة الشاعر والسلحفاة بوجود الأرنب في حانة الكلب والثعلب؟ هل يتماهى الشاعر مع الأرنب بعد أن تماهى مع السلحفاة؟ هل يقول الشاعر لنا إنّه إن حاول التخلص من مصير "السلحفاة" وأسرع السعي فسيكون كالأرنب نهبا لافتراس الذئب والثعلب؟ ثمة إذن تراكب قناعي وإبدلات في الصور في شعر سركون بولص الذي يعتمد هنا على "الأمثولة" كأداة للمجاز وطريق للاستعارة، مستغلا التمثيل الكنائي الأوليجاري في عملية الترميز الدلالي الذي يقوم بإحالة تمثيلية إلى عالم الحيوانات والطيور كمعادل رمزي للعالم البشري إمعانا في ترسيخ فكرة "المثل" بالتوازي مع تصديره فكرة السخرية من عبثية العالم الإنساني الذي انزلق لمستوى متدن وسقط لدرجة الحيوانية، "البهيمية".

وفي مقابل الشاعر يحل رجل الأعمال في حانة الخلد، في مجتمع يُعلي قيمة المال عما سواه، كما يتنعم "القرد" في واقع عبثي، ثم ينتقل الخطاب الشعري من الأمثولة إلى التطبيق والتعيين، ومن المشبَّه إلى المشبَّه به، حيث يندد الخطاب بإعلاء الدولة لشأن فئات ما من الشعب: (أطباء ملتحون، حلّاقون وعارضات أزياء/ أساتذة وتجار ماشية وتجار أسلحة ومهندسون) في مقابل خسفها بالشاعر/ المثقف المبدع في تجلٍّ ظاهر لدولة التكنوقراط التي تعني بفئات ما من المواطنين بما يُشغِّل ميكنة العمل ويدوِّر عجلة الإنتاج بالبلاد دونما اكتراث بالبعد الروحي والأقنوم الجمالي للدولة في تكريس فادح لمادية الدولة التي تُعمِّق من اغتراب الإنسان عموما ولاسيما المثقف وتُفَاقم شعوره بالاستلاب.

ومثل هذه الفئات الذي ذكرها سركون بولص تُمثِّل نماذج لأجهزة الدولة الأيديولوجية التي يقول بها "ألتوسير" ولكن ما يبدو من رعاية النظام لمثل هذه الفئات التي تكون أجهزة أيديولوجية للدولة ما هو إلا وهم يصدقه الأفراد، فالرأسمالية تُحوِّل الأفراد إلى ذوات متوهمة، حيث "يتكون الرأسمال عندما يتحول الفرد إلى ذات حرة موهومة. لا سبيل إلى كشف هذا التكوين، إلى تعرية الرأسمال كقوة مسيطرة، إلا بنفي تلك النظرة الذاتية. إن رأس المال يتجدد بتقنيع واقعه، فإذا أزيح القناع انكشف كنه الواقع الرأسمالي" (عبد الله العروي: مفهوم الإيدولوجيا)، فلأيديولوجية الاستبداد أولوياتها، وإذا كان جماعة من "آلاف الشعراء والعاطلين" يُقصيهم النظام، فذلك لأنهم غير مجدين له وليسوا أدوات أو تروسا في ميكنته الأيديولوجية.

