صدرت طبعة جديدة من رواية سقوط النوار للروائي الدكتور محمد إبراهيم طه عن دار النسيم بالقاهرة أواخر 2019، وهذه الرواية في تقديرنا واحدة من أكثر الروايات المصرية شديدة التميز وكاشفة عن القدرات السردية التي يتفرد بها محمد إبراهيم طه الروائي الذي يمثل امتدادا للأسماء الروائية المصرية الكبيرة، فهو في جانب منه يمثل امتدادا خاصا لكبار الروائيين الذين قدموا الرواية الريفية على نحو بالغ الثراء الجمالي والمعرفي مع الخصوصية في البنية السردية. ستجد لديه بذورا لروح المشروع الروائي لعبد الحكيم قاسم ويوسف أبو رية ومحمد البساطي وخيري شلبي وغيرهم من الروائيين شديدي الخصوصية ممن كانوا قادرين دائما على استيلاد الجمال السردي من البيئة الريفية التي قد تبدو مستهلكة ومكرورة، لكنهم كانوا دائما قادرين على رؤية شيء جديد يمكن في القاع والأعماق وتحت طبقات إنثربولوجية عميقة من حفريات هذه البيئة والثقافة الريفية. والحقيقة أن صوت محمد إبراهيم طه السردي كذلك فيه جانب آخر مختلف ومتطور عن هؤلاء المتميزين من الروائيين السابقين، حيث نجده مزج هذا السرد الريفي بثقافة المدينة ومفرداتها ولغتها وواقعها المعرفي المختلف، فتتحقق لديه مزيج مختلف وجديد تماما، فنجد ثقافة السرد المحفوظي وشعرية تحولات المصائر والموت والميلاد والأسئلة الكبرى والثقافة الطبية والمعلوماتية والوعي السياسي والفكري الأوسع مدى أو الأكثر تقدما إن جاز التعبير، كما لديه القدرات الرمزية أو القدرة على جعل السرد ذا طبيعة رمزية وقابلية لتعدد القراءات والتأويلات، فتتفاوت مستويات الدلالة في خطابه السردي ويبدو بعيدا عن النزعة المباشرة في طرح معانيه أو رسالة الخطاب الكلية. كما تتحق لديه بشكل عام سمة أخرى في غاية الأهيمة وهي عفوية السرد، إذ تتجسد في خطابه السردي طاقات حكائية عفوية تجعله كما لو كان شفاهيا تماما وخاليا من كافة مظاهر الصنعة، والحقيقة أن وراء هذا السرد قدرات وتنويعات في كيفياته عديدة لكنها متوارية ومختفية وراء هذا الحس الشفاهي العفوي الذي يمثل المعادلة الجمالية الأهم لكتابته السردية.
رواية سقوط النوار مثال لكل هذه الجماليات والخصوصية لهذا الكاتب القدير الذي أتصور أنه لم يلق الاحتفاء والاهتمام النقدي اللائق برغم كونه قد حصل على عديد الجوائز المهمة مثل جائزة الدولة التشجيعية وجائزة الشارقة. ففي هذه الرواية الفاتنة عديد الجماليات أهمها شعرية الوصف والتفاصيل والقدرة على التصوير المشهدي الذي يجعل من الكتابة السردية أقرب لفيلم سينمائي حافل بالمتعة ومشاهده ليست فقط متأتية لخيال المتلقي بل تفرض نفسها عليه بقوة، وتتماوج الرواية في إيقاع سردها بين الحركية والحوار والوقفات التأملية وطرح الأسئلة والتبئير الداخلي ولها عديد التكنيكات السردية الفريدة مثل الزمان الدائري الذي يصنع حالا طريفة من الغرائبية، بما يجعل الشخصيات تموت وتحيا داخل الخطاب وكأنها تتجدد على مستوى القراءة، فليس هناك الزمن الكورونولوجي السيميتري بل التداعي الحر من الذاكرة الذي يجعل المشاهد المستدعاة في فضاء الخطاب محكومة بعوامل نفسية وسياقية مختلفة تماما عن ترتيب الزمن الطبيعي أو التحول من حقبة لحقبة. فالرواية التي ربما تكون قد بدأت في أول فصولها من الطالب الشاب في كلية الطب ومن مستشفى الدمرداش أو أحد المستشفيات التعليمية تتحرك بنوع من الارتجال والتداعي النفسي بين محطات وذكريات مبعثرة ومرتبة في الوقت نفسه، فهي على مستوى الزمن ليست مرتبة لأنها لم تبدأ من الطفولة فتتحول تدريجيا لتصعد إلى نقطة البداية أو الشباب التي بدأ منها الرواية، وبرغم أن هذا الشكل المفترض قد يكون متقدما بالنسبة لبعض الروائيين حيث البدء من النهاية ثم العودة إليها مرة أخرى، لكن خطاب رواية سقوط النوار اختار كيفية أخرى أشد تقدما وتعقيدا لأن المعادلة التي حكمت ترتيب هذه الذكريات والمشاهد تجاوزت السيمترية تماما