بقلم: عميد. طارق الحريرى
للعسكرية المصرية تاريخ مجيد مر بمراحل كثيرة من الصعود والانكسار لكن القوات المسلحة المصرية، التى مرت بتحولات كبيرة بعد ثورة يوليو سنة ١٩٥٢ مابين النجاح والإخفاق استطاعت أن ترسو فى النهاية على بر الأمان وأن تصبح مؤسسة صلبة لا يستهان بها وجيش عصرى مكتمل أركان القوة فى كل تفاصيلها من تسليح وتنظيم وتدريب وإعداد للقادة ومؤسسات بحثية وعلمية وتعليمية وبذلك يمكن القول أن القوات المسلحة نجحت فى أن تتجاوز تماما ما تعرضت له من ظروف غير مواتية أو محن وإخفاقات فى العصر الحديث.
اكتمل هذا النهج بالقفزة الكبيرة التى قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسى وأحدثت تطويرا غير مسبوق منذ عقود طويلة فى بنية القوات المسلحة المصرية التى كانت فى حاجة ماسة لتعزيز وتحديث إمكانياتها التسليحية واللوجستية ، ومن هنا لا يمكن إغفال الدور الوطنى الذى قام به الرئيس السيسى فى تعزيز القدرات والطاقات الخلاقة للجيش المصرى، التى تمثلت فى بعدين:
أولهما:
تعظيم القدرات التسليحية للقوات المسلحة المصرية بعد أن كادت تخرج من التقييم الموضوعى فى قائمة الجيوش التى تحتل مكانة متميزة من حيث القوة والتأثير الاستراتيجى فى محيطها.
ثانيهما:
تطوير الهيكل التنظيمى ليلبى طفرة التسليح الكبيرة وغير المسبوقة وكمثال على هذا فإن القوات البحرية التى تمثل ذراعا استراتيجية هامة فى تعزيز المهام الخاصة بدوائر الأمن القومى أصبحت تتشكل من أسطولين هما الشمالى فى البحر الأبيض المتوسط والجنوبى فى البحر الأحمر.
من الأسرة السادسة حتى السيسى
مولد فكرة العسكرية
مصر هى التى قدمت للبشرية فكرة القوة المسلحة النظامية من أجل الدفاع عن الدولة حيث كانت محاطة بهمج وقبائل الرعاة والبدو الذين يقومون بشن هجمات على القرى والتخوم للحصول على الطعام والمؤن ويؤرخ بمولد الجيش المصرى، اعتبارا من الأسرة السادسة فى الدولة القديمة وفيما بعد شهدت العسكرية المصرية أمجاد عظيمة على يد أحمس وتحتمس ورمسيس الثانى وامتدت مملكة مصر لتصل إلى تخوم تغطى أراضى حتى حدود تركيا شمالا وأثيوبيا جنوبا وبلغ الجيش درجة فائقة من القوة والتنظيم بلغة العصر.
مراحل الاضطراب
ما بعد سقوط الحضارة المصرية القديمة مع الأسرة الثلاثين عمل كل المستعمرين منذ البطالمة حتى الاستعمار العثمانى البغيض طوال ٢٢ قرنا على إقصاء المصريين بعيدا عن الجيش حتى لا تتحول تمرداتهم إلى ثورات تطيح بالمستعمر إلى أن جاء محمد على واضطر إلى الاستعانة بشباب مصر ليكونوا أساس بناء جيشه وهكذا عادت الجندية للمصريين ومن بعد عدة مراحل من النهوض والانتكاس وفى أعقاب حرب فلسطين سنة ١٩٤٨ قام الضباط الأحرار بثورة ٢٣ يوليو وكان أحد أهداف الثورة الستة بناء جيش وطنى قوى ، وأمام حصار الغرب للثورة الوليدة بالتعنت فى تسليح الجيش ذهب عبد الناصر للكتلة الشرقية فلم يكن رجال يوليو يسمحون بأن يتحول جيشهم إلى جيش تشريفات وتعرض الجيش الوليد لضربة قاصمة من القوى العظمى فى العدوان الثلاثى وما أن بدأ الجيش يسترد قوته تورط فى حرب اليمن واستدرجت مصر إلى حرب الخامس من يونيه ١٩٦٧ حيث تعرضت القوات المسلحة لهزيمة فادحة كبدتها خسارة بلغت ٨٠٪ من سلاحها.
