الخميس 9 مايو 2024

من ورائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (35)


د. محمد غنيم

مقالات2-10-2021 | 19:18

د. محمد غنيم

آثار فخارية مزججة بالمينا - متحف اللوفر في باريس

لم يبرع المصري القديم في صناعة الفخار وزخرفته وإنتاج أشكال متنوعة منه فحسب بل طور هذه الصناعة عبر تاريخه الطويل، وظهرت أنواع جديدة من الفخار أكثر صلادة وتحملاً، وأكثر نعومة وصقلاً، أكثر تنوعاً، وأكثر تلبية لأغراض ومتطلبات الحياة المختلفة، من حفظ أطعمة ومشروبات أو سوائل أو عطور، أو لأغراض الزينة، أو غيرها من الأغراض الوظيفية والتطبيقية.


فإلى جانب اتقان المصريين لصناعة الفخار من طينة النيل السمراء، صنع المصريون القدماء الخزف، الأكثر صلادة وتحملاً، والأكثر صقلاً ونعومة، والأقل مساماً، من الصلصال الجيري، وهو عبارة عن حجر أبيض ضارب إلى الصفرة توجد في رواسب الحجر الجيري، التي تكونت في عصور جيولوجية سابقة، عندما رسب نهر النيل البدائي وروافده هذا الصلصال على طول وادي النيل، من إسنا  جنوب مصر إلى القاهرة في الشمال، وعلى أطراف دلتا النيل وفي الواحات. ويقول البعض أن هذا التطور في صناعة الفخار إلى صناعة الخزف إنما كان في القرن السادس قبل الميلاد تقريباً عندما استوطن الخزافون الأغريق  منطقة "نوقراطيس" في شمال الدلتا، هي نفسها المعروفة اليوم باسم (كوم جعيف) التي تتبع مركز إيتاي البارود، مُحافظةِ البُحيرة، جنوب شرق مدينة الإسكندريّة بحوالي 72 كيلومتراً . كانت نقراطيس، ناوكراتيس والتي تعني "المدينة ذات السطوة على السفن" المستعمرة اليونانيّة الوحيدة والدائمة في مصر، وكانت مركزاً للتبادل التجاري، وملتقى للثقافة والفنون المصرية واليونانية. 
يتكون الصلصال الجيري، المكون الرئيس للخزف، من نسبة عالية الكالسيوم، وهو غني بالأملاح المعدنية، وغالبًا ما يحتوي السطح الخارجي على طبقة رقيقة من الملح الذي يشكل طبقة سطحية بيضاء عند حرقه، والتي يمكن أن يخطئ الشخص الغافل بينها وبين «التزجيج». تصبح هذه الطبقة في درجة حرارة (نحو 1000درجة مئوية) زيتونية اللون وشبيهة بالتزجيج الأخضر. استُخدم الصلصال الجيري، الذي ينتج خزفاً عالي الجودة عن الفخار العادي، بشكل أساسي لأدوات التخزين والزينة مثل الأواني التي تُصنع على هيئة أشكال مختلفة.


ولم يقتصر الابداع التقني في مصر القديمة على انتاج مشغولات فخارية مختلفة اللون، والشكل، والوظيفة، بل عبره إلى انتاج منتجات خزفية ذات ألوان زاهية، وملمس ناعم مصقول، وتتميز بقوة التحمل، وقلة المسام أو نعدامها، ليصل إلى مرحلة عالية الجودة من الانتاج تتمثل في الفخار المزجج بالمينا.


والمينا enamel مادة كانت تستخدم في طلاء الآنية الفخارية والمعدنية قديماً، وهي مسحوق زجاجي من الرمل وقد يضاف إليه قليل من البوتاس، ويضاف اللون المرغوب من الأكاسيد اللونية المعدنية، يتم مزج الخليط، وطلاء الإناء الفخاري به، ويتم ادخاله الفرن في درجة حرارة تتراوح بين 750-850 درجة مئوية، عندها وونتيجة الاختلاط والتداخل بين ذرات المينا ومادة الإناء الفخاري أو المعدني تثبت المينا، وتتحول إلى مادة صلبة، ملساء ملونة، زجاجية  المظهر والطبيعة.