وكسرت كافة قواعد الترتيب المتوقعة أو النمطية، وعمدت إلى الترتيب النفسي دون أي شيء آخر، فلا يحكم تقدم وحدة سردية أو تأخرها غير اعتبارات بلاغية وأنساق جمالية كامنة في الخطاب، مثل أن تكون هي الأكثر إلحاحا على الذاكرة أو الأكثر وجعا أو نسق ما من التجاور أو نسق جغرافي أو مكاني أو نسق خاص بموقع شخصية ما على نحو ما نجد مع الجدة (بُغداد) وحكاياتها، أو نسق معرفية الطب الشعبي الذي يكثف بعض المفردات والحكايات عن الطب الشعبي في موضع أو مساحة معينة من فضاء خطاب الرواية، أو نسق التقابل بين الطب الشعبي والطب الحديث الذي يتعلمه في كلية الطب، أو نسق الحب والرغبة، وغيرها الكثير من الأنساق البديلة التي أزاحت الرابط التقليدي أو التجاور في الزمن للأحداث. لدينا إذن في النهاية حكاية في غاية التماسك ولوحة حافلة بالتفاصيل والمنمنمات السردية إذا جاز التعبير، وتكتسب هذه اللوحة شعريتها من حركتها الارتجالية في الزمن وتناميها بشكل عفوي يكسر الأنماط التقليدية ويدور حركة دائرية أحيانا أو ذات طبيعة أرابيسكية خلف الحكايات والقصص الفرعية والمعلومات وتتبع الشخصيات. عديد الشخصيات التي تتفرع بعوالم هذه الرواية وتجعلها على نحو كبير من التشعب والامتداد والترامي وكلها تأتي محكومة بالروح الواحدة التي تجمع السرد كله في بؤرة مشاعر السارد أو الشخصية الرئيسة وصاحب الصوت وبؤرة وعيه وأسئلته وتأملاته لما مر من سيرته وحياته الغريبة الطريفة.
في الرواية كثير من الجماليات النابعة من امتزاج المآسي والموت واليتم والفقر والصراعات الإنسانية على الرزق، ومظاهر الضعف الإنساني، بغيرها من الأفراح والنجاحات وتحقق الذات بشكل تدريجي برغم كل هذا الضعف، وغيرها أيضا من مشاعر السعادة وأسباب السرور والمرح بالألعاب والأطعمة والميلاد والتغلب على المرض في بعض الأحيان ولو بالصدفة أو بأهون الأسباب أو العلوم والمعارف الشعبية. تمتزج الفكاهة بالمأساة في هذه الرواية على نحو طريف وبخاصة ما يتحقق في شخصية الجدة بغداد وعلاقاتها بمن حولها، فهي شخصية أقرب لأن تكون عجائبية فيها المأساوي من الوحدة وقلة الولد، ثم المقدرة والقوة بأشياء أخرى أقرب لأن تكون سحرا خاصا أو حيلا غير تقليدية. مزيج من الإيمان والخرافة والعلم والذكاء والحمق وغيرها الكثير من القيم المتقاطعة والمتعارضة التي تشكل لوحة إنسانية ثرية بالمعاني والمشاعر.
والرواية حافلة بكثير من المفردات التي ربما تكون خاصة بها، مثل كثير من مفردات ومعارف الطب الشعبي ووسائله، وبعض النباتات والزروع، وغيرها من الألفاظ الخاصة بالأماكن الريفية والقنوات والترع ومفردات الكتاتيب وأدواته القديمة ونظامه المحكم، وكثير منها ربما يكون اندثر أو يتلاشى تدريجيا، وكذلك نظام الحياة الريفية وأنساقها الاجتماعية والعملية وأنماطها في العمل والمساعدة أو الاسترزاق بين الفقراء سواء للرجال والنساء، وثمة أنماط من الشخصيات الريفية تبدو جديدة أو هي بذاتها إنجاز جمالي للرواية لأنها تبقى فاعلة وعالقة بالأذهان مثل شخصية الشيخ عبد الوهاب قارئ القرآن النهم سليط اللسان الذي لا يصلي فردا واحدا رغم اضطلاعه بكافة الأعباء والطقوس الدينية الأخرى بانتظام ويقرأ بصوت عذب، وكثير من هذه الشخصيات أقرب لأنماط فكاهية شبيهة بنماذج البيكاريسك والصعاليك المتجذرة في الثقافة العربية، وشخصية حسين بيبرس أو شخصية عزاوي الطفل الذي هو أقرب لفنان تشكيلي ينتهي نهاية مأساوية ويحمل في داخله بعض الأبعاد الرمزية والشاعرية لأنه دال على مأساوية الحياة وعدم منحها الفرصة المناسبة لكثيرين، بل تمضي بهم عكس إرادتهم. وفي هذا الجانب المعرفي أو المعلوماتي نجد تحقيقا معرفيا وافيا لملامح شخصيات رجال قراءة القرآن ومفردات حياتهم على نحو متكامل ويبدو خاصا بهذه الرواية التي ربما لم لن نجد مفردات هذه المهمن ونظامها بهذا التكامل والتوسع في الملامح إلا في رواية سقوط النوار.