مرحلة ما بعد يناير ٢٠١١
بعد النكسة بدأت عملية إعادة البناء والهيكلة على أسس علمية وواقعية وبدأت عملية تسليح لتصل القوات المسلحة إلى ذروتها فى ذلك الوقت بسرعة كبيرة مما حقق العبور فى ملحمة عظيمة ومن وقتها وحتى قيام ثورة ٢٥ يناير حافظت القوات المسلحة على قدر معقول من الثبات فى قدراتها دون انطلاقة أخرى وتعرضت لموقف صعب بوجود القوات فى الشارع طوال سنوات القلاقل وهذا وضع بالغ الخطورة فى تأثيره على سلامة بنيان أى قوات عسكرية ثم مع تولى الفريق عبد الفتاح السيسى وزارة الدفاع فى بداية حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى عادت القوات إلى ثكناتها وكانت عملية إعادتها إلى أوضاعها الصحيحة عسكريا بعد سنوات تواجدها فى الشارع تتطلب جهدا كبيرا ومدة زمنية لا تقل عن ٣ – ٥ سنوات حتى تتأهل انضباطيا مع إعادة رفع كفاءة المعدات واستعواض غير الصالح منها حتى تصبح القوات المسلحة جاهزة مرة أخرى لمهامها الأساسية.
مرحلة الانطلاق
طوال الفترة التى كان يتولى فيها الرئيس عبد الفتاح السيسى وزارة الدفاع، التى تقدر بسنتين نجح بإرادة قوية فى أن يحقق معجزة استعادة كفاءة القوات، التى عادت لثكناتها بعد سنة واحدة فقط من توليه المسؤولية فى مدى زمنى قياسى لم يتخط العام الواحد، حيث أصبحت كافة أجهزة القيادة العامة والأفرع الرئيسية للقوات المسلحة وهى القوات البحرية والجوية وقوات الدفاع الجوى والتشكيلات التعبوية مؤهلة لبداية مرحلة إعادة بناء وتطوير جديدة تليق بأقوى جيش عربى فى المنطقة لكى يحافظ على مكانته ويرتقى بها منذ انتهاء فترة حكم الإخوان المسلمين أثناء فترة الرئاسة المؤقتة للمستشار عدلى منصور، التى استمر خلالها الرئيس عبد الفتاح السيسى وزيرا للدفاع.
بعد تولى السيسى رئاسة جمهورية مصر العربية تضاعفت خطى التطوير والتحديث واستطاعت القوات المسلحة إبرام المزيد من الصفقات والحصول على نوعيات متقدمة من أحدث ما فى ترسانة العصر من سلاح، وقامت القوات كل فى تخصصه باستيعاب الأسلحة الجديدة والتدريب عليها تقنيا وقتاليا قبل وبعد الحصول عليها من عدة دول من الشرق والغرب منها صفقة صواريخ الدفاع الجوى S٣٠٠ النسخة “أنتاى ٢٥٠٠” التى لم تقم موسكو بتصديرها إلا لعدد قليل جدا من الدول وهى أحدث منظومة يتم تصديرها خارج روسيا، التى من المعروف أنها أقوى دولة عالميًا فى مجال شبكات الدفاع الجوى ومن روسيا أيضًا اشترت مصر منظومة “بريزدنت إس” لحماية الطائرات فى الجو و٤٦ طائرة “ميج-٢٩” و٥٠ طائرة هليكوبتر “كا-٥٢” المنافس الوحيد للأباتشى الأمريكية لتسلح بهم حاملتى الطائرات الفرنسيتان «الميسترال”، وقد تسلمت مصر بالفعل حاملتى الطائرات الهليكوبتر وأطلقت عليهما تسمية جمال عبد الناصر وأنور السادات وخصصت القوات البحرية إحداهما للأسطول الشمالى والأخرى للأسطول الجنوبى، بالإضافة إلى ٤ فرقاطات “جوميد” فرنسية الصنع أيضا ثلاث منها بدأ تصنيعها فى الترسانة البحرية فى الإسكندرية لتزدهر فى مصر صناعة القطع البحرية الكبيرة وتستعيد بذلك بعد زمن طويل دورا كان مفتقدا فى هذا المجال ، ومن ألمانيا اشترت مصر ٤ غواصات من طراز ٢٠٩ / ١٤٠٠ بدأ وصولها بالفعل إلى مصر وهناك تفاهمات مع الصين على أسلحة مختلفة، لاسيما بعد أن تأكد أن بكين نجحت بوسيلة أو بأخرى فى إنتاج طائرة بنفس خصائص وقدرات الطائرة الأمريكية الخفية الأحدث من الجيل الخامس، التى لم تخرج من الولايات المتحدة حتى الآن إلا لإسرائيل، ومن الصفقات التى دعمها الرئيس السيسى التعاقد فى ٢٠١٥ على ٢٤ طائرة رافال، التى قال عنها وزير الدفاع الفرنسى: إنها صفة استثنائية وقد وافقنا عليها لأن الرئيس السيسى لديه حاجة إستراتيجية تكمن فى ضمان أمن قناة السويس الذى يشكل ممرا هاما لجزء كبير من الحركة البحرية العالمية وقد استلمت مصر أول ثلاث دفعات من الصفقة ولاشك أن هذه الصفقات تنقل مصر إلى مرتبة لا تتفوق عليها فى قائمتها إلا الدول العظمى، لقد حققت هذه الصفقات نقلة نوعية وكمية جعلت مصر القوة الضاربة بحريا فى الشرق الأوسط وأصبحت سمائها مؤمنة تماما وهكذا تستعيد القوات المسلحة المصرية ريادة مستحقة بما تمتلكه من قيادات مؤهلة ومستويات متفوقة فى العلم العسكرى مع اقتناء أجيال من السلاح هى الأحدث عالميا.
