بعد 20 عامًا من جهود المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في بناء أفغانستان، عادت الدولة لتعاني مجددًا من الانهيار، ويغرق الشعب الأفغاني في الفوضى والخوف من مواجهة مستقبل غامض.
وحسبما ذكرت دورية (ذا دبلومات) المتخصصة في الشئون الآسيوية، أظهر مشهد آلاف الأفغان المذعورين في مطار كابول الدولي، الذين كانوا يسعون يائسين لإيجاد مخرجٍ من بلادهم بأي شكل، أن الجهود التي كلّفت المجتمع الدولي مليارات الدولارات فشلت في بناء دولة أفغانستان الشاملة والديمقراطية والمستقرة، لتعود الفوضى إلى المؤسسات السياسية والاقتصادية، بجانب عودة الفساد والصراع العرقي والتدخلات الأجنبية وافتقار الإرادة السياسية.
وأشارت إلى أن الانهيار المدوّي للحكومة الأفغانية في عام 2021 يعود إلى النموذج المركزي في الحكم، والذي يعني أن الحكم يرجع إلى حكومة مركزية واحدة ، غير شمولية، يعود إليها البت في شئون جميع البلاد.
وكانت أفغانستان قد اعتمدت النظام المركزي للمرة الأولى في عام 1880 بدعم مالي وعسكري من الإمبراطورية البريطانية، مما عطّل شكلها الكونفدرالي السابق، وهذا النموذج هو نفسه الذي فضّله الاتحاد السوفيتي لكونه الأقرب إلى نظامه الشيوعي، وهو الذي روج لنهج الحكم الديكتاتوري الفاشل، والذي طبقّته حركة طالبان أيضًا خلال حكمها المثير للجدل لأفغانستان.
ومع سيطرة حركة طالبان حاليًا على البلاد، يصبح السؤال الرئيسي كيف ستبدو الدولة الأفغانية الجديدة، حيث يجب أن تدرك طالبان أن النموذج المركزي للحكم لن يضمن سلامًا دائمًا في أفغانستان، ولن يمكنه تسهيل تشكيل الحكومة الشمولية التي تدعي طالبان أنها تستهدف تشكيلها.
وبالنظر إلى تعدد المجموعات العرقية واللغوية والدينية في أفغانستان، يجب على الحكومة القادمة تسهيل دمج ومشاركة جميع الطوائف والجماعات الأفغانية المتنوعة، بما يعني أن عليها التخلص من المركزية، وإلا فإنها ستجد ردود فعل احتجاجية سواء من المجتمع أو من تلك الطوائف الأفغانية.
ويمتلئ تاريخ أفغانستان بالجهود الفاشلة لتحقيق السلام والاستقرار، باستثناء الفترة بين عامي 1747 و 1880 عندما كانت أفغانستان اتحادًا كونفيدراليًا للأقاليم، وقد اختارت جميع أنظمة الحكم الأفغانية النموذج المركزي للحكم، حيث شهدت أفغانستان حتى الآن مجموعة متنوعة من الأنظمة، مثل النظام الملكي والملكي الدستوري والرئاسي والشيوعي والإسلامي، التي كانت تتغير في شكلها، لكنها حافظت على المركزية المفرطة في جوهرها.
ويُظهر تاريخ أفغانستان أن النموذج المركزي للحكم أدى باستمرار إلى الفساد والصراع العرقي وأسفر عن حكومة غير خاضعة للمساءلة أمام جميع مواطنيها، وبينما كانت المركزية تخدم مصالح القوى الأجنبية وعدد قليل من النخب الأفغانية، فقد قوضت إرادة الشعب الأفغاني والمجتمع المدني.
وتسعى القوى الأجنبية التي تتدخل في السياسة الأفغانية إلى تحقيق أهدافها الخاصة، فقد استخدم البريطانيون أفغانستان، من خلال توحيد الأقاليم الأفغانية فيما يشبه الاقليم الواحد، كمنطقة عازلة ضد التوسع الروسي، واحتل الاتحاد السوفيتي أفغانستان في منافسة ضد الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، وحاول ضم أفغانستان إلى الاتحاد السوفيتي، وفي النهاية، غزت الولايات المتحدة أفغانستان لتأمين نفوذها في المنطقة بحجة مكافحة الإرهاب.
وشكلت المركزية بالنسبة لجميع هذه القوى الأجنبية أولوية وضرورة، حيث أدى نفوذ هذه القوى العظمى إلى تحويل أفغانستان إلى دولة ريعية تعتمد على الدعم والمساعدات الخارجية، وظل الملوك والرؤساء الأفغان ودوائرهم الضيقة هم المستفيدون الرئيسيون من عملية بناء الدولة في أفغانستان.
