بقلم: محمود الحضري
خلال الربع قرن الأخير تابعت بدقة تجارب بناء اقتصاد ثلاثة نماذج عالمية وإقليمية، في كل من سنغافورة وشنغهاى في الصين ودبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان في الثلاثة خيط مشترك في برامج التنمية لتصبح الأولى نموذجا اقتصاديا مهما في شرق أسيا تستقطب أسماء وعلامات الشركات العالمية في مختلف المجالات، وفي الثانية تشعر وأنت في شنغهاى أنك لست في بلد شيوعي «اشتراكي» بل في مدينة تمثل نموذجاً مختلفاً كلياً، وأغنى مدينة في الصين وبقوة اقتصادية قوامها أكثر من ٦٧ مليار دولار ويعيش فيها ٢٤ مليون نسمة والأعلى كثافة سكاناً في الكرة الأرضية، وبها ميناء الأكثر ازدحاماً في العالم، وتتدفق عليها الاستثمارات من الداخل والخارج، أما في دبي فكانت التجربة الأهم في الشرق الأوسط لتحتل مكاناً بارزا في التنمية الاقتصادية، وتنفذ في غضون ١٥ عاماً استثمارات بمئات المليارات من الدولارات، وتأتي بين أهم عشر مدن في العالم في الاستقطاب السياحي والاستثماري.
وبالعودة إلى المشترك بين التجارب الثلاث أنهم ركزوا في البداية وحتى النهاية على تشييد بنية تحتية متكاملة من خلال شق الطرق والكباري والمعابر، ومد الخدمات إلى مختلف بقاع أراضيها، وتشييد موانئ بحرية لتصبح بهما أهم ثلاثة موانئ في العالم، إلى جانب موانئ برية وشبكات نقل ركاب وشحن تحت الأرض وفوق الأرض ومُعلقة، وعلى أعلى مستوى من الخدمات، مع تشييد مطارات دولية تستوعب مئات الملايين من المسافرين، إلى جانب بناء أساطيل طيران عالمية بأحدث الطائرات، مع الاهتمام بالتكنولوجيا والتقنيات الحديثة كنمط حياة، أو قل بناء مدن ذكية بالمفهوم العام والخاص، وتطبيق سياسة «السموات المفتوحة» في الطيران.
ومن هنا كان لهذه التجارب الثلاث النجاح من أول انطلاقة لها مع تطور مستمر ومشروعات لا تتوقف لتكتمل المسيرة حتى هذه اللحظات، فالنجاح ليس له نهاية، بل هو البداية، والمتابع لهذه التجارب سيجد كل يوم جديدا فيها، وعلامات وشركات وأموالا تتدفق عليها، وذلك مدعوما بإدارة واعية وحقيقية، ولا فساد فيها إلا ما ندر، ولا محسوبية، ولا تجاوزات مالية، وحكومات تخطط وتنفذ دون الانتظار لرئيس يأمر ويأمر وحكومة تنظر أوامره، بل تعرض عليه رؤى ومخططات ويقوم هو بالتوجيه، وبجداول محددة وفي توقيتات قياسية، ويخدم ذلك منظومة تشريعات وقوانين تواكب العصر وتطلعات كل صاحب رأس مال ومستثمر، إلى جانب توفير مظلة قانونية تحمي حقوق الناس والعاملين في مختلف المجالات، والكل تحت القانون سواء، حاكما ومحكوما، وصاحب عمل وعامل، ومواطن ووافد.
وعندما جاء الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مصر منتخباً، وبدأ اهتمامه بالبنى التحتية من الكهرباء والطرق والكباري والموانئ، والخدمات اللوجستية، ومشروع قناة السويس الجديدة، وغيرها من مرافق البنى التحتية، قلت وقتها إن هذا الرجل يريد أن ينفذ تجارب عالمية في التنمية، أو ربما استنساخ تجارب مثل تجربة دبي لكونها الأكثر قرباً لنا، ولكن بنمط وسياسة مختلفة تتناسب ووضع مصر.
صحيح أن تجارب سنغافورة وشنغهاى ودبي تقاطعت معها صعوبات وتحديات وأزمات، مثل أزمة النمور الأسيوية، والأزمات العالمية في ١٩٩٨ و٢٠٠٨، وانخفاض أسعار البترول بعد ذلك، وغيرها، إلا أنها استطاعت تجاوزها بفضل إدارة فرق أزمات، وإعادة هيكلة وجدولة وفق أولويات محددة، إلا أن مشروع الرئيس السيسي جاء في ظل أوضاع أكثر صعوبة، حيث تسلم دولة منهكة اقتصادياً، ومُثقلة بأزمات تم ترحيلها عبّرَ عقود وسنوات، وفي ظل وضع سياسي مضطرب، وحالة من الاستقطاب الداخلي، إلى جانب حرب من المتربصين بهذه البلاد، بخلاف عاملين مهمين، وهو نزيف الحرب على الإرهاب، والعمل على تطوير قوي ومميز للقوات المسلحة، للحفاظ على قوة مصر العسكرية بعد الانهيار للعديد من جيوش المنطقة ودخول بعضها في حالة من التردي، والبعض الآخر في انقسام داخلي وحروب شبه أهلية.
ومن هنا كان الحفاظ على جيش مصر له أولوية وبتكلفة اقتصادية إلى جانب التكلفة الاقتصادية لأمن البلاد، وبالتالي أصبحت هذه التكاليف عبئا كبيرا على خطط رؤى الرئيس للتطوير الاقتصادي للخروج من حالة الجمود التي سيطرت على البلاد لعشرات السنين، وهذه الأعباء لم تكن هماً في تجارب البلاد الأخرى، فأبسط التقديرات تشير إلى أن نحو ٤٠٪ من النفقات في السنوات الأخيرة ذهبت لتحديث المنظومة الأمنية وتكاليف الحرب على الإرهاب وتطوير قوة مصر العسكرية التي تفرضها الضرورة الراهنة.
وبالنظر للملف الإقتصادي في السنوات الثلاث الأولى من رئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، سنجد أنه ركز في أغلبها على مشروعات ذات عائد بعيد المدى، وغالباً لن يلمسها المواطن إلا بعد سنوات، لأن مردودها ليس آنياٍ، بل تظهر وتحتاج لسنوات، كما تحتاج لخطط ومشروعات تكميلية لها، وبحاجة لحكومات تحمل أفكاراً ابتكارية، لتعظيم عوائد أكثر من ٢٠٠ مليار جنيه تم إنفاقها عليها، منها ٦٠ مليارا على قناة السويس، و١٠٠ مليار على الطرق، و٤٠ مليارا على مشروعات الكهرباء وغيرها من البنى التحتية والخدمية.
ولكن في المقابل كان لمشروعات منها مردود ملموس، مثل قطاع الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر والتي بلغت تكاليفها عشرات المليارات من الجنيهات، والتي يمكن أن تكون يوما ما مجالا للتصدير ضمن الشبكة الكهربائية العربية الموحدة، كما أن المشروعات العملاقة هذه بما فيها تحديث وتوسيع شبكة الطرق والعاصمة الإدارية الجديدة وإنشاء محطات توليد الكهرباء تحقق على المدى القصير خلق فرص عمل جديدة وذات فائدة على المستوى المُصغر حتى لو كانت لفترة زمنية محددة، لأنها بمثابة تحفيز لتنشيط الأسواق وزيادة نسب الإنفاق الداخلى.
ولكن مازال الأمر يتطلب إطاراً يتوافر فيه الحد الأدنى من مقومات النجاح حتى لا تكون نتيجة ما تم تنفيذه بالسالب وعبئا على البلاد، فجميع مشروعات البنى التحتية، بما فيها قناة السويس الجديدة وشبكة الطرق والموانئ والمراسي، والطاقة الكهربائية، تنقصها خطط تكميلية واضحة ومتكاملة تصب بشكل مباشر وسريع في حياة المواطنين.
ولننظر إلى مشروعات التنمية للمرافئ الملاحية حول العالم وفي تجارب سنغافورة وشنغهاى ودبي، سنجد أنها حققت طفرات في الخدمات اللوجستية التي وظفت مرافئها، بمشروعات في قطاعات صناعة وخدمات التكنولوجيا والاتصالات وصناعات الإلكترونيات والسيارات والسفن والحاويات بل و حتى صناعات أخرى ذات علاقة بالغذاء والدواء والعطور ومستحضرات التجميل، وذلك في مناطق مخدومة بمقومات الحياة للعاملين فيها، .. السؤال أين الحكومة من ذلك؟، ...هل تنتظر أوامر الرئيس؟!.
وأعتقد أن العام المتبقي من فترة الرئاسة الأولى للرئيس السيسي تحمل تحديات رئيسية وكبيرة ليس على الرئيس وحده، بل على الحكومة لتلحق الأخيرة بأفكار وطموحات الرئيس، وحتى تتكمن من تغطية الفجوة بين طموحات الرئيس وواقع ما تقوم بتنفيذه، ومن المهم تغيير المفاهيم في الفكر والعمل، فلم يعد هناك مجال للتراخي، فمشروعات البنى التحتية الراهنة، تحتاج لخطط تنفيذية تستفيد وتُوظف الإمكانيات الإضافية الجديدة لهذه المشروعات، على أن تتحول إلى برامج عملية تصب في خانة التنمية وتوفير فرص عمل مستدامة، ولتحسين أحوال معيشة الأفراد.
ومن النقاط المطلوبة أيضا التركيز على وسائل جذب الاستثمارات الخارجية وتدفقات رءوس الأموال، من خلال دور حقيقي لوزارة الاستثمار والتعاون الدولي، بدلا من حالة الإفراط في الاستدانة، والحصول على قروض، حتى تكون هذه التدفقات الاستثمارية وسيلة تساعد في التخلي عن جزء من قرض صندوق النقد، مع التوسع في الاعتماد على موارد طبيعية وإنتاجية للنقد الأجنبي، وهذا التخلي ممكن أن يتاح وتحققه البلاد، حال تم وضع خطط من الحكومة ووزارتها للتنمية، بدلا من اختيار أسهل الوسائل بالاقتراض.
صحيح أن الحكومة لجأت للحل الأصعب والعلاج المُر في القرارات الاقتصادية خاصة بتعويم الجنيه ورفع أسعار الكهرباء ومشتقات البترول، وتقليص حجم الدعم في العديد من المجالات، لكن يبقى أن تحرك الحكومة لمعالجة تداعيات هذه القرارات على المواطن والتي مازالت دون المستوى والحاجة، وهو ما يحتاج لإجراءات واضحة تكفل الحماية للفقراء والطبقات الوسطى، خصوصاً أن استكمال تحرير أسعار الكهرباء ومشتقات البترول جزء أصيل ومُلزم للحكومة وفقاً لاتفاقها مع صندوق النقد، وسيتم تنفيذ باقي مراحل تحرير الأسعار إن آجلاً أو عاجلاً.
ولاشك أن المستقبل يفرض الحاجة إلى تعظيم دور النقل الجوي، في ظل تحديث للناقل الجوي الوطني لتواكب حجم الطموحات المستقبلية، وربما نكون في حاجة إلى مطار دولي مستقبلاً يستفيد من موقع مصر كدولة ترانزيت وتوظيف موقعها الجغرافي بين الشرق والغرب وكمعبر إلى أفريقيا، مع تطبيق سياسات أكثر مرونة في النقل الجوي بدلا من التمسك بسياسات بلى عليها الزمن، خصوصاً ان الطموح هو بناء مصر الحديثة.
ويبقى الجزء الأصعب في تحديات الملف الاقتصادي والمتعلق بحماية أصول وأراضي الدولة، فلاشك أن إدارة حكومية رشيدة وواعية لم تكن في حاجة إلى أمر من الرئيس في حماية حقوق الشعب والدولة في الأراضي والممتلكات المنهوبة من البعض، بخلاف الحاجة إلى معالجة «الأصول النائمة» وغير المستغلة للمرحوم الحي «القطاع العام»، والذي يمثل ملفا اقتصاديا مهما يحتاج إلى تحريك هِمم الحكومة ومؤسسات الدولة، حتى لايموت ويذهب في طي النسيان، هذا إلى جانب استكمال البنية التشريعية المحفزة للتنمية الشاملة.
القضية تؤكد بالفعل وبتقصى تجارب الدول الأخرى، وفي النماذج الثلاثة التى طرحناها في مطلع المقال، مدى الحاجة فعلياً لحكومة تخطط وتنفذ وتدقق وتراقب، بدلاً من أن تنتظر أوامر من رئيس، لاشك أن همومه ومسؤولياته أكبر بكثير والطموح في بناء دولة حديثة أكثر تطوراً.