هدوء نفسي غريب يكتسحك، وأنت تعبر أكبر زحام قد يكون في شارع.. وكأن النفس تغلف بعوازل للصوت، كتلك التي تستخدم في استوديوهات التسجيل المسموع.
الأزبكية التي تقع في عمق العمق بقاهرة المعز، حيث الزمن غير الزمن، والمكان غير المكان.. كأن المنطقة بكليتها قد وهبت نفسها للأدب والثقافة، كما أعلن سورها الذي اشتهر على مدى الزمن.
وأنا أجوس خلال الزحام، وتتفحص عيناي الكتب التي تراصت في المكان، لتحيله إلى منبع للثقافة، طالعتني عناوين شتى في إحدى الزوايا، التي جلس بمحاذاتها عم عبده، الرجل الذي احتطب الزمان شبابه.. كان يتعامل مع الكتب المنتشرة في الركن بحنو غريب.. تصورته يعامل أطفالا يخشى عليهم الأذى، لذا كان يترفق بهم بشكل لم أعتده.
وقفت أمامه ملقيا التحية، ليرد بأروع وأحسن وأفضل منها.. باختصار تحدّث ورأيته بعد ان احتكمت فيه لمقولة "تكلم حتى أراك".. مددت يدي لأتناول "الأيام".. تلقفته بجذل ولهفة محاولا أن أواصل ما بدأه صاحب المكان.. غبت جزئيا عن الصخب الذي كان علامة دالة على المكان، وانغمست في الكتاب، وتصورت طه حسين بين ثناياه.. كان يحتفظ ببعض بريق، يبدو أنه وهج من روح الكاتب.
ورغم فقدانه البصر، فإن بصيرته هي ما كانت يحملق فيّ بدقة، ومحياه الجاد يطالعني بتعجب على قدر المسافة بيني وبينه!
"الأيام" التي روى بين دفتيها ما أتى وولى عليه من زمن.. قصة طفولته في إحدى القرى المصرية، التي مازالت تفتخر بأنه ابنها.. سجل فيه شقاوته مع شيخه، حتى انتقاله إلى أعمدة الأزهر حيث كان يتجلى أمل أبيه، الذي كان يأمل أن يراه عالما، يعتكف على إحدى تلك الأعمدة يدرّس فيها طلابه.
اقتحم الدكتور القاهرة، وعاش وتنقّل بين صحون وأعمدة الأزهر، وعاش فيها ما عاش ورأى فيها ما رأى.
وقال فيما قال فيه: "أتمنى أن يجد الأصدقاء المكفوفين في قراءة هذا الحديث تسلية لهم عن أثقال الحياة، كما وجدت في إملائه، وأن يجدوا فيه بعد ذلك تشجيعا لهم على أن يستقبلوا الحياة، مبتسمين لها كما تبتسم لهم ولغيرهم من الناس".
استذكرت ما كتب ذات مرة إلى زوجته سوزان، فقال لها: "بدونك أشعر أني أعمى حقا.. أمّا وأنا معك، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وأمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي".
قيمة عظيمة للمرأة، سجلها عميد الأدب العربي حين اعتبرها البصر والبصيرة والدليل.. وكيف أنها كانت على مستوى وقدر المسؤولية.
خلي ياباشا.. انتشلني عم عبده من امتزاجي بطيف كان يدور في أفق الأيام، وحينها سألته بكم.. وحصلت عليه وانصرفت، لأكمل مسيري عابرا إلى باب الشعرية، حيث يتربع محمد عبد الوهاب في ميدانها، وواصلت المسير إلى نفسي الململم شتاتها بين أحياء القاهرة القديمة.
كاتب ليبي ورئيس التحرير المساعد لصحيفة الجماهيرية سابقا