الثلاثاء 28 مايو 2024

14 يوماً فى بلاد المارد الأصفر

31-5-2017 | 11:55

رسالة بكين : هالة حلمي- عزة صبحى

لاشك أن الحضارة الصينية القديمة الضاربة بجذورها لآلاف السنين تعد واحدة من أهم وأقدم الحضارات فى العالم، ولكن ما حققته جمهورية الصين الشعبية فى العقدين الأخيرين وجعل منها ثانى أكبر اقتصاد فى العالم أمر يعد استثنائياً ويستحق الدراسة والتأمل...

إبهار، فخامة، رفاهية، الالتزام بالقانون، النظام، النظافة، الدقة فى العمل. هذا هو الانطباع الأول الذى شعرنا به عند وصولنا إلى العاصمة الصينية بكين، مدينة الشباب والدراجات والزهور الملونة والشرفات العملاقة والـ٢٢ مليون نسمة..

وصلنا إلى الصين للمشاركة فى دورة تدريبية للمسئولين الإعلاميين والصحفيين بدعوة من وزارة التجارة الصينية ومؤسسة النشر والتوزيع فى إطار مبادرة الحزام والطريق.

بمجرد الوصول إلى مطار بكين تبدلت الصورة الذهنية التى حملناها معنا من القاهرة لبلد المليار و٤٠٠ مليون نسمة.

مطار بكين يستخدم التكنولوجيا المتطورة لاستقبال الأفواج الكثيرة من الزوار والسائحين من كل بلاد العالم الذين يصطفون فى طوابير طويلة لإنهاء إجراءات الدخول وسط إجراءات أمنية مشددة، وكان من اللافت للنظر تلك العبارة المكتوبة على أحد الأعمدة فى المنطقة الخاصة بدخول الزوار الذين لا يحملون أمتعة يستحق عليها رسوماً جمركية العبارة تقول «وفقاً لقوانين جمهورية الصين الشعبية ادفع رسومك الجمركية بدقة وضمير» فقط هذه العبارة دون أى مضايقات أخرى من موظفى الجمارك.

تصادف وصولنا إلى بكين مع موعد انتهاء العمل فى السادسة مساء حيث تصبح شوارع العاصمة الواسعة جداً مكدسة بالسيارات والدراجات والفيسبا التى يستخدمها المواطنون من جميع الأعمار والمستويات كحل عملى لأزمة المرور التى تعانى منها بكين، وهو الأمر الذى دفع الحكومة إلى فرض تطبيق نظام القرعة لمن يريد شراء سيارة جديدة.. السيارات التى يركبها الصينيون على أحدث وأرقى طراز «بى أم دبليو- مرسيدس- فورد- مينى كوبر- لاكزاس». أما الجيلى وما شابه المنتشرة فى مصر فلا وجود لها فى شوارع بكين.

شوارع العاصمة بكين واسعة جداً، فى كل شارع حارة مخصصة للدراجات والفسب، ويستخدم سكان بكين شبكة كبيرة من المواصلات العامة ومترو الأنفاق الذى تزيد خطوطه على ثلاثة عشر خطا معظمها تحت الأرض.

ويستخدم ٢٣٪ من سكان بكين الدراجات، وهى فى الغالب غير مملوكة للأفراد لكن يتم تأجيرها عبر شركات حكومية وخاصة من مواقف خاصة للدراجات، ويعتبر الشعب الصينى من أوائل من استخدم ما يسمى بحافظة النقود الافتراضية على هواتفهم النقالة. حيث يتم استخدام خدمات الدفع الإلكترونى عبر الهاتف النقال لإيجار الدراجة، وشراء تذاكر السينما والمترو وشراء الطعام.

أما المناخ فيشبه إلى حد كبير المناخ فى القاهرة حيث الحرارة والرطوبة ويرتدى الكثيرون من سكان بكين الكمامات خوفاً من نسبة التلوث التى يقال إنها مرتفعة جداً فى بكين لكننا لم نشعر بها ربما لتعودنا على التلوث فى القاهرة. الشعب الصينى شعب ودود يقابلك بترحاب وابتسامة عريضة ولكن مشكلتة أنه لا يفهم ولا يتحدث سوى اللغة الصينية إلا عدد قليل من الشباب الصينى يتحدث الإنجليزية بلكنة صينية.

