الخميس 27 يونيو 2024

رمضان والأدباء.. حكايات وذكريات

27-5-2017 | 22:24

كتبت : زينب عيسى

يمثل شهر رمضان لكثير من الأدباء والمثقفين فرصة للتأمل والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، بعضهم ينخرط في الأجواء الثقافية والاحتفائية بالشهر الفضيل، وغيرهم يفضل الاعتكاف وقراءة القرآن الكريم، فيما يذهب آخرون إلى أعماق بعيدة مع كتابة رواية أو قصة توحي بها روحانية رمضان وأجوائه التي لا تتكرر خلال العام.

الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة، اعتبر شهر رمضان فرصة للتأمل والاقتراب من الذات والسفر في أعماق النفس منوها بأن "التأمل من أرقى صفات البشر"، فإن تأمل الذكريات الرمضانية يفضي لإدراك معنى وخصوصية "رمضان المصري" حيث الفرحة والبهجة والانتصار للحياة بروح المؤمن والمتطلع دوما لرحمة الله.

وللكاتب الراحل جمال الغيطانى تأملات رمضانية خلابة، ومن بينها طرح كتاب بعنوان "متتاليات رمضانية" يستدعي فيه ذكرياته عن الشهر الكريم ويقول "في طفولتي والرحلة لا تزال في بدايتها كنت أنتظر قدوم أول أيامه كما انتظر حلول ضيف عزيز يصحب معه كل جميل".

وربما لم يكن الغيطاني وحده في طفولته هو الذي تصور رمضان "شيخا مهيبا كل ما يمت إليه أبيض"، ولعل البعض أيضا استمروا مثل هذا الكاتب الراحل العظيم "دون أن يبدلوا الهيئة الآدمية التي تصور الشهر الكريم كشيخ طيب الملامح أبيض الثياب ويثير البهجة في نفوس الجميع".

وفيما كان يسكن أيام طفولته في حارة عتيقة من حارات القاهرة القديمة، فإن أول شعور كان يراود جمال الغيطاني مع حلول شهر رمضان هو ذلك "الشعور العميق بالاطمئنان، حيث تحبس العفاريت وإمكانية اللعب والمرح إلى ساعة متأخرة من الليل".

وفيما تقترب الذكرى الـ44 لحرب العاشر من رمضان، فإن جمال الغيطاني الذي عمل كمراسل حربي أثناء تلك الحرب التحريرية المجيدة استدعى ضمن ذكرياته الرمضانية إصرار المقاتلين المصريين على القتال وهم صائمون رغم صدور فتوى بالإفطار كما استدعى "الوجبة الرمضانية الجاهزة"، التي وفرتها شركات القطاع العام حينئذ للمقاتلين في الشهر الفضيل وكانت تحوى كل المكونات الغذائية الرمضانية التي يعشقها المصريون بما في ذلك "المخلل".

فهذا الشهر الفضيل يستدعى دوما بكل الفخر يوم العبور المصري في العاشر من رمضان 1973، وملامح الحياة في مصر التي عبرت الهزيمة لتحرر أرضها المحتلة في سيناء وتواصل الانتصار لقيم الحق والخير والجمال.

وقد يكون شهر رمضان الكريم محفزا لاستدعاء الطرائف كما فعل الكاتب العراقي الأصل خالد القشطيني، فراح يتحدث بعذوبة عن الشاعر حسين شفيق المصري "وشعره الحلمنتيشي" وإقدامه في هذا الشعر على معارضة المعلقات السبع بقصائد سماها "المشعلقات"!.

ولأن الجوع والعطش في الصيف القائظ أمر يثير أعصاب البعض ويتسبب أحيانا في مشاحنات فقد أوحى ذلك للشاعر الحلمنتيشى حسين شفيق المصري بكتابة "مشعلقة" ينافس فيها قصيدة أبى العتاهية الشهيرة بمطلعها:"آلا مالسيدتى مالها..أدلا فأحمل دلالها".

وهكذا كتب حسين شفيق حسين المصري في معارضته لقصيدة أبى العتاهية: "ألا مالسيدتى مالها؟..أدلا فأحمل دلالها..أظن الولية زعلانة وماكنت أقصد أزعالها..أتى رمضان فقالت هاتولى زكيبة نقل فجبنا لها.. ومن قمر الدين جبنا ثلاث لفائف تتعب شيالها".

