بقلم : يوسف القعيد
أبدأ بشرح العنوانين أولًا. رغم أن هذا – من الناحية الحرفية والصحفية فى فن الكتابة قد يكون خطأ – فالعنوان الذى يحتاج إلى شرح قد لا يصلح أن يكون عنوانًا. ولا يجب استخدامه. لكن بسبب دلالات وحكايات العنوانين أبدأ بهما. خصوصًا أنهما ربما يقولان الكثير عما تمر به مصر الآن.
حتى كلمة الآن غير دقيقة. ويجب أن أقول إن ما تمر به مصر الآن يعد امتدادًا لما تعرضت له البلاد منذ أن قالت كونداليزا رايس – لست أدرى وقت أن قالت هذا الكلام هل كانت وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية؟ أو مسئولة الأمن القومى فيها؟ – قالت: بالفوضى الخلاقة، وما أدراك ما الفوضى الخلاقة؟!.
توشك عبارة الفوضى الخلاقة أن تكون مقدمة جملة وخبرها جاء على لسان مسئول أمريكى آخر – ربما كان كونداليزا رايس نفسها – عن الشرق الأوسط الجديد. ومرة أخرى أتساءل: وما أدراك ما الشرق الأوسط الجديد؟. إنه استبدال لمسمى الوطن العربى باعتبار أن الوطن العربى شوكة فى حلق أمريكا والغرب. إن استبدال الاسم بالشرق الأوسط الجديد يجعله المنطقة التى يسود فيها العدو الإسرائيلى. ولا يبقى من دول حوله لها قيمة. تصبح هى المهيمنة والمؤثرة والمسيطرة.
لقد نجحوا – وليتهم باءوا بالفشل – فى أن تهتز صورة العراق وأن تهتز صورة سوريا، وبقى من أركان الوطن العربى القديم مصر. ولا بد أن تبقى من الآن وإلى الأبد. أول مفردات الوطنية المصرية أن نسلمها – مصر التى لا مصر إلا مصر – كما تسلمناها لا تنقص حبة رمل واحدة. ولا قطرة مياه واحدة. ولا نسمة هواء واحدة.
أعود للعنوان بعد هذه الاستطرادات. وعذرًا للاستطرادات، لأن الأمر عندما يدور حول مصر يفقد الإنسان ثوابته الأساسية وربما توازنه وتسيطر عليه أجواء الأساطير. فالكتابة عن مصر والغناء عن مصر وقول الشعر عن مصر، وحكى الحكايات عن مصر يخرج الإنسان من سياقه الطبيعى إلى وضع شبه استثنائى.
مرة أخيرة أعود للعنوان. والعبارة قالها فى قديم الزمان وفجر التاريخ: كعب الأحبار: من أرادها بسوء قصمه الله. ولا يجب أن نكتفى بترديدها. فنبدو مثل البخيل الذى لا يملك سوى ماضيه، ويحافظ عليه ولا يبدده. لا بد أن نكمل ونقول وقصمناه نحن. ولكن بطريقة تليق بمصر. واسم مصر. وتاريخ مصر، وإنجاز مصر التى أجمع مؤرخو العالم وفى المقدمة منهم جيمس هنرى بريستيد، على أن مصر هى التى اخترعت الضمير الإنسانى وهى التى أهدته للبشرية جمعاء. وعندما تتحدث الدنيا عن الضمير لا بد أن تقول الضمير المصرى. وأن تنحنى أمام مصر. لأنها هى التى قادت الدنيا إلى الضمير.
هذه العبارة قدَّم بها الدكتور حسين فوزى كتابه الشهير: سندباد مصرى. جولات فى رحاب التاريخ المصرى. وقد صدر الكتاب قديمًا ونظرت له بريبة. ولم أقبل على قراءته لإحساسى أن الرجل يحاول مواجهة المد القومى العربى فى مصر، بالتأكيد على فرعونية مصر. وأنه يحاول مواجهة مشروع عبد الناصر بمثل هذا الكتاب.
لكن ما أكثر الأحكام التى يمكن أن نستريح لها وأن نعتبرها من ثوابت عمرنا. رغم أن قادم الأيام ربما أكد لنا خطأ ما كنا نؤمن به. فالكتاب رحلة بالغة العذوبة والجمال فى تاريخ مصر. ليس تاريخ مصر السياسى، ولكن الاجتماعى والإنسانى، على شكل حكايات جميلة وعذبة. ولو أن هذا المقال سمح لى لاستطردت أكثر فى الكتابة عن حسين فوزى، الذى عرفته. وكانت لى معه حكايات.