ولكن، ما الذي يجمع الحاكم والنائب والله؟ النائب من المفترض أن يُمثِّل الشعب الذي يختاره، ولكن في أنظمة الاستبداد وفي انتخاباته المزورة يأتي الحاكم بنواب الشعب في عملية تزييف لإرادة الشعب، أما الله، فهل يقصد به الصوت الشعري استخدام الحاكم لرخصة الدين/ الله في تقرير الأوضاع السائدة وتثبيتها؟ ولِمَ لا؟ فالخطاب الشعري يُندِّد بما يُقدِّمه نظام الاستبداد من رشاوى لأصحاب الأصولية الدينية (أطباء ملتحون) في إشارة لتواطؤ اليمين الديني مع أنظمة الحكم الدكتاتورية، توفيرا لغطاء أيديولوجي وساتر حماية ديني من أجل تسويغ ممارسات الاستبداد. كما يشي التحاء الأطباء (أطباء ملتحون) بأن تكنوقراطية الدولة وإهمالها (الجانب الروحاني) وعدم رعايتها الإبداع والفكر قد عرَّض متعلميها (الأطباء) للوقوع فريسة في براثن الأصولية والتدين الشكلي (الالتحاء). فأصحاب المعارف العملية لا يقيهم علمهم- وحده- من السقوط في فخاخ الراديكاليات المتشددة.

ومع تمادي شعور الذات بالاغتراب فإنّ سُحبا من الكآبة والقنوط تُخيّم على إحساس الذات بواقعها وعالمها المحيط، كما في قصيدة "نهار في كركوك":

الأبقار النائمة في ظل المَصْفى

لتمخضَ الحليب، تجترُ العاقولَ والأشواك

والغربانُ تدنو من بئرنا

                      المسوّرة بشظايا القناني

على أطراف أجنحة ذليلة

كأنها هدايا

            من القار والمازوت

قذفت بها

من أحشائها المحروقةِ، "الآبار"

حيث تمتدُّ متاهة فضية من الأنابيب

ويرتفع اللهيبُ من حقول "الآي بي سي" ليلَ نهار.

 

هناكَ تتمرّغ الشمسُ على ظَهرها

في زجاج نافذةٍ غبراء

                     سمكة تلفظُ أنفاسها الأخيرة

هناك يبدو العالمُ كمركبِ نوح القديم إذ يودّعُ آخرَ الضفاف.

تصوِّر هذه اللوحة الطبيعة وهي في حالة احتضار وموات، بعد أن لوّثت حقول البترول البيئة في "كركوك"، فكأنّ الأبقار قد فقدت قدرتها على إدرار الحليب، فتبرز الصورة آثار آبار البترول على بئر الماء، التي يشي إضافتها لضمير المتكلمين الجمعي بشعور الذات بانتماء جماعي لتلك البئر في مقابل الإحساس بعدم انتماء تلك "الآبار" البترولية للمدينة وكذا عدم ارتباط ناس المدينة بها، ولئن كانت "الغربان" هي نذير شؤم في الوعي الميثولوجي الجمعي، فإنّ دنوها من بئر الماء بأجنحتها الذليلة البادي عليها آثار القار والمازوت كهدايا قزفت بها حقول البترول- في تعبير ينضح بالسخرية- ينذر بخلل بيئي، فكأنّ الذات تندد- في شعور اغترابي- بالانقلاب الصناعي على الطبيعة البكر ما صدَّر للذوات إحساسا بزحف الموات المطبق على الوجود، فتبدو الشمس في بحر السماء، في حال احتضار، كسمكة تلفظ أنفاسها الأخيرة، بل يبدو العالم كله، كمركب نوح القديم، في مهب طوفان مُهلِك.

ويبدو حضور السمكة كمشبه به- عند سركون- تأثرا آخرَ بالمكوِّن المسيحي في لا وعيه، لما للسمكة من دلالات وقوة رمزية خاصة في المسيحية، لدرجة أن البعض يعدها رمزا للمسيحية نفسها، فمن آيات المسيح ومعجزاته إشباع الآلاف من سمكتين وخمس خبزات، أما مركب نوح فتبدو أنها حاضرة من لا وعي توراتي ومثيولوجي تأثرا بأسطورتي نوح التوراتية وجلجامش البابلية.

