بقلم: عادل عبد الصمد
القاهرة مدينة عربية ذات مكانة بارزة بين مدن العالم إنها بالغة القدم فى عمر الحضارة الإنسانية وتشغل موقعًا فريدًا أدى إلى التبادل والتأثير مع الحضارات الأخرى كما كانت ولا تزال ملتقى للثقافات العربية والإسلامية.
للقاهرة سحرها وجلالها الذى يشيع فى الإنسان إحساسا عميقا بتواصل مسيرته وفخره بتراثه العريق الشاهد على حضارات متنوعة امتدت جذورها عبر آلاف السنين.
إن كل مكان فى القاهرة يحمل أثرا لواحد من عصور التاريخ، ولذلك تكون القاهرة كيانا بشريا وعمرانيا يتدفق دائما بالحركة والحياة تذكرنا بأجواء ألف ليلة وليلة وأسرارها الغامضة... إذن القاهرة كانت دائما هى القلب والمركز والمحور حاضنة لثقافات عدة وفى النهاية هى حافظة على تراثها.. فقاهرة المعز التى كان يحيطها سور كبير يتخلله فى مواقع حصينة أبواب ضخمة تفتح عند الفجر وتغلق ليلا وتعلو هذا السور أبراج للمراقبة وظلت القاهرة منذ عهد الفاطميين عاصمة مصر ومركز السيادة.
قاهرة الفاطميين التى بناها القائد العسكرى جوهر الصقلى وأسس بها الخليفة المعز لدين الله عام (٩٦٩) م حكم الدولة الفاطمية فى مصر وكان حكمهم غرة فى جبين الدهر وتحفة فى معرض الزمن وتولى الخلافة الفاطمية أربعة عشر خليفة، وقد أنشأ كل خليفة عمارات ومساجد وقصورا على جانب كبير من الأبهة، وتعتبر وثائق حية من فن العمارة تبرز أهم خصائص الشعب المصرى التى اشتهر بها طوال تاريخه، فإن تخطيط المسجد وتنفيذه إنما كان يصدر عن حافز أعظم من مجرد الفكر والعمل، وهذه الكنوز المعمارية التى يزخر بها الوطن تؤكد القداسة التى حفزت إلى تشييد تلك الروائع المعمارية، ويؤكد الناقد الفنى والكاتب الكبير حسن عثمان على قيمة ورؤية الفنان المصرى الذى شيد هذا الجمال والإبداع، واصفا الفلسفة وراء بناء المساجد الشاهقة (إن المتأمل لمجموعة من المآذن وهى تطل علينا من سماء القاهرة فى شهر رمضان يجد نفسه غارقا فى بحر عميق من التأمل الواعى والإحساس بقدرة الله وصفاء الكون وهى فى أشكالها الأولى مستوحاة من النخيل).
الكون هو مصدر إلهام الفنان المبدع ومعايشته لما يحتويه من نباتات وطيور وفهمه المجرد لهذه العناصر جعله يستلهم منها حركتها وإيقاعها وكثرتها وانطلاقها وقربها من الله).
منشآت العصر الفاطمى:
الأزهر:
أقدم أثر باق حتى الآن وعرف الجامع الأزهرا باسم (جامع القاهرة) شرع جوهر الصقلى ـقائد الخليفة الفاطمى الرابع المعز لدين الله ـ فى إنشأ الجامع فى (٢٤) جمادى الأولى (٣٥٩) الموافق ٤ أبريل ٩٧٠ م وتم تشييده فى عامين، ويقال أن الفاطميين أطلقوا عليه (الأزهر) تيمنا بفاطمة الزهراء بنت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللمسجد صحن تحيط به الأروقة من جميع الجهات، منها خمسة من ناحية القبلة وثلاثة على كل جانب.
أما من ناحية المدخل فلا يوجد إلا رواق واحد
وأصبح الجامع سجلا حافلا لتاريخ مصر السياسى والعلمى.
ويسجل الدكتور حسين مؤنس فى كتابه القيم (المساجد)
«فى تاريخ الجامع أسماء المعز لدين الله الفاطمى والعزيز والحاكم الفاطميين وصلاح الدين الأيوبى والظاهر بيبرس وسيف الدين لاجين وبرقوق وغيرهم من سلاطين المماليك، ومحمد على وعباس حلمى ومن آل إليهما من الحكام الذين تعاقبوا على حكم مصر خلال عشرة قرون، فأنت تمر فى تاريخه بأسماء نفر كبير من أقطاب التاريخ الفكرى لمصر والعالم الإسلامى».
أول الأساتذة الذين تولوا التدريس فى الأزهر هو القاضى أبوالحسن بن النعمان بن محمد، وهو ابن داعى الدعاة الفقيه الإسماعيلى النعمان بن محمد، وكان أبو الحسن فقهيا إسماعيليا وأديبا كأبيه، وكذالك كان أخوه القاضى محمد بن النعمان بن محمد، ومن أعلام من درسوا فى الأزهر فى العصر الفاطمى الأمير المختار عبدالملك محمد بن عبدالله بن أحمد الحرانى المعروف بالمسجى وأبوعبدالله القضاعى المؤرخ المعروف، وهو أول من كتب فى خطط مصر، وعنه أخذ تقى الدين المقريزى والحسن بن زولاق المؤرخ الذى احتفظ لنا على بن سعيد بكتابه عن الدولة الإخشيدية وأبو القاسم الرعينى الشاطبى عالم القراءات المشهور ودرس فى الأزهر من علماء الرياضيات فى ذالك العصر الحسن بن الخطير الفارسى.
