الأحد 2 فبراير 2025

المأزق القطرى.. المال وحده لا يصنع البطل

  • 31-5-2017 | 12:26

طباعة

بقلم : د. حسن أبو طالب

بعد فترة قصيرة من التغيرات التى حدثت فى عدد من البلاد العربية، شاركت فى ندوة فى الدوحة حول ما الذى جرى فى اليمن ومسارات الأحداث المحتملة، لم يكن هناك أى مؤشر على ما الذى يمكن حدوثه وفى أى اتجاه. المهم أن بعض المسئولين والإعلاميين القطريين الذين شاركوا فى الندوة مع عدد من الباحثين والإعلاميين والشباب اليمنيين وباحثين عرب، ركزوا على ما اعتبروه الدور القطرى الداعم للثورات العربية والذى يمكن أن يقود مسيرة التغيير بعد اختفاء نظام على عبد الله صالح. ونظرا لأن هذه الفكرة تستند فقط على الأداء الإعلامى لقناة الجزيرة باعتبارها الدليل الحاسم من وجهة نظرهم على مناصرة قطر للثورات العربية بما فيها ثورة الشباب اليمنى، وقدرتها على تقديم البدائل للشعوب العربية، فلم يكن مقبولا أن تمر هكذا بدون أن يتم مناقشتها علميا. وهنا كان مهما التساؤل حول النموذج السياسى والتنموى الذى تقدمه الدوحة للشعوب العربية لكى تقتنع بأن قطر قادرة بالفعل على أن تكون قائدة للشعوب العربية نحو الحرية والتنمية والعدالة والتحضر؟.

كