أرفع يمناي بالكأس ملوحًا في حبور، أقرعه بآخر تقبض عليه يسراي، تنزعج أمي وتقول مغاضبة، "لا يجوز ، لا هذا خمر ولا لنا أن نحتسي خمرًا، لا تعبث بالكئوس، أتستحق هذه الزجاجة الصغيرة كأسين؟!" تنشغل عنيَّ فأنتهز الفرصة، أعاود الفعلة، أنتشي بها، أسرتني الطريقة مذ أن رأيتها بالفيلم: شاب وسيم وحبيبة جميلة يبتسمان بينما يصطك الكأسان وتحدق العيون في العيون فتأكلها. ليس لنا أن نحتسي الخمر؟! حسنًا. ماذا إذن عن احتساء الحب؟ عن النظرات؟ عن الابتسام؟ وعن أكل العيون للعيون؟!
تأتي الإجابات تباعًا. يقول أحدهم أن المياه الغازية وإن لم تكن مُسكِرة لا ينبغي أن يُفعل بها ما يُفعل بالخمر، هذا غير محبذ .. تقول التي يزيد عشقها عن عمرها الذي لم يتجاوز السنوات العشر أن رجلًا قبَّل يد أختها بعد أن ألبسها خاتم الخِطبة، تضيف، "تحبه ويحبها" ثم تسألني، "هل تعرف الحب؟" .. تقول بعينيها كلامًا لا أفهمه، هي ذاتها لا تفهمه، قلبها وسيع ولسانها مثل لساني لا يملك التعابير الملائمة. تفترش شفتاها بالابتسامات، أبادلها الابتسام الصادق، قلبان ملآنان بشعور لذيذ ولسانان لا يعرفان الصياغة. تأكل عيناها عينيَّ، تأكل عيناي عينيها، لا ندري أن هذا هو أكل العيون للعيون، تلتهمني بنظرة، أحتويها بأخرى، تمر الأيام، تغيب، أغيب، الغياب سُنة، الغياب شرع، الغياب حتمية.
الحبيبة الأبدية تعاود التوصية، لا خمر البتة، والحب لا فسوق فيه .. أستبدل حبيبتي الصغيرة بأخرى أكبر، أيضًا من نفس عمري الذي مُنِح مزيدًا من السنوات، تغيب فأغيب، الغياب سُنة، الغياب شرع .. أقرع فنجان القهوة بفنجان آخر، أستبدل النهار بالليل، أغوص في حب الليل ... يدفعني الليل إلى الوحدة، تدفعني الوحدة إلى البحث عن مفقود لا أعرفه، شجن غريب، تخبط، قلب يضيق وعقل يتسع ... في القراءة سبيل ومبتغى وحياة .. قليل من الخمر يجلب السعادة، يعترض صديقي، بل الكثير هو ما يجلبها .. صديقي خبير، جريء مغوار، يخبر الجميع بحبه للخمر .. أغار وأحزن .. أريد أن أجرَّب، أبوح بها .. ليس الآن، يصدح في وجهي .. متى إذن؟! .. لم يأن أوانك، لا زلت صغيرا .. أنا أكبر منك بشهور!! .. إدراكك يا صاحبي، إدراكك صغير!!
صديقي على عناده لا يحيد، وقلبي يذوق الحب الحقيقي للمرة الأولى .. يا صاحبي، كل ما فات كان هراء، لعمري إن هذا هو الحب وليس للحب معنى آخر .. يصدمني، "لم تنضج بعد!" .. تصدمني أن فات الميعاد وأن يؤسفها أن تتركني في عرض الطريق .. يا صاحبي إن الحزن يقتلني، لا تبخل عليَّ بالدواء .. دواؤك فيك، اصدح بها لتؤكد نضجك، ذلك شرطيَّ الوحيد .. أفعل ما يأمر به، أخبر صديقين وغريبًا لا أعرفه بشيء لا يهم ثلاثتهم .. سأصنع السعادة الليلة ومع هذا الشجاع ..
مترنحًا أعود للبيت، ينساب إلى سمعي صوت غنائي شجين، لا أتبين الكلمات، قلبي في خواء وعقلي في فراغ وبدني في غير اتزان .. أقترب، أرهف السمع، صوت أنثى .. أقترب أكثر، أتجاوز إلهة حبي الجالسة تتابع التلفاز، أقاوم تيهيَّ، أجتهد حتى يعاود التركيز زيارة عينيَّ وأذنيَّ .. تصدح، "أهل الحب صحيح مساكين!" أقول بغير إرادة أو نية، "صحيح مساكين!" ترمقني من موقعها في اندهاش، زارها خاطر، خاطرها لا يكذب ..
في غرفتي أبكي الفراق .. فراق التي تركت قلبي في العراء ومن قال هذا فراق بينه وبين الضعيف الذي انطرح أرضًا في الكأس الثانية ..
- ولماذا فعلت ذلك؟
- ألم تقل ثومة أنني مسكين؟!