وقد كان عدد عظيم ممن قاموا بالنهضة الفكرية فى مصر والعالم العربى من طلاب الأزهر وهم كثيرون جدا ونذكر بعض الأمثلة منهم:
عبدالرحمن الجبرتى ـ رفاعة رافع الطهطاوى ـ على مبارك ـ محمد عبده ـ سعد زغلول ـ رشيد رضا ـ عبدالله النديم ـ طه حسين ـ مصطفى لطفى المنفلوطى ـ أحمد حسن الزيات ـ على عبدالرازق. ويعتبر الأزهر من المساجد الألفية العتيقة، بالإضافة إلى أبواب القاهرة التى كانت لها أهمية خاصة فى الحضارة الفاطمية.
بنى بدر الجمالى باب زويلة الكبير بالحجر المنحوت وكان فى الأصل بابان وباب الفتوح وباب النصر، وقد شيد الأبواب الثلاثة بنائون أخوة قدموا من الرها ويجمع بناء الأبواب الثلاثة بين حسن الذوق ومتانة البناء والمهارة الهندسية، وكان من أبواب القاهرة الرئيسية بعد بنائها باب سعادة فى السور الغربى وباب زويلة فى السور الجنوبى، ونظرا لطول المسافة بين بابى زويلة وسعادة لتسهيل الخروج من القاهرة القديمة إلى العتبة والأزبكية تم فتح ثفرة سميت باب الرق ومع الأيام وتسهيلا فى النطق أصبح اسمها باب الخلق وعرف به حتى الآن. وبنت الملكة (تغريد) زوجة المعز مسجد القرافة وتولت زخرفته ونقشه جماعة من الفنانين من أهل البصرة.
مسجد الحاكم:
شرع الخليفة الفاطمى العزيز بالله فى إنشاء هذا الجامع وأتمه ابنه الحاكم بأمر الله ثالث الخلفاء الفاطميين سنة ١٠١٣.
وسمى باسمه، وهو ثانى الجوامع الفاطمية بالقاهرة وكان موقعه فى بادئ الأمر خارج أسوارها الأولى إلى أن جاء بدر الجمالى فأدخله فى حدود المدينة وأقام سورها ـ بين بابى النصر والفتوح ـ.
وأبقى الزمن على بعض عناصره الزخرفية ممثلة فى طراز الكتابة الكوفية المحفورة فى الجص أسفل السقف وبمربع قاعدة القبة وفى الشبابيك الجصية المفرغة بأشكال زخرفية جميلة تتخللها كتابة كوفية ورسومات هندسية، كذالك الزخارف المحفورة بالوتار الخشبية التى تربط أرجل العقود بعضها ببعض.
وطراز هذا هذا المسجد قريب الشبه من جامع ابن طولون وتمتاز عمارته بالفخامة وشكل المئذنة أسطوانى ولها نوافذ بداخلها درج حلزونى، وهذا النموذج من المآذن هو الذى اتبع فيما بعد وأصبح نموذجا لبناء المآذن فى مصر.
الجيوشى:
شيد مسجد الجيوشى عام ١٠٨٥م على حافة المقطم مشرفا على قلعة صلاح الدين وأنشأه الوزير الفاطمى بدر الجمالى أمير الجيوشى، وهو مسجد ويمتاز بيت صلاته بزخارف جصية جملة تتكون من ورق العنب وعنقوده ومئذنته من أقدم المآذن الفاطمية وهى تقع أعلى المدخل مباشرة.
الأقمر:
بناه الخليفة الآمر بأحكام الله بن المستعلى سابع الخلفاء الفاطميين سنة ١١٢٥م، وهو مسجد صغير واجهته الغربية فريدة فى طراز زخارفها وكتاباتها الكوفية، ويعتبر هذا المسجد من أجمل مساجد العصر الفاطمى وأكملها من الناحية الفنية ويمتاز بطابعه الفاطمى وهو فى شارع أمير الجيوش قرب باب الفتوح فى حى الجمالية.
مسجد الصالح طلائع بن رزيك:
يقوم هذا المسجد فى مواجهة باب زويله وأنشأه الوزير الفاطمى ليوضع فيه رأس الحسين بن على ريحانة أهل الجنة وكان الفاطميون نقلوه من دمشق إلى عسقلان ثم نقله الأفضل الجمالى ذلك بحوالى ستين سنة إلى القاهرة
يمتاز العصر الفاطمى بثروة من الزخارف الحجرية والحصون المنحوتة التى لم يدثرها الزمن وتتميز زخارف هذا الزمن بأنها اتبعت الأساليب التى وضعت اصولها فى العصر الأموى وتطورت فى العصر العباسى والفاطمى فى مصر وفى أيام الفاطميين اتسعت مساحة الزخارف لتمكن الفنانين من مد تفريعات أعمالهم فى اتجاهات مختلفة ساعدت على تغطية المسطحات بالزينة المناسبة.
وتميز الفن الفاطمى باستخدام الحجر المنقوش بمقادير كبيرة وخاصة واجهات المساجد، كما ظهر الميل إلى إظهار فخامة الوجهات وأجمل ما ظهر فى العصر الفاطمى هى الوردة البديعة فى جامع الأقمر المنحوته بأسلوب التفريغ الذى يدل على دقة ومهارة الصانع
وفى هذا العصر انتشرت أيضا الكتابة الكوفية التى تنتهى أطراف حروفها بالتوريقات، والتى بدأ ظهورها فى العصر الطولونى وأطلق عليها الخط الكوفى المورق والمزهر.