الأحد 12 مايو 2024

لغز أم كلثوم.. صور نادرة و تفاصيل مثيرة

2-2-2017 | 17:13

إعداد: الكاتب الصحفى عادل عبد الصمد

أمين عام مركز الهلال للتراث

عندما ولدت أم كلثوم كانت عبئًا على أبيها الذى كان يكسب بالتعب والعرق عشرين قرشًا فى الشهر، لكن بعد سنوات أصبح عبء أم كلثوم نعمة على شعب بأكمله، فهى غدت كالماء والهواء فى حياة هذا الشعب، فما هو سر أم كلثوم وماذا وراء لغزها الكبير؟

كيف نشأت هذه العبقرية ثم انطلقت كالصاروخ من أعماق القرية المصرية؟ كيف قطعت هذه الرحلة الطويلة فى حياتها وحياتنا، منذ أن كانت تتقاضى فى الحفلة مليمًا واحدًا إلى أن أصبحت تكسب فى حفلاتها كل ما فى القلوب من عواطف على طول الأرض العربية وعرضها؟

طرح هذه الأسئلة والاستفسارات الكاتب الكبير رجاء النقاش فى «المصور» فى 7 مايو1965 .

يقول :

فى الساعة العاشرة ليلة كل خميس أول يوم فى الشهر، يحدث شىء غريب فى الشرق الأوسط يهدأ الضجيج فى شوارع القاهرة فجأة .. فى الدار البيضاء التى تبعد 2500 ميل إلى الغرب يكف الشيوخ عن لعب الطاولة فى المقاهى، وفى بغداد التى تبعد 800 ميل إلى الشرق يحدث نفس الشىء.

الكل ذهنه مشغول بشىء آخر.. وبين هذين الحدين الجغرافيين على طول الصحراء وعرضها.. يأوى الأعراب إلى خيامهم.. الكل ينتظر برنامجًا معينًا يذيعه راديو القاهرة، مدته خمس ساعات ويذاع ثمانى مرات فى العام، ونجمته مطربة اسمها أم كلثوم.

هذه الكلمات خرجت بها فى يونيو سنة 1962 مجلة «لايف الأمريكية»، فى تحقيق صحفى أعدته فى صفحاتها الأولى عن أم كلثوم، لمراسل المجلة فى الشرق الأوسط جودون جاسكيل.

وقال المراسل الأمريكى فى تحقيقه الصحفى :

هناك فى الشرق الأوسط شيئان لا يتغيران:

أم كلثوم.. والأهرام..

وأراد المراسل فى هذه العبارة أن يقول إن الشرق الأوسط ملىء بالتقلبات السياسية والفكرية وأن أرسخ ما فيه: صوت أم كلثوم والأهرام، فهما لا يتعرضان لأى تغير فى مركزهما وقيمتهما واهتمام الناس بهما.

وكان إحساس المراسل الأمريكى إزاء صوت أم كلثوم صادقا، فمنذ أن كانت أم كلثوم صبية صغيرة أثناء الحرب العالمية الأولى، وكانت تأكل «الكرملة» وتموت فى حب المهلبية منذ ذالك الحين، وأم كلثوم تصعد إلى عرش الفن دون أن تتراجع خطوة واحدة إلى الوراء، بل دون أن تكتفى بالتطور الهادئ لأنها كانت على الدوام تقفز إلى الأمام فى سرعة الصواريخ.

وقصة حياة أم كلثوم لا تقل عظمة وروعة عن قصة فنها الرفيع .

أم كلثوم الفلاحة

بدأت هذه القصة فى الريف المصرى، حيث ولدت فى قرية (طماى الزهايرة) وكانت أمها فلاحة اسمها (فاطمة المليجى) أما أبوها الشيخ إبراهيم فكان إماما لمسجد القرية، كان يقرأ فى المولد ويغنى بعض التواشيح والقصائد الدينية، ومجمل دخله فى الشهر لا يزيد على 20 قرشًا.

وفى هذا البيت الدينى الفقير، الذى نبع منه اسم أم كلثوم، نشأت سيدة الغناء العربى، حيث كان السبب فى اختيار اسمها دينيًا أيضا، فقد أراد والدها أن يتبرك بالنبى فسماها على اسم بنت من بناته .

وهكذا خرجت أم كلثوم من القرية المصرية شأنها فى ذالك كغيرها من عظماء تاريخنا الحديث فى ميدان السياسة والدين والأدب والفن، فمعظمهم نشأ فى القرية المصرية وخرجوا من بين الفلاحين المصريين.

فعرابى كان فلاحا من قرية هربة رزنة، ومحمد عبده كان فلاحًا من قرية محلة نصر، وسعد زغلول كان فلاحا من قرية إبيانة، وعبد الناصر فلاح من قرية بنى مر، وطه حسين فلاح من إحدى قرى الصعيد.

والقرية المصرية المنجم الذى ضم بين جوانحه معظم الكنوز البشرية فى حياتنا وتاريخنا الحديث كله .

ومن هذا المنجم، خرجت أم كلثوم وهى تصف لنا قريتها فنحس من هذا الوصفبرائحة ترابها وحواريها وأزقتها، وندرك أنها قرية صغيرة قابعة فى أعماق الريف وليس لها علاقة بالمدينة من قريب أو بعيد.

