بقلم: أشرف غريب
فى الرابع عشر من مايو ٢٠١٤ وفى ذروة حملته الانتخابية للترشح على كرسى الرئاسة، التقى المرشح عبد الفتاح السيسى بمجموعة من المثقفين فى حوار مفتوح وشفاف حول أهم القضايا التى تهم المثقفين فى مصر، وبعدها بأسبوع كان لقاء السيسى بصفوة فنانى مصر، وهو اللقاء الذى شهد مصافحته الشهيرة للسيدة فاتن حمامة فى آخر ظهور عام لها قبل رحيلها، ولم يكن المبدعون فى هذين اللقاءين بحاجة لتذكير السيسى بأنهم كانوا أكثر ضحايا تلك السنة الكئيبة التى تم فيها اختطاف مصر لصالح تيار أو فصيل بعينه،
ولم يكونوا أيضا مضطرين إلى لفت انتباهه بأنهم كانوا وقود ثورة الثلاثين من يونيو وشرارتها الأولى وطليعة من نزلوا إلى الشارع رافعين رايات الاحتجاج حتى من قبل الثلاثين من يونيو بمجرد تولى الوزير الإخوانى علاء عبد العزيز وزارة الثقافة فى مايو ٢٠١٣، لكن هذين اللقاءين كانا إشارة واضحة إلى أن الرجل يدرك جيدا أهمية قوة مصر الناعمة وقيمة مبدعيها والآمال العريضة التى يحملها له هؤلاء المبدعون، وبعد أن أصبح السيسى رئيسا فعليا لمصر فى يونيو ٢٠١٤ تعددت لقاءاته بجموع المثقفين والفنانين كان أهمها على الإطلاق ذلك اللقاء الذى تم فى الحادى والعشرين من مارس ٢٠١٦ بقصر الاتحادية واستمر لأكثر من ثلاث ساعات طالب الرئيس فى نهايته بعد أن مل – على ما يبدو – من الكلام المرسل بأن يقدم المثقفون تصورا شاملا وعمليا للمشكلات الثقافية التى تواجهها مصر، وكيفية التغلب عليها مع التأكيد على ضرورة مشاركة المثقفين فى التعاطى عمليا مع هذه المشكلات دون الاكتفاء بمجرد الكلام والتنظير، ومنذ ذلك اليوم اختفى المثقفون من المشهد أو كادوا، ولم يعد أحد يتحدث لا عن مشروع ثقافى ولا عن تصورات عملية للنهوض بالثقافة، واكتفينا جميعا بحالة الإحباط من كل وزير ثقافة يأتى ثم يترك كرسيه الوثير دون أن يحقق الحد الأدنى من طموحات هذه الفئة المهمة، وكيف يمكن أن يحقق أى وزير ثقافة شيئا وهو لا يكاد يدخل الوزارة حتى يخرج منها سريعا، فلا هو استطاع أن ينفذ سياسة عامة للحكومة، ولا أمكنه إظهار مشروعه الثقافى الخاص، ولكم أن تتخيلوا أنه منذ أن تشكلت أول حكومة فى عهد الرئيس السيسى التى تولى رئاستها المهندس إبراهيم محلب فى السابع عشر من يونيو ٢٠١٤ تناوب على وزارة الثقافة أربعة وزراء فى ثلاث سنوات فقط هم صابر عرب وجابر عصفور وعبد الواحد النبوى ثم الوزير الحالى حلمى النمنم، وهذا معناه أن متوسط عمر وزير الثقافة على كرسيه الوزارى فى هذه الفترة تسعة أشهر فقط، فأى شىء يمكن إنجازه فى تلك الفترة القصيرة؟
ولا يشك المثقفون فى صدق نوايا الرئيس السيسى وإخلاصه فى العمل من أجل مصر عامة والإبداع المصرى خاصة، بل إننى أزعم أنها المرة الوحيدة فى تاريخ مصر المعاصر التى تشهد فيها العلاقة بين السلطة وجموع المبدعين هذا التصالح الحميد وخفوت المقولة الشهيرة التى كان يرددها المثقفون كثيرا بأن المثقف من الضرورى أن يكون دائما على يسار السلطة ومعارضا لها، وحتى فى فترة حكم الرئيس عبد الناصر التى شهدت فيها مصر مدا ثقافيا لا ينكره أحد كان كثير من المثقفين نزلاء دائمين فى السجون على خلفية آرائهم ومواقفهم السياسية، ومن هنا كان من المأمول استغلال هذا المناخ المواتى فى علاقة المثقف بالسلطة فى إنجاز مشروع ثقافى حقيقى، وتحويل آمال المبدعين إلى واقع ملموس على الأرض.