وفي حين أن المركزية قد تفيد بناة الدولة والمجموعات الصغيرة من الأفراد، إلا أنها تؤثر سلبًا على النتائج المرجوة من الحكم الرشيد.. وكان نظام الحكم في أفغانستان بعد عام 2001 واضحًا للغاية، فقد حذا حذو الأنظمة السابقة واعتمد نموذجًا شديد المركزية، فكان للرئيس وحده في ظل هذا النظام سلطة أكبر من سلطة الملك والدستور، وتمكن من التصرف من جانب واحد متجاوزًا جميع آليات المراقبة والتوازن، حيث كان للفساد السياسي والإداري الأثر الواضح في نظام ما بعد عام 2001.
واحتكر نظام الحكم المركزي السلطة السياسية والمالية والإدارية لصالح السلطة التنفيذية المتمثلة بشخص الرئيس، وهو ما أثر بشكل سلبي على السلطتين التشريعية والقضائية، وكان من سلطة الرئيس أيضًا تعيين الوزراء والمحافظين والقضاة ورؤساء الشرطة وغيرهم على المستويين المركزي والمحلي، في حين لم تحمل السلطة التنفيذية أي مسئولية أمام السلطة التشريعية ولا أمام الشعب الأفغاني.
أما العيب الآخر في النظام المركزي فيما بعد عام 2001، هو إخفاقه في استيعاب المجموعات العرقية المتعددة والمتنوعة في أفغانستان، فعلى الرغم من أن دستور عام 2004 اعترف بالجماعات العرقية الأفغانية، إلا أن نظام الحكم فشل في استيعابهم. ويعود السبب في ذلك إلى نظام الحكم الرئاسي ذاته، وإلى تركز سلطة تعيين المحافظين والعديد من المسؤولين المحليين بيد الرئيس، بالإضافة إلى الفشل في إجراء انتخابات المجالس المحلية، والأهم من ذلك كله هو النظام الانتخابي غير المتوافق للبرلمان، حيث حالت هذه العوامل مجتمعة دون إشراك المجموعات العرقية المختلفة في السياسة والحكم في أفغانستان.
أما من الناحية العملية، فلم يكن للمرشحين الرئاسيين الذين يخسرون الانتخابات أي مكان بديل في السلطة. ولم يوفر النظام أي فرصة للقادة المحليين للمشاركة في عمليات صنع القرار بشأن القضايا المتعلقة بهم. ونظرًا لتعدد الأعراق والأديان واللغات في أفغانستان، فقد أدى النظام الرئاسي المركزي إلى تفاقم الانقسامات العرقية، وأثبتت الانتخابات الرئاسية، وخاصة الانتخابات الأخيرة، أن النظام الرئاسي المركزي لا يمكن أن يستوعب المجموعات العرقية في أفغانستان.
ويبرز السؤال حاليًا حول ما الذي يجب أن تتعلمه حركة طالبان من الماضي أثناء تشكيل الحكومة الأفغانية القادمة، خاصة وأن نهجهم السابق في الحكم، لم يبشر بالخير، فقد اقترح دستور طالبان لعام 1998 نظامًا إسلاميًا شديد المركزية، وهذا يعني أنه سيتابع بلا شك مسيرة الأنظمة السابقة، إلا أن تاريخ أفغانستان يُظهر أن هذا النظام الديكتاتوري لن يحل مشكلة الحكم، لذلك ينبغي على طالبان أن تفتح الباب أمام الجماعات الأفغانية الأخرى للانخراط في مفاوضات حول مستقبل البلاد.
ولا يزال المجتمع الدولي يتحمل مسئولية تشجيع حركة طالبان والجماعات الأفغانية الأخرى على التفاوض بشكل بنّاء بشأن مستقبل أفغانستان.
وبالنظر إلى اعتماد أفغانستان على المساعدات الخارجية، فإن المجتمع الدولي لديه نفوذ للضغط على طالبان والجماعات الأفغانية الأخرى للتركيز على الوصول لتسوية سياسية.
وقد أثبت التاريخ مرارًا أن الجماعات الأفغانية التي نزحت لن تظل صامتة لفترة طويلة، وسوف تصطدم مع حركة طالبان في صراع قريب قد يودي بهم إلى حرب أهلية، إذا اختارت حركة طالبان تجاهل دروس التاريخ، ويأتي ذلك على حسابهم وعلى حساب شعب أفغانستان.