تقول أم كلثوم فى وصف قريتها التى تشبه جميع القرى المصرية وخاصة قبل الثورة:« قريتنا الصغيرة طماى الزهايرى بمركز السنبلاوين، متواضعة أعلى بيت فيها لا يزيد على طابقين، وأكثر مظهر للثراء فيها عربة حنطور يركبها العمدة ويجرها حصان واحد، ولا أذكر أن مرت بها سيارة، فلم يكن فى القرية كلها إلا طريق واحد يتسع لمرور عربة العمدة وبضعة طرق أخرى تتسع لمرور حمير الخفراء وشيخهم، وكنت أغنى فى القرى المجاورة وكانت كلها صغيرة فكنت أحسب أن مركز السنبلاوين، أكبر مدينة فى الدنيا».

وصلة أم كلثوم بالريف والفلاحين ليست محدودة بمجرد الميلاد ولا لأنها غنت فى عدد من القرى، كلا لقد عرفت أم كلثوم ريف مصر كله ومشت فى «سككه» الزراعية المليئة بالتراب، وعرفت كل شيء عنه قبل أن تخطو بأقدامها إلى القاهرة، لذالك فهى تقول «لقد مسحت بقدمى الصغيرتين القطر المصرى كله قرية قرية قبل أن أنتقل إلى القاهرة».

هكذا لم تعلن أم كلثوم فى مدرسة ولا فى جامعة، بل تعلمت فى الحوارى والأزقة، وتتلمذت على الذوق العربى فى أبسط صوره وأصدقها.

 تتلمذت على ذوق الفلاحين المصريين الذين طحنتهم الأيام، وواجهوا الدنيا بصبر وعمل، ليس لهما حدود، وليس من المبالغة فى شىء أن نقول إن «الصبية الصغيرة النابغة أم كلثوم كانت البلسم الشافى لجراح المصريين فى الأيام الحزينة التى مرت بمصر خلال السنوات 1916 و1918 أيام الحرب العالمية الأولى فى الفترة التى كان المصريون يساقون إلى الحرب بطريقة مؤلمة، ولم تكن هناك عائلة فى الريف لم يمسها هذا الجرح بشكل من الأشكال».

وكانت «الصبية الصغيرة أم كلثوم بأناشيدها الدينية وتواشيحها القديمة هى المواساة الحقيقية للشعب ولعل هذه الصورة للفتى يرسمها لنا المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى، تبين لنا قيمة المواساة التى قدمتها الفنانة الصبية للشعب، دون أن تدرى ذلك أو تفهمه».

يقول الرافعى:

»لقد جندت السلطة العسكرية العمال فى مختلف أرجاء البلاد لاستخدامهم فى أعمال الجيش البريطانى وبلغ تعدادهم نيفا ومليون مصرى وكانوا يؤحذون كرها باسم المتطوعين وما هم بمتطوعين ويعاملون معاملة المعتقلين ويجرون بالحبال، ويساقون كالأنعام والأبقار وينقلون بالقطارات.. مات كثيرون منهم فى ميادين القتال أو فى صحراء سيناء والعريش أو فى العراق أو فرنسا «...

«فى هذا الجو الحزين كانت أم كلثوم تمسح قرى مصر بحثا عن رزقها ورزق أسرتها فى مقابل ما تقدمه من فن إلى جماهير الفلاحين، وكانت تذهب إلى هذه القرى ماشية على اقدامها أو راكبة على ظهر حمار أو فى إحدى عربات الدرجة الثالثة فى قطارات الدلتا القديمة، وهكذا كانت أم كلثوم منذ اللحظة الأولى فى حياتها تلعب دورا سياسيا وإنسانيا فى حياة الفلاحين، وكانت بالتأكيد تلعب هذا الدور دون أن تدرى أنها تقوم به وأنها تخفف عن الفلاحين آلامهم ومأساة حياتهم فى ظل الحرب».

«وكانت حياة القرية تفرض نفسها وتقاليدها على أم كلثوم فى اختيار أغانيها الدينية من ناحية، وملابسها التى كانت تظهر بها فى حفلاتها المختلفة «

 

جاءت أم كلثوم إلى القاهرة أول مرة لتغنى فى بيت عز الدين يكن بك بحلوان وبهرت الحاضرين بصوتها وعلى رأسهم الشيخ إسماعيل سكر، فأخذ يشجعها ويدعوها إلى التكرار.

وفى القاهرة ارتبطت بأسرة عبد الرزاق التى لمع منها فى حياتنا الفكرية اثنان هما الشيخ مصطفى عبد الرازق وعلى عبد الرازق واستفادت أم كلثوم من ارتباطها بهذه الأسرة.

كان التغير الفنى الذى حصل لها منذ عام 1923 فى الملبس وفى مصاحبة الآلات لها فى الغناء، حيث  بدأت سيدة الغناء العربى تشدو بمصاحبة الآلات الموسيقية وكانت تجربتها الأولى تتمثل فى قصيدة لعلى الجارم مطلعها :

مالى فتنت بلحظك الفتاك وسلوت كل مليحة إلاك

واستمرت أم كلثوم تطور فنها، حتى استطاعت أن تصل إلى قمة المجد وعرش الطرب الأصيل.

ويختم رجاء النقاش مقاله عن لغز أم كلثوم، قائلا إنها «ملحمة فى حياتنا رائعة، استطاعت أن تعبر عنا منذ صباها الأول وخلال ما يزيد على 40 عامًا متصلة فأحبها أجيال شعبنا المختلفة من رجال ونساء وأطفال، من عاشقين وعاملين ومتصوفين وثوار، لأنها عبرت عن كل هذه المشاعر بالحب والعمل والثورة والتصوف».

«من أجلنا بدأت هذه الملحمة من القرية المصرية، واليوم تعيش هذه الملحمة فى قمتها بين ربوع الوطن العربى كله من الخليج إلى المحيط».

    Dr.Radwa
    Egypt Air