ولا ينكر أحد أن هناك ما تحقق خلال السنوات الثلاث الماضية مثل إضاءة أنوار بعض المسارح المغلقة والمهدمة كالمسرح القومى، أو ترميم بعض قصور الثقافة والمتاحف هنا وهناك وآخرها قصر عائشة فهمى بالزمالك، لكن هذا لا يكفى لأمة صدرت الثقافة والإبداع للدنيا بأسرها منذ آلاف السنين، ولشعب يعرف موطن قوته الحقيقية التى إن حافظ عليها وتمسك بها أبقى على ريادته وتميزه، وبات قادرا على مواجهة كل التحديات، فلا أحد يستطيع أن يضمن لدولة فى ظل هذا العالم سريع التغير دوام قوتها السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية بينما أصحاب الحضارات العريقة والمقومات الراسخة كحال مصر يستطيعون الحفاظ على قوتهم الثقافية بشرط الاستمساك بها والعمل على حمايتها وتنميتها والتعاطى مع كل مستجدات الحياة من حولنا.
أما وقد تقاعس المثقفون والمبدعون – أيا كانت أسبابهم – عن تقديم تصوراتهم للحفاظ على قوة مصر الناعمة رغم بديهيتها ووضوحها فاسمح لى سيدى الرئيس وأنت تخطو نحو السنة الرابعة من تحمل هذا العبء الثقيل أن أذكر نفسى وإياك بما يتطلع إليه المبدع المصرى، وهذا فقط بعض منه:
● نريد مبدأيا وقبل أى شىء إيمانا يقينيا وراسخا بأن قوة هذا البلد فى إبداعها ومبدعيها، ومن ثم التعامل مع هذا الأمر باعتباره قضية أمن قومى، وألا يكون هذا مستقرا فقط فى وعى وضمير رأس الدولة، وإنما يكون ساريا وحاضرا فى ضمائر وعقول كل مسئول فيها حتى إذا ما قلنا أنه يجب التعامل مع الثقافة على أنها من الصناعات الثقيلة أدرك كافة مسئولى الدولة جيدا معنى هذه الكلمة واستحضروا الإرادة الحقيقية للتعاطى مع الإبداع وفق هذا اليقين.
● نريد تنشئة طفل مبدع يكون عمادا لهذه الصناعة الثقيلة، وهذا لا يتأتى إلا بالاهتمام بالمسرح المدرسى وعودة الهيبة والاحترام لحصص الموسيقى والرسم بدلا من الجور عليها، واستعادة جماعات الخطابة والصحافة والقصة والشعر لكامل بريقها، وتفعيل المسابقات الثقافية بين المدارس المختلفة على كافة المستويات، ثم استمرار هذا الاهتمام على الصعيد الجامعى حتى لا تنقطع صلة الإنسان المصرى طفلا وصبيا وشابا يافعا بالثقافة والإبداع، فإذا ما خرج إلى الحياة العملية متخففا من أعباء التعليم والدراسة كان شابا قويما نافعا ليس فى عقله ولا فى روحه مكان أو وقت للتطرف أو الانحراف، وهو دور مهم يجب إلا تغفل عنه وزارتا التربية والتعليم والتعليم العالى، من حيث توفير البنية الأساسية لكل هذه الأنشطة والمناخ الملائم لممارستها إشرافا وتوجيها وتشجيعا.
● نريد تحويل مراكز الشباب المنتشرة فى كافة ربوع مصر إلى مراكز إشعاع ثقافى جنبا إلى جنب مع القيام بدورها الرياضى، وذلك من خلال إمدادها بعشرات الكتب المكدسة فى مخازن وزارة الثقافة والمؤسسات الصحفية ودور النشر وتجهيز قاعات للمطالعة والمشاهدة وممارسة الأنشطة المختلفة، فبناء العقول لا يقل أهمية عن بناء الأجسام بل يكون سابقا عليها، وهذا لا يتأتى إلا بتوجيهات رئاسية محددة لزيادة التعاون بين وزارتى الثقافة والشباب.