لقد انصب جهد القيادة السياسية عند بناء خطة التسليح على مجموعة من الجوانب الأساسية ارتكزت على الخبرة العسكرية المدعمة علميا فى مختلف أفرع القيادة العامة والمستويات التالية التى أدت دورا رئيسيا فى اختيار الأسلحة التى تتناسب مع الاحتياجات الفعلية اللازمة لتحقيق أعلى درجات القوة والقدرة على تحقيق المهام وتحقق ذلك من خلال الجوانب التالية :
الجانب الأول: يتعلق بطبيعة جغرافية الدولة التى تستدعى تكويناتها البرية والبحرية نوعيات من السلاح تتناسب مع ما تتطلبه هذه الجغرافيا ، فعلى سبيل المثال فإن الدول الحبيسة أى التى لاتطل على بحار مفتوحة وتحاط باليابسة من جميع الاتجاهات ليست فى حاجة على الإطلاق للقوات البحرية بينما على العكس كلما ازدادت أطوال سواحل الدولة ازدادت طرديا احتياجاتها من القطع البحرية المختلفة لحماية ظهيرها المائى ، وهنا تظهر براعة المخطط العسكرى الذى حرص على اقتناء مصر لحاملتى الطائرات الهليكوبتر “ميسترال”وأربعة فرقاطات وكلها فرنسية وأربعة غواصات ألمانية حيث تمتد سواحل الدولة ما يزيد عن ٢٠٠٠كم.
الجانب الثانى: يتأسس انطلاقا من البعد الاستراتيجى فى تأمين دوائر الأمن القومى خارج حدود الدولة وهى الدوائر التى تصون المصالح وتحمى طرق المرور وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن مصر تصبح معنية بالضرورة بتأمين منطقة باب المندب لضمان تدفق الملاحة فى مرفق قناة السويس أحد مصادر الدخل الرئيسية للدولة وهنا تظهر أهمية حاملتى الطائرات الهليكوبتر “ميسترال” المسلحة بطائرات الهليكوبتر الأقوى عالميا “كا-٥٢” لحاملتى طائراتها وبالمثل الغواصات الجديدة من ألمانيا وأجيال الطائرات الحديثة متعددة المهام ذات المدى البعيد التى تحصل عليها مصر من أكثر من دولة.
الجانب الثالث: كانت الاعتبارات التى بنى عليها هذا الجانب طبيعة التهديدات التى تتعرض لها الدولة وبالطبع ليس للدول اختيار فيما تتعرض له من تهديدات تفرضها نوعية وخصائص الأخطار المحيطة بها والتوقعات المستقبلية لما يستجد من تهديدات ومن ضمنها تهديدات غير متوقعة يمكن أن تطرأ على المشهد السياسى وتتطلب مهام عسكرية احترازية قد تصل أحيانا عمليات قتالية لمستوى محدود أو على نطاق واسع ، وعلى سبيل المثال كانت مصر تواجه تاريخيا منذ عام ١٩٤٨ تهديدا مباشرا من إسرائيل خلال الصراع العربى الإسرائيلى إلى أن تم توقيع معاهدة السلام والآن تواجه مصر مخاطر جمة من تنظيمات الإسلام السياسى المسلح ويشكل وجود داعش فى ليبيا التى تمثل العمق الاستراتيجى اللصيق لحدود مصر الغربية خطرا داهما لذلك تحرص مصر على تعزيز قواتها الجوية بطائرات حديثة مثل «رافال» من فرنسا و”ميج ٢٩” من روسيا.
الجانب الرابع: تحتل مصر فى الإقليم وضعا فرض عليها دورا محوريا بطبيعة موقعها الجغرافى وتركيبتها السكانية وتأثيرها الدولى مما يتطلب بضرورات الجغرافيا والتاريخ أن تكون قادرة على أداء مهام تتناسب مع مكانتها وبالأخص فى نطاقها العربى فى إطار من الشرعية والمواثيق وأواصر التعاون العربى والدولى ، وعلى سبيل المثال فقد كان لاستعداد وقوة تسليح القوات المسلحة المصرية تأثيرا لافتا فى حماية النظام العربى بعد غزو صدام حسين للكويت، حيث كانت القوات المصرية فى المرتبة الثانية كقوة عسكرية تلى الولايات المتحدة بين قوات التحالف الدولى، التى حررت الكويت لذلك راعت القيادة السياسية والعسكرية فى مصر استعادة القوة والهيبة للقوات المسلحة.