عُرفت المينا في مصر القديمة وبلاد الشام وبلاد ما وراء النهرين منذ الألف الثاني ق.م، وكان يُطلى بها الفخار، كما استعملت أيضاً في تزيين المعادن. وقد جاء اكتشافها مصادفة حين كان الصناع المصريون القدماء يصهرون فلزات النحاس المخلوطة بالرمال، وكان الرمل يتحد بأكسيد النحاس ويطفو في صورة خبث مزجج على سطح مصهور النحاس، فيكشطه الصناع ويتخلصون منه، وقد لوحظ تجمد هذه المادة وتبلورها بعد تبردها، فجربوا أن يطلوا بها الأواني الفخارية وهي في الحالة المائعة، وقد استعملت هذه المادة كذلك في فارس وبيزنطة. 


ويذكر البعض أنه تم استخدام المينا في البداية كأسلوب لتثبيت قطع الأحجار الكريمة بإحكام في مكانها منذ الألف الثالث قبل الميلاد، في بلاد ما بين النهرين، ثم مصر.

وأن أقدم الأشياء المعروفة باستخدام المينا هي مجموعة حلقات معدنية من قبرص، يرجع تاريخها إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، على الرغم من وجود بعض القطع الأثرية المصرية التي استخدمت المينا فيها، بما في ذلك بعض مجوهرات مقبرة الملك توت عنخ آمون، التي تعود إلى عام 1325 ق.م تقريباً، والتي استخدمت فيها عجينة زجاجية ملونة كما في القناع الشهير له، إلا إن البعض يشكك في أن عجينة الزجاج قد صهرت بشكل كافٍ ليتم وصفها بشكل صحيح على أنها من المينا، واستخدام مصطلحات مثل "معجون الزجاج" قد يكون هو الأنسب في الحالات المصرية، ومع ذلك فإن نقطة انصهار الزجاج والذهب كانت قريبة جدًا من جعل المينا تقنية قابلة للتطبيق.  ويبدو أن هناك بعض الأمثلة الفعلية للمينا ظهرت في مصر القديمة، ربما من الفترة الانتقالية الثالثة (بداية 1070 ق.م) وما بعده،  لكنها ظلت نادرة.
والحقيقة أن المصريين القدماء قد اخترعوا فن تغطية الفخار بالمينا في وقت مبكر جدًا، كما غطوا المصنوعات المصنوعة من أنواع معينة من الأحجار مثل الحجر الصابوني (أو الحجر الأملس)، الذي يتحمل حرارة كبيرة دون تكسير، حيث نحت المصريون منه قطعًا صغيرة – مزهريات، وتمائم، وتماثيل لآلهة وحيوانات وأشياء أخرى - وغطوها بالمينا الخضراء والزرقاء وأحيانًا الحمراء والصفراء والبيضاء،  التي أصبحت عند حرقها لامعة ودائمة.
 كانت الأشياء المصنوعة من الحجر الصخري المطلي بالمينا معروفة منذ الفترات المبكرة جدًا. تحمل أسطوانة صغيرة عثر عليها في طيبة (الأقصر)، وخرطوش الملك أمنمحات الثالث، من الأسرة الثانية عشرة (حوالي 2000 ق.م)، المينا خضراء باهتة، بيضاء تقريبًا، باستثناء الخطوط المنقوشة، حيث تظهر لونًا أكثر، كونها أكثر سمكًا.
وعادة ما تقوم المينا بدور الحماية والوقاية والعزل للإناء الفخاري الذي تغطيه، كما تستخدم للزينة أيضا. فعادة ما تتميز طبقة المينا بالعديد من الخصائص المفيدة، أهمها: أنها طبقة مصقولة ملساء ناعمة مثل الزجاج، كما أنها صلبة جدًا وأكثر مقاومة للخدش، وغير قابلة للاحتراق، ومقاومة لتأثيرات المواد الكيميائية، وغير قابلة للتغير اللوني، كما أنها غير مسامية وأقل نفاذية للماء والسوائل، إضافة إلى ألوانية الزاهية الجميلة إذا اضيف إليها أكاسيد لونية. وجميعها صفات جعل من الآنية التي تغطيها ذات استخدامات عديدة.  