ويمضى خالد القشطينى، في استدعاء الطرائف الرمضانية لينقل عن حسين شفيق المصري قوله في هذه "القصيدة الحلمنتيشية" "وجبت صفيحة سمن وجبت حوائج ما غيرها طالها.. فقل لي على أيه بنت الذين بتشكي إلى أهلها حالها" ؟!.

ولئن كان لشهر رمضان تأثيره الكبير على طفولة وتشكيل الكثير من المثقفين المصريين والعرب، فالحقيقة أن الذكريات الرمضانية جزء أصيل من الثقافة المصرية.. فرمضان المصري لدى أجيال وأجيال يعنى الشيخ محمد رفعت بقراءته القرآنية التي تنعش أوتار القلوب وتواشيح النقشبندي والفشنى وفوازير آمال فهمي وصلاح جاهين وألف ليلة وليلة لطاهر أبو فاشا.

وقد يتجلى أكثر وأكثر معنى "رمضان المصري" وروائح البهجة مع تأمل عنوان كتاب لأحد الآباء الثقافيين المصريين والعرب وهو جلال الدين السيوطي صاحب "اللطائف في الكنافة والقطائف"، وهو كتاب عن الحلويات الرمضانية التي يعشقها المصريون بقدر ما يشكل إشارة لمدى ثراء الذاكرة الثقافية الرمضانية المصرية.

وجلال الدين السيوطي الذي ينتسب لمدينة أسيوط ولد عام 1445 وقضى عام 1505 وهو صاحب مؤلفات مهمة في الفقه والتفسير والتاريخ وقام برحلات ثقافية عديدة في مشرق الأمة ومغربها حتى بات من أبرز مثقفي النصف الثاني من التاسع القرن الهجري وله مقام يحمل اسمه في أسيوط.

ولن يكون من الغريب أن تتحول ذكريات رمضان إلى أنشودة حب لمصر والمصريين كما هو الحال في كتابة أديب سوداني الأصل عاش تكوينه في مصر ويقيم منذ سنوات فى النمسا كأكاديمي ومثقف بارز وهو طارق الطيب الذي كتب عن "رمضان في فيينا" فإذا به في الواقع يكتب عن "رمضان في القاهرة"!.

وإذا بطارق الطيب يقول "من أكثر الأحاسيس التي تذكرني بمعنى كلمة وطن الإحساس الوجداني الطبيعي التراكمي لشهر رمضان في القاهرة وسط الأهل والأصدقاء قبل أكثر من ربع قرن وعلى مدى ربع قرن".

ولئن كان طارق الطيب قد رسم لوحة قلميه بديعة لرمضان في القاهرة فقد تناول في الواقع خصائص "رمضان المصري" مستعيدا صوت المسحراتي الباقي في وجدانه حتى الآن والفوانيس الملونة التي حملها وهو طفل صغير وزينة رمضان في الحارات التي كانت تربط شرفات الناس بالألوان والبهجة ليخلص إلى أن "أجواء رمضان في مصر كانت أجواء ثرية ولها مذاق لا يبارى".

و"رمضان المصري" يعنى "الفانوس أبو شمعة المصنوع من الصفيح" والقص الجميل وأروع السير سواء في المدن أو أعماق القرى البعيدة فى الصعيد والدلتا حيث كان الغناء يتصاعد في الأيام الخوالي "أفطر يا صايم على الكعك العايم" أي الكعك "العائم في السمن" !.

وكعك العيد الذي يخبز في رمضان عادة مصرية خالصة ترجع لعصر الدولة الطولونية والفاطميين الذين خصصوا لصناعته وتوزيعه إدارة رسمية في دولتهم بمصر حملت اسم "دار الفطرة" كما تقول كتب التاريخ وكما يشهد متحف الفن الإسلامي بالقاهرة الذي يحوى قوالب للكعك نقشت عليها عبارات دالة مثل :"كل واشكر مولاك" و"كل هنيئا واشكر".

و"النكهة الرمضانية" مصرية غالبا حتى لكثير من غير المصريين و"رمضان المصري" يعادل حي الحسين الذي لا يكاد يكتمل الشهر الفضيل بالنسبة لكثير من المصريين والعرب والأجانب دون قضاء ليلة في رحاب وعبق هذا الحي القاهري مابين المسجد الحسيني والجامع الأزهر وخان الخليلي.