● نريد اهتماما مضاعفا بهيئة قصور الثقافة وبعث الحياة فى القصور والبيوت المغلقة أو المهدمة حتى تقوم بدورها الفعلى الذى أنشئت من أجله كمراكز إشعاع للثقافة الجماهيرية، واستعادة قاعات السينما المعطلة داخل هذه القصور كى تكون بديلا عن سينما الحى التى ربما أصبح من الصعب إنشاؤها حاليا فى ظل التكاليف المادية الباهظة، كذلك نريد دعما مباشرا لفرق الموسيقى والمسرح بهيئة قصور الثقافة وزيادة الاهتمام بمسابقاتها ومهرجاناتها حتى تكون متنفسا طبيعيا لطاقات الشباب المبدعة، وكذلك إعادة النظر فى سلاسل النشر والدوريات المختلفة التى تصدرها الهيئة والعمل على التعرف على ما يريده المثقف ويحظى باهتمامه، بدلا من ذلك المال المهدر وتلك الكتب المكدسة فى المخازن التى آن الإفراج عنها حتى ولو بنصف ثمنها أو إتاحتها للاطلاع فى مراكز الشباب والأندية الرياضية وكافة أشكال التجمعات.
● نريد دعما إضافيا لسعر الكتاب الذى تصدره الهيئة المصرية العامة للكتاب والاهتمام بالمشاريع التثقيفية الكبرى على غرار مشروع مكتبة الأسرة، وأن تدخل الهيئة بحماس أقوى وقناعة أكبر فى الكتاب الإلكترونى أو الرقمى مسايرة للعصر وجذبا لشريحة عمرية كبيرة لا يستهان بها.
نريد الحفاظ على ذاكرة مصر وتاريخها متمثلة فى دار الكتب والوثائق القومية وتوفير وسائل الحماية لهذه الثروة المهمة من الحريق والتلف والسرقة، والمضى قدما فى رقمنتها، وإتاحة الفرصة للاطلاع عليها بضوابط أكثر إحكاما وخطوات أقل تعقيدا.
● نريد نهضة مسرحية حقيقية تضاهى وتتفوق على تلك التى شهدتها مصر فى ستينيات القرن العشرين، وأن تقوم هيئة المسرح بدورها الفنى الفعلى متخلصة من الفكر البيروقراطى لموظفيها المنحشرين فى المكاتب وفنانيها الذين لا يفعلون شيئا إللا تقاضى رواتبهم آخر كل شهر، نريد إضاءة أنوار كل مسارح الدولة بعروض مسرحية جاذبة لكبار النجوم والجمهور معا وتسعى لتقديم جيل جديد من المؤلفين والممثلين والمخرجين جنبا إلى جنب مع القامات الكبيرة فى دنيا المسرح، وكذلك نريد تحديدا دقيقا لشخصية كل بيت فنى مسرحى حتى لا تتداخل العروض وتتضارب، فيفقد المشاهد ميزة التنوع الذى تجذبه للارتياد الدائم لعروض مسرح الدولة لا سيما إذا تم دعم ثمن تذكرة الدخول بصورة أكبر، بحيث تكون فى متناول المواطن البسيط والذهاب بهذه العروض إلى المحافظات المختلفة بدلا من قصرها على محافظة القاهرة أو مدينة الإسكندرية فى الموسم الصيفى.