بجولة سريعة فى شوارع بكين تدرك حجم وفخامة النمو الاقتصادى الذى حققه هذا البلد فى فترة وجيزة، ندرك أيضاً اختفاء أى مظهر من مظاهر التقشف القديمة. الحياة الآن على الطراز الغربى المقاهى والمطاعم العالمية تنتشر فى كل مكان، المراكز التجارية الضخمة التى تبيع السلع الرفاهية والمجوهرات والماركات العالمية تعج بالمشترين الصينيين. حتى مظهر الشباب الصينيين فى ملابسه وسلوكه لم يعد يختلف كثيراً عن الشباب الغربى . صحيح أن مازال هناك مساكن قديمة تشهد على مرحلة الستينيات والسبعينيات وهى تشبه إلى حد بعيد المساكن الشعبية التى أقيمت فى مصر فى نفس الفترة، ومساكن أخرى أقدم تشبه الحارات الشعبية عندنا وهى ما تقوم الحكومة الصينية الآن بإزالتها تماماً وبناء العمارات الضخمة الحديثة مكانها.

لكن بكين فى معظمها تكسوها حلة من المبانى الجديدة الفارهة التى لا تخلو من لمسة تتعلق بالحضارة الصينية القديمة. يبدأ سعر المسكن الذى لا تزيد مساحته على مائة متر من مليون يوان إلى عشرة ملايين يوان كما أكد لنا من سألناهم من الصينيين ولذلك يكون الحل هو اللجوء إلى نظام الإيجار، وفيما يتعلق بالتعليم والصحة فلم يعد هناك شىء مجانى. كل الخدمات برسوم حتى لو كانت رمزية. التعليم مثل مصر حتى الثانوى بمصاريف قليلة، لكن التعليم الجامعى له شروط خاصة، كله بمصروفات ويشترط أن يجتاز الطالب امتحاناً خاصاً تزداد صعوبته كلما ارتفع مستوى الجامعة وقلت مصاريفها. لايدخل التعليم الجامعى سوى ثلثى خريجى الثانوى فقط.

وفى زياراتنا لميدان السماوى (تيانامن) حيث مقر الحزب الشيوعى والبرلمان والمقر الرئاسى لاحظنا عمليات التفتيش الامنية الدقيقة قبل السماح لاى شخص بالمرور إلى الميدان ربما حتى لا تتكرر حالة الفوضى والمظاهرات التى شهدها الميدان عام ١٩٨٩ وانتهت بماعرف بمجزرة الطلبه عندما فتح الجيش الصينى النار على المتظاهرين ما تشهده الصين الآن لم يكن ليحدث لولا النمو الاقتصادى الكبير الذى حققته الصين قبل عقدين من الزمان وما زال مستمراً رغم الأزمات المالية العالمية، حيث بلغ معدل النمو فى بعض السنوات ١٠٪ ويصل الآن إلى ٦.٧٪ وتهدف إلى خفضه إلى ٦.٥٪ لأنه المعدل الطبيعى لظروفها الاقتصادية الحالية وفى تجربة استثنائية غير عادية نجحت الصين خلال الخمسة وثلاثين عاماً الماضية فى إخراج ثمانين مليون مواطن من تحت خط الفقر، وتهدف الخطة الخمسية الحالية ٢٠١٦-٢٠٢٠ إلى إخراج من تبقى من سكان الصين من تحت خط الفقر.

كما أتاحت التجربة الصينية فى التنمية ملايين من فرص العمال من مواطنيها بعد إقامة العديد من المدن والمناطق الاقتصادية، وفى السنوات القليلة الماضية عمل رؤساء الصين على تنشيط التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبى ونقل التكنولوجيا من الخارج واكتساب المهارات الإدارية فى الداخل.