ومع أن مثل هذه التقنية لم تكن شائة ومنتشرة على نطاق واسع، بل غالباً ما كانت قليلة، إلا أن المتاحف تحتفظ بالعديد والعديد من الأواني والتماثيل الصغيرة المصنوعة من الفخار المكسو بطبقة المينا المزججة ذات الألوان التي لا زال بريقها يبهر حتى اليوم. 


من هذه المقتنيات، مجموعة من الآثار الفخارية المزججة بطبقة من المينا، من مقتنيات متحف اللوفر في باريسن منها: كأس ذو فوهة شبه مستطيلة، يأخذ بدنه شكل زهرة اللوتس المصرية، التي ترمز للخروج إلى الحياة، يعود تاريخه إلى عصر الأسرة الثانية والعشرين (945-715 ق.م تقريباً)، مزجج بطبقة مينا زرقاء فاتحة اللون من الداخل والخارج، وإن تآكلت طبقة المينا داخل الكاس. وهناك نموذج آخر مثيل له، ذو فوهة مستديرة، من مقتنيات متحف الفنون الجميلة في بوسطن ويعود تاريخها إلى 1479-1353 ق.م تقريباً، عليه طبقة تزجيج، من الداخل والخارج، ذات لون أزرق مميز.

 اثار
صورة (). كأس على شكل زهرة اللوتس، ذو فوهة شبه مستطيلة، من الفخار المطلي بطبقة من المينا الزرقاء، متحف اللوفر في باريس، الأسرة الثانية والعشرين (945-715 ق.م تقريباً).

وهناك نموذج غاية في الجمال، وهو تمثال صغير من تماثيل الأوشبتي (خادم المتوفي) للفرعون سيتي الأول (1301-1290 ق.م) الأسرة التاسعة عشر، من الفخار الفخار أو الخزف المطلي بطبقة من الميناء الزرقاء الزاهية، والتي تحتوي على كتابات هيروغليفية، وخطوط سوداء اللون.من مقتنيات متحف اللوفر في باريس. في مصر القديمة ، كان اللون الأزرق (irtyu) هو لون السماء وبالتالي يمثِّل الكون.
ومن أجمل النماذج أيضا إناء فخاري عليه طبقة تزجيج شفافة، ومزخرفة بكتابات هيروغليفية محفورة ومملؤة بالمينا الزجاجية الزرقاء اللون، في إطار اسطواني بحد أزرق اللون ايضاً. والخط يقرأ من الوسط ثم اليسار ثم اليمين، ومن أعلى لأسفل: 
من الوسط: "وهب الإله "نب ماعت رع" الحياة"
على اليسار:  "ابن رع، "أمنحتب" حاكم "وَست-أوست" (طيبة) إلى الأبد"؛ 
على اليمين: زوجة الملك العظيمة ، "تيي". 
وأمنحتب المشار إليه هنا، هو الملك أمنحت الثالث (1391-1353ق.م)، وهذا الإناء الذي يتزين غطاؤه العلوي بزخارف نباتية، محفورة حفراً غائراً، وتمّ ملء الحفر الممثلة للزخرفة، بالألوان: الأزرق، والأحمر والأبيض، من مقتنيات متحف اللوفر في باريس ومن أجمل الأمثلة على براعة الخزاف المصري القديم.
 تمثال
تمثال أوشابتي، من الفخار الموجج بالمينا الزرقاء، وعليه كتابات هيروغليفية بلون أسود، سيتي الأول (1301-1290 ق.م)، متحف اللوفر في باريس. 

 تنثال
إناء من الفخار المزجج بطبقة شفافة، وعليه كتابات هيروغليفية مزججة بالمينا الزرقاء، بينما الغطاء مزخرف بزخار فنباتية بألوان، زرقاء وبيضاء وحمراء، متحف اللوفر في باريس، عهد أمنحتب الثالث (1391-1353ق.م).

Egypt Air