في رواية سقوط النوار تهيمن شعرية التبدلات وتحولات المصير على فضاء السرد كله، فيبدو الموت جزءا من حركة الوجود الشاملة، حركة دائبة مثل تفتح الورود والأزهار وحركة نمو النبات واندفاع المياه في الترعة أو النهر أو الجداول الصغيرة، فنلمس تصويرا شاملا لحركة الوجود الموت جزء من هذه الحركية التي تصنع إيقاعا ما، تصنع اضطرابا أو توقفا أو يتسبب في شجن وضعف ثم يبدأ من هذا الضعف التحدي ومرحلة جديدة من السعي إلى القوة، وهكذا. فكأن السرد تمكن بنعومة وتسلل هادئ إلى اقتناص حركة الحياة الريفية بدقائقها وامتزاج خطوطها، امتزاج الموت بالحزن، والموت بالميلاد، واليتم والضعف بالنجاح والقوة والتحدي، وهكذا. ويمثل يونس مركزا لهذه الشعرية نعم من حيث كونه صاحب الصوت والشخصية المركزية، لكن كافة الشخصيات الأخرى هي بصورة ما نموذج سابق له، فالشخصيات تبدو متقاربة ومشتركة في وحدة المأساة والروح وهذا المزيج المركب والمعقد. ولهذا فإن الرواية حافلة بالتحولات بين عديد المشاعر المتناقضة، كل الشخصيات تقريبا ظل لبعضها أو نماذج تتراءى ملامحها الكلية في مرآة الحياة كلها وليست في الحدود الشخصية، فكأن الذات لا تتضح إلا بقصة الآخر، وأن الذي يختلف هو الزمن فقط، أما الحياة فهي نفسها تتكرر وتتدفق في نهر الوقت. قصص الحب والخيانة والطمع والقتل والرغبة والزواج والنجاح والفشل أو الخيبة غير المبررة أو المفهومة وغير المفهومة من حيث أسبابها، وما أكثرها، لأن الرواية رصدت عديد القصص الفرعية التي تبدو كل واحدة منها مركزية بدرجة ما وتشكل اللوحة الكلية لسرد الرواية وليست مجرد جزء يخدم جزءا آخر. فقصة عزاوي الطفل المثال هي بشكل ما قصة عجز حسين بيبرس الذي لم يجد ذاته في الرجولة الظاهرة، وقصة كل عاجز أو خائب ومنهزم، وقصة سيد الحرايري الذي تحطم حين تحطم مشروع الوحدة بين مصر وسوريا، فالعجز هو عجز كثيرين ومظاهره متعددة.