وبدأ الإصلاح فى الصين من الريف إلى المدينة ومن الاقتصاد إلى السياسة ومن اقتصاد التخطيط المركزى إلى اقتصاد السوق وتم كل ذلك بشكل متدرج ومرحلى، وأكد لنا الخبراء أن الحكومة القوية من أهم خصائص التجربة الصينية كما أكد لنا المسئولون الذى قابلناهم أن الصين ساهمت بنحو ٢٥٪ من نمو الاقتصاد العالمى وأنها الآن دخلت مرحلة جديدة تحت اسم صنع فى الصين بالابتكار والإبداع بعد سنوات من التقليد وبلغ عدد براءات الاختراع الصينية التى سجلت فى سويسرا فى العام الماضى فقط أكثر من مليون اختراع.

وبعد الفائض المالى الكبير الذى حققته الصين فى إطار البحث عن فرص جديدة للاستثمار جاءت مبادرة الحزام والطريق التى أطلقها الرئيس الحالى شى جين بينج عام ٢٠١٣ لإحياء طريق الحرير القديم الذى كان مساراً تجارياً يربط بين الصين والدول الواقعة غربها امتداداً إلى دول المشرق العربى والبحر المتوسط ثم إلى أوربا.

تروج الصين لمبادرتها بأنها ستضع نهاية لعصر العولمة المتوحشة وفاتحة خير على الدول التى تشاركها التعاون الاقتصادى والاستثمارى فى ظل رغبة مؤكدة من الصين بعدم التدخل فى الشئون السياسية للدول وأن تظل على حيادها فى القضايا الدولية الشائكة.

وتعد مدينتا جيا يوقوان ودونهوانج من المحطات المهمة فى زيارتنا للصين وهما تابعتان لمقاطعة قانسو فى شمال غرب الصين، وتعتبر المدينتان نقطتين مهمتين أيضاً فى طريق الحرير الجديد والقديم الذى مازالت آثاره باقية إلى جانب ما تبقى من سور الصين العظيم فى آخر نقطة له والواقعة فى مدينة جيا يوقوان.

وفى هذا الشأن بالتحديد شاهدنا اهتمام الصين بالحفاظ على التراث الصينى القديم ومظاهر تطوره عبر السنوات سواء فى المتاحف أو فى المناطق الأثرية التى تحولت إلى مزارات سياحية ممتعة ومن الزيارات المهمة لجولتنا للصين زيارة وكالة الأنباء الصينية شيخوا التى تبث خدمة باللغة العربية ومجلة الصين اليوم التى تصدر باللغة العربية أيضاً إلى جانب محطة راديو الصين الناطقة باللغة العربية التى تبث إرسالها إلى العالم العربى منذ ستين عاماً.

كما أن هناك ستين جامعة فى الصين بها قسم خاص لتدريس اللغة العربية والآلاف من العرب يدرسون اللغة الصينية فى الصين، اهتمام الصين بالتواصل الإعلامى مع العالم العربى يعكس اهتمام الحكومة الصينية بالتعاون الاقتصادى والثقافى مع العالم العربى. حيث تعتبر الصين ثانى أكبر شريك تجارى مع الدول العربية التى تمثل ثلث دول مبادرة الحزام والطريق.

ويقول (ووس كه) المبعوث الصينى الخاص السابق للشرق الأوسط إنه فى إطار هذه المبادرة تم تفعيل عشر آليات للتعاون بين الصين والدول العربية من بينها مؤتمر على مستوى وزراء الخارجية ومنتدى للتعاون الصينى العربى وإنشاء صندوقين للاستثمار بين الصين والدول العربية وتبادل الزيارات بين الوفود فى مختلف المجالات.

كما تهتم الصين اهتماماً خاصاً بالشراكة مع مصر فى إطار مبادرة الحزام والطريق وبصفة خاصة فى مشروع تنمية محور قناة السويس الذى نعتبره من المشاريع القومية الواعدة التى توفر فرصاً للتعاون الاقتصادى بين الصين ومصر. وكان من اللافت للنظر سواء فى محاضرات الدورة التدريبية أو فى كل اللقاءات والزيارات التى قمنا بها التقدير الكبير من الصين لمصر ومكانتها قديماً وحديثاً ودورها المركزى فى المنطقة العربية والقارة الإفريقية، وعلمنا أن مصر ستكون هى ضيفة الشرف قى مؤتمر “أكسبو” فى سبتمبر القادم مع احتمالات قوية لقيام الرئيس عبدالفتاح السيسى بزيارة جديدة إلى الصين فى نفس الفترة.