● نريد نظرة متعمقة لواقع السينما فى مصر باعتبارها صناعة ورسالة فى آن واحد، وعدم الاكتفاء باللجان والاجتماعات والكلام الكثير الذى أخذ من عمر أزمات السينما المتلاحقة سنوات طويلة دون أدنى فائدة ملموسة، فالسينما لمن لا يعرف هى المنتج الوحيد الذى يمكن تصديره بنسبة مائة فى المائة، بل وتصدير ذات المنتج أكثر من مرة ولأكثر من مشتر، كما يضمن دوران كاميرات السينما توفير فرص عمل دائمة ومؤقتة وتحقيق مكاسب مادية عالية لأربابها تصب فى خانة الدخل الضريبى للدولة، كما يمكن أن تكون الأفلام السينمائية وسيلة ترويج غير مباشرة لمنتجاتنا الصناعية ومعالمنا السياحية المختلفة، وكم من شقيق عربى جاء إلى مصر لشراء مثل تلك النجفة التى ظهرت فى فيلم كذا، أو السجادة التى شاهدها فى فيلم كذا، أو زيارة المعلم السياحى الذى تم فيه تصوير فيلم كذا، أما عن السينما كقوة ناعمة ففيها يمكن قول الكثير، يكفى أنها كانت مع الأغنية السبب فى انتشار اللهجة المصرية فى أنحاء الوطن العربى ونقل المجتمع المصرى بكل عاداته وقيمه واهتماماته إلى هذه المجتمعات العربية وتحويل رموزنا الفنية إلى سفراء فوق العادة يحظون بكل مظاهر الاحترام والترحيب، لقد باعت الولايات المتحدة الحلم أو الوهم الأمريكى للعالم أجمع عن طريق الفن والأدب، وكذلك روجت لآلتها الترهيبية الضخمة عن طريق السينما تحديدا، فالسينما ثم الدراما التليفزيونية حاليا هى السلاح الخفى الذى يمكن أن يفعل ما لا تستطيع فعله كل أدوات الدعاية المباشرة وغير المباشرة، فإذا ما آمنت الدولة بكل هذا، ويجب عليها أن تؤمن يصبح لزاما عليها اتخاذ حزمة من المواقف دعما لهذه الصناعة التى تحمل رسالة مهمة مثل: الإسراع فى الإعلان عن شركة السينما التابعة لوزارة الثقافة والتى طال انتظارها والحديث عنها حتى تتم إعادة ترتيب واقع الحياة السينمائية حاضرا ومستقبلا بل وماضيا أيضا، من خلال الحفاظ على أفلامنا السينمائية وإنشاء السينماتيك وإصدار القانون الخاص به الذى يضمن عدم ضياع الفيلم السينمائى المصرى وإهدار الحقوق الأدبية للعناصر المشاركة فيه.. تخفيض أو إلغاء الرسوم المكبلة للفيلم السينمائى فى مراحله المختلفة من أول ترخيص السيناريو وحتى ترخيص العرض مرورا طبعا بالتصوير.. تخفيض الجمارك على مستلزمات العملية الإنتاجية السينمائية وتشجيع بناء الاستوديوهات الخاصة ودور العرض السينمائى، وغير ذلك من الخطوات إلى باتت معروفة للجميع.
● نريد وقفة موسيقية جادة تعيد لمصر ريادتها فى المنطقة التى ذهبت لجنسيات أخرى، وهذا لن يتحقق إلا بقيام الإذاعة والتليفزيون وشركة صوت القاهرة بالدور الحقيقى والذى تراجعت عنه لصالح شركات القطاع الخاص الطامحة إلى الربح أو لصالح شركات الإنتاج غير المصرية التى تضع سحب الريادة المصرية هدفا أصيلا أمامها تسعى لتحقيقه بكل قوة، هذه النهضة إذا تحققت سوف ترتقى بالذوق العام وتقدم للحركة الموسيقية أصواتا ومؤلفين وملحنين يستطيعون السير على الطريق الصحيح.
● نريد الالتفات إلى الفنون الشهيدة كالباليه والأوبرا والفنون التشكيلية أيضا، والبحث عن أفكار مبتكرة وغير تقليدية لتقريب هذه الفنون إلى عامة الناس وزيادة رقعة مرتاديها.
● نريد فكرا رقابيا أكثر استنارة وأقل تربصا بالمبدع والإبداع، ورقباء مدربين لا تحركهم الهواجس الأمنية بقدر ما يزعجهم تدنى الذوق العام حتى لو أدى الأمر إلى تعديل قانون الرقابة على المصنفات الفنية.
نريد تفعيلا أقوى لقانون الملكية الفكرية وتطبيقا أكثر صرامة على الذين يستبيحون حقوق المبدع، وأن تصل ذراع القانون بكل قوتها إلى المخالفين أيا كانوا وأيا كانت الوسيلة التى يستخدمونها وإلا بات استمرار الإنتاج الفنى بكافة صوره فى خطر كبير.
باختصار سيادة الرئيس فإن المبدعين يريدون مناخا مشجعا وأطرا وقوانين محفزة حتى يستطيعوا تقديم إبداعهم بحرية كاملة آمنين على حياتهم وأرزاقهم ومصنفهم الفنى أو الأدبى، وأعلم جيدا أن تحقيق ذلك كله بحاجة إلى عدة سنوات، وأن سنة واحدة متبقية لن تكون كافية لتلبية طموحات المبدعين المصريين الذين يعولون عليك الكثير وينتظرون منك الوفاء بالوعود التى قطعتها لهم عند اللقاء بهم فى المرة الأولى.. فهل أنت خاذلهم؟
لا أظن.