كثير من السمات والكيفيات الخاصة بسرد هذه الرواية تجعلها شديدة الخصوصية في طريقتها وتجعلها من تلك الرواية القابلة لتعدد القراءات وتظل مع كل قراءة قادرة على منح المتعة، ففي القراءة الأولى ربما يتم استكمال التفاصيل وتجاوز فكرة تقطيع المشاهد أو إدراك الاستباقات والاسترجاعات حين يحيط المتلقي بالوحدات السردية ويصبح ملما أو مستوعبا لمواضعها من حيث المكان والزمان وترتيبها في الأجيال والقديم والحديث، لكنه في القراءات التالية سيدخل إلى مراحل أخرى من الوعي بهذه العوالم ويصبح أكثر تركيزا مع ترابط الخطوط أو بعض التناظرات وتصادي الحكايات أو تشابه بعضها أو أن تكون إحداها مرآة للأخرى أو تجليا جديدا لقصة أخرى، أو أن يتجسد وجع إنسان وحكايته في آخر، وهكذا، أو أن يلامس الأبعاد التأملية لخطاب هذه الرواية ويلامس العلامات والوحدات السردية ذات الطبيعة الرمزية مثل ديناميكية الوجود وشعرية الموت والميلاد والمرض والقوة، أو يربط بين الانهيارات الكبرى مثل فشل الوحدة والانهيارات الصغرى، مثل موت عبد الناصر وموت الخال عز الرجال، ورمزية تحطم الحلم بشكل عام. الحقيقة كلها من الطبقات الأكثر عمقا في تكوين خطاب هذه الرواية ونتصور أن إدراكها يحتاج إلى تعدد القراءات ومحاولة تأمل معطياتها الدلالية. تتحرك الرواية مع فترة زمنية ممتدة ولكن الفترة المركزية فيها هي ثورة يوليو 52 بما حققت من نجاحات وصنعت من تحولات في المجتمع المصري أو عكسها من بعض الخيبة والخسارة. ولكن هذا الرصد يأتي مغايرا لأي من أشكال الطرح السياسي المباشر، فهنا رصد لما يتجلى في أعماق الأسر المصرية والتكوينات الاجتماعية الصغرى. صراع العلم والجهل والتقدم والرجعية والقديم والحديث والعلم والخرافة أو العلم والعلم الآخر أو المعرفة بأنماط عديدة بين معرفة موروثة ومعرفة مستحدثة، وأتصور أن هذا هو التعبير الأكثر دقة، فهي كلها معارف ولكنها تختلف في المصدر وتبدو متصارعة.
في لمحة طريفة تشكل جلسة الدكتور حسين كامل الطبيب الدارس من بقايا الأرستقراطية مع الجدة بغداد ليدون عنها نقطة التقاء هذه المعارف وتماسها، وهي في الأساس تتماس بشكل آخر بداخل أعماق شخصية يونس نفسه، وهو الدارس للجديد والوارث للقديم في الوقت نفسه ومازال يحمل كليهما في أعماقه وسيظل حتى سقوط زهرته أو نواره، على حد الهمس الشعري للرواية حين تصور الموت بشكل شعري وتجعله سقوطا مثل سقوط النوار خاليا من الألم ومجردا من الأوجاع بل يصبح علامة مجردة تدل على التبدل ومراحل التحول من القوة والحضور إلى الضعف والتلاشي والفناء. تبدو كافة الشخصيات على هذا النحو من التركيب شديد العمق وفي تقديرنا أن هذا التراكب والتداخل في بناء تلك الشخصيات هو نتاج طبيعي لحضور مكونات أنثروبولوجية عديدة في طبقات المجتمع المصري الذي تتراكم فيه المعارف والخبرات من آلاف السنين، فجاءت الشخصيات مجرد صدى لهذه الطبقات الحفرية من المعارف، فخبرة الرجل الفلاح الريفي زارع المخدرات تهزم أحيانا مأمور قسم الشرطة بسلاسة وسرعة بديهمة، وخبرة الجدة بغداد تهزم الحمى والمرض وتفتت عجز النسوة حين ترضع من المرأة التي تكرهها أو تراها نجسة ولكنها في لحظة تشفق عليها وتنقذها وفي الوقت تتغذى بحليبها وتتجشأ في صورة كاريكاتورية مضحكة ومشهدي يمكن وصفه بأنه كوميدي على نحو طريف ومدهش، ومثل هذه المشاهد كثيرة، وكلها مشاهد نابعة وناتجة عن التقاء القديم بالجديد أو تماس العلم بالخرافة وهكذا في ثنائيات عديدة تتلاقى وتتنافر، وتمكن السرد بسلاسة من الإمساك بهذه اللحظات والمشاهد الإنسانية التي يحدث فيها التداخل والتقاطع والتماس، ليشكل جمالياته ويدلل على أن قوة السرد في قدرته على التسلل بنعومة شديدة إلى الطبقات المطمورة تحت المألوف والمعتاد من مظاهر الحياة.
الحقيقة أن لغة الرواية كذلك لها خصوصية شديدة لأنها تأتي متناغمة مع هذا النظام البنائي من السرد الدائري والتبئير الداخلي ورصد ما بداخل الشخصيات والتصوير البانورامي للبيئة الريفية أحيانا أو الارتداد مرة أخرى إلى أعماق الشخصيات في حركة مراوحة بين الداخل والخارج وبين المكان والشخصيات، والدوران في الزمن بنوع من العفوية والتجول الحر- والمنتظم في الوقت نفسه- في مسارب الذاكرة ودهاليزها المنيرة والمعتمة أحيانا، لنكون أمام لغة حافلة بالصور والاستعارات ولكنها في الأساس تأتي لخدمة الصورة الكلية وليست مجانية أو لذاتها.