تبدو تلك اللوحة التي يرسمها سركون لـ"نهار في كركوك" حافلة بالعناصر التي تؤسس لأجواء اغترابية تسود المكان وتطغى على اللوحة:

جسَدُ الأفعى

المتسربلُ حول بتلة الخَشْخاش

القرمزيةِ الدّرَنات بارتخاءٍ، وراء دكّان

                       الأرمني السادر في نومة القيلولة-

        رأسه الأشيبُ على دفتر الديون

             عويناته الطبيّة في كفّة الميزان-

وحدَهُ، وحدَهُ كزُنّارٍ حيٍّ من الخرَز الملوّنةِ يزيّن غُرّةَ

                   الظهيرة

والصمتُ أعمقُ من بئرٍ

في هذا الطرَف النائي من المدينة..

الكلابُ تشمُّ الطناجر بلباقةٍ

في ظلال الجدران، والحنفيّة المُزَنْجرة

ترشحُ بصبرِ في فنجانٍ مكسورٍ، قطرة بعد قطرة.

تعكس عناصر اللوحة التي تبرزها الصياغة الفنية أرق الوعي وأزمة الذات الوجودية، إذ يبدو جسد الأفعي حدا يشطر اللوحة ويسربل شطرها الثاني كما يسربل بتلة الخشخاش، في إشارة لالتفاف الأفعى- بما تحمله من رمزية جامعة للمتقابلات، إذ هي رمز للحياة المتجددة، حيث تغير الأفعى جلدها، كما هي رمز الخطر الداهم والشر والتسبب في سقوط الإنسان وطرده من الجنة ما أدى لشقائه- حول ما يمثل رمزا للحياة والزرع (بتلة الخشخاش)، أما تشبيه جسد الحية بزنار (حزام/ نطاق) حي من الخرز يزين غُرة الظهيرة فيبرز حسّا تشكيليّا ووعيّا سورياليّا لدى الشاعر في تشكيلاته التصويرية. ومن حيث البناء التركيبي، فيأتي جسد الأفعى وراء (دكّان الأرمني السادر في نومة القيلولة) في تركيب إضافي يشي بما في ظلال الشكل من خطر، كذلك فإنّ وصف الأرمني في جملتين اعتراضية (-رأسه الأشيبُ على دفتر الديون عويناته الطبيّة في كفّة الميزان-) بما يشي به دفتر الديون من حالة فقر وكساد وبما يوحي به الرأس الأشيب من شيخوخة توازي شيخوخة الوجود الذي تعاينه الصياغة الشعرية، وكأنّ هذا التركيب الاعتراضي يأتي اعتراضا على الحال المتردي للمدينة، ثم تمدد التركيب الأساسي (الإطار) الذي يصف جسد الأفعى لكأنّه يشي بذلك بالتفاف الأحوال الخانقة والفقر والكساد على الرجل الأشيب والمدينة كالتفاف الأفعى المنذر بالفناء.

ولكن ألا تلاحظون معي أن تلك اللوحة يسيطر عليها العناصر الحيوانية المخيفة كالأفعى والكلب والطيور التي تمثل نذير شؤم كالغربان وقد تلوثت بالقار والمازوت، أما العنصر الإنساني الوحيد (الرجل الأرمني) فتبدو عليه علامة الشيخوخة وأمارات الوهن وهو سادر في نومه، بلا فاعلية، أشبه ما يكون في موات مؤقت؟! أما الإضاءة فتبدو في حالة اختلال، فإما لهيب واحتراق مستعر يتصاعد من "أحشاء حقول البترول"، وما يُحدثه من غبار يُبهت من صورة الشمس وينتهكها لتبدو وكأنها في حالة احتضار، كذا فالقار والمازوت بألوانها الداكنة الزاعقة تخترق ألوان العناصر الطبيعية كالغربان وتنتهكها. أما الأشياء في هذه اللوحة إما متعملقة كآبار البترول التي تلوِّث الطبيعة، أو متكسرة كفنجان القهوة الذي ترشح فيه الحنفية المزنجرة قطرة بعد قطرة، وكأنّ الحياة تنزف، لتدخل في حالة موت بطيء.