أما اشتدى يا أزمة تنفرجى، فربما كتبها المؤرخون الذين أرخوا لمصر الإسلامية تاريخًا اعتمد على ذكر ما جرى فى اليوم والليلة. ولأننى أكتب من الذاكرة وليست لدىَّ ما لدى المؤرخين المحترفين من أدوات يعودون لها وقت الكتابة. فما زلت أذكر أنه يأتى بعد اشتدى يا أزمة تنفرجى بيت آخر من الشعر: قد بان الفجر من البلج.
أكتب هذا الكلام بعد ما جرى فى المنيا. ولدىّ تفاصيل يمكن كتابتها كثيرًا. ربما كانت أكثر من الهم على القلب. لكن ما جدوى كتابة هذه التفاصيل التى قد تصدر اليأس للناس ولا تخدم فى النهاية سوى المتطرفين والإرهابيين الذين يريديون رأس مصر. واسم مصر وتاريخ مصر، ورئيس مصر.
أى فائدة يمكن أن تعود علينا عندما أكتب الآن عن التقصير والقصور الفادح الذى جرى فى المنيا، وأطالب بمحاسبة المقصرين. أى فائدة يمكن أن أكتبها عما يتصوره المتطرفون من نجاحهم فى العملية. وهروبهم – حتى الآن – لأن لدىَّ ثقة مطلقة فى جيشنا الباسل وشرطتنا العظيمة ومخابراتنا اليقظة وأمننا الوطنى المقدام فى أنهم لا بد أن يضعوا أياديهم وبالتالى أيادينا جميعًا على القتلة والمجرمين الذين لا بد من الثأر منهم، لا بد أن نأخذ منهم ثأر مصر، وثأر أهل مصر.
أشفى غليلى بلا حدود سرعة الرد الحاسمة التى قامت بها قواتنا المسلحة وطائراتنا التى حلقت فى سماء مصر وضربت أماكن تجمع القتلة فى ليبيا، التى أعتقد أنها من الآن فصاعدًا ربما تصبح – لا قدر الله ولا كان – مصدر الخطر الحقيقى على بلادنا. وبالتالى لا بد من الاهتمام بكل ما يجرى فى ليبيا ويحدث على أرضها واعتباره مؤثرًا بشكل أو بآخر على مصر.
هل أقول إن هذا ثمن النجاح غير العادى الذى حققته القوات المسلحة والشرطة فى سيناء؟ بعد أن تحالفت قبائل سيناء معهما؟ وتم إحراز نصر أكيد على المتطرفين هناك. وتدمير عدد كبير من الأنفاق. أعتبر أن الموقف الجديد لبعض قبائل سيناء – وأتمنى أن أقول قريبًا كل قبائل سيناء – وهو التطور الحاسم والخطير الذى حسم ما يجرى هناك قبل أن يتحول لحرب استنزاف. لا يعرف إلا الله متى يمكن أن تنتهى؟.
الرئيس عبد الفتاح السيسى حذر مبكرًا جدًا – أبكر مما ينبغى – من أن من كانوا فى سوريا والعراق وخرجوا منهما بعد الحصار والقتل والتدمير ووقوف الجميع ضدهم. فإن وجهة القتلة ستكون مصر. وقبل أن يقول الرئيس السيسى ما قاله، فنحن نعرف جميعًا أن الهدف الجوهرى مما سمى بالفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد هو مصر. مصر أولًا، مصر ثانيًا، مصر ثالثًا، مصر أخيرًا.
إن هذا الكلام يفرض علينا أن نتعامل مع الأمر باعتبارنا نمر بحالة حرب. وبالتالى لا بد أن نعيش بمنطق الحرب. وأنا فى حيرة من أمرى من موقفنا من قانون الطوارئ. لماذا لا يطبق؟ وأنا فى حيرة من أمرى من عدم إحالة القتلة والجناة فى مثل هذه القضايا إلى القضاء العسكرى. حتى لو كان الأمر تعديلًا قانونيًا. فمن الذى يمكن أن يتأخر عن مصر فى مثل هذا الموقف؟!.
لن أقترب من ديدان الجرح الغائر. وأتساءل هل يعقل أن تستمر محاكمات القتلة الإخوان منذ ٢٠١١ حتى الآن؟ لدرجة أنها أصبحت تنافس مسلسلات رمضان التليفزيونية. إن هذا التراخى فى التعامل معهم – وليسمح لى أهل القضاء بالتطفل على عوالمهم ومحاولة الاقتراب من عملهم الدؤوب – أقول إن الأمر يتطلب قدرًا أكثر من الحسم والحزم لأنه عندما يتصل الأمر بكيان مصر فلا بد أن تكون ردود الأفعال على نفس المستوى.