فما زال حي الحسين علامة رمضانية مصرية بامتياز بحلقات الإنشاد الديني والمقاهي ومشغولات الحرفيين المهرة فيما أمسى شارع المعز لدين الله تحفة للناظرين وبهجة للساهرين بين جنباته التي تعود للعصر الفاطمي والبيوت والأسبلة والوكالات التجارية العتيقة.

وهكذا يحق القول بأن لرمضان المصري خصوصية وأي خصوصية !..إنها الخصوصية المصرية المعبرة عن عبقرية الهوية والطقوس الاحتفالية للمصريين وهم فى الحقيقة يحتفلون بالحياة بقدر ما يؤمنون بحتمية الموت والبعث ويوم الحساب.

والفارق كبير، كبير بين هذه النظرة الإيمانية المصرية للوجود والحياة والموت وبين منظور الإرهاب الذي يريد البعض فرضه على مصر والمصريين !.

ورغم توحش الإرهاب العميل وضرباته الغادرة التي تدمى القلوب المؤمنة في مشرق الأمة ومغربها فان ثقافة الوسطية المصرية التي تتجلى في شهر رمضان الفضيل تبقى في طليعة قوى المقاومة لهذا الإرهاب الذي يكشر عن أنيابه.

وهذه الثقافة بأبعادها الإيمانية وذائقتها الجمالية تتبدى في الإبداع المصري في فنون التلاوة القرآنية والتفاف المصريين للإنصات لأصوات جميلة في عالم التلاوة وفى مقدمة هذه الأصوات الخالدة محمد رفعت وعبد الباسط عبد الصمد ومصطفى إسماعيل.

 

وهاهو طارق الطيب يقول: "الأصوات المرتبطة بشهر رمضان لا تنسى : صوت الشيخ محمد رفعت وصوت النقشبندى ونصر الدين طوبار وعبد المطلب في "أهلا رمضان" ويتساءل: "فهل للجيل الجديد أصواته الرمضانية التى يحتفظ بها وهل ستكون له حاسة صوتية أخرى تستند إليها ذاكرته حين يسير به الزمان في الزمان أو حين ينقله المكان إلى مكان"؟!.

وواقع الحال أن "رمضان المصري" أو هذه الظاهرة المصرية الأصيلة تكشف عن حقيقة الروح المصرية العاشقة للجمال كمنحة ربانية وهبها الخالق للبشر وتطلع المصريين دوما للسماء طالبين عون ورحمة الواحد الأحد واحتفالهم فى الوقت ذاته بالحياة والسعي لمنحها معان تتسق مع المواريث الحضارية المتراكمة على ضفاف النيل.

ولئن حق القول بأن هناك أياد خفية تعبث فى الخفاء وقوى خارجية تشجع الإرهاب الظلامى فان هذا الإيمان المصري يشكل أكبر وأعظم قوة مقاومة لأعداء الأمة بقدر ما يقدم الإجابة على أسئلة الوقت.

فلنتأمل الرحلة الإيمانية للمصري عبر الزمان وهذه الأنماط من التدين المتسامح للمصري الذي لا يملك سوى إيمانه بالله فى عمق أعماقه لأنه وارث تاريخا مديدا من التجارب الإيمانية الفردية والجماعية ولنتأمل هذا الإيمان المصري المنتصر للحياة والذي لا يعرف التجهم رغم المحن.

ولأن المصري مؤمن بالفطرة فهو يرفض اليأس ولا يتخلى أبدا عن يقينه في رحمة الله التي وسعت كل شيء..أنه المصري الذي يحمل البهجة وعشق الجمال لأن الله جميل يحب الجمال كما يردد المصريون دوما.

كل ذلك يدركه أعداء مصر والمصريين ومن ثم فهم يحاولون ضرب روح مصر بجلب أنماط مغايرة من تعبيرات وسلوك مضاد للإيمان المصري !..إنه "التدين المغشوش الذي يحاول إقامة خصومة وقطيعة بين المواريث الإيمانية للمصريين وتراثهم الثقافي وسلوكهم".

تدين مصطنع يصادم جوهر الدين ومقاصده ويدعو للموت ويعادى الحياة والبسمة والبهجة البريئة والروح المصرية الساخرة التي تهد جبال المصاعب وتتجاوز أخاديد الهموم !.. إنها روح مصر المؤمنة والطيبة التي منحت مذاقا خاصا حتى لشهر رمضان الذي يجمع القاصي والداني على أن مذاقه المبهج لا يتجلى في بلد مثل مصر.. حتى التلاوة المصرية للذكر الحكيم لها طابعها الجمالي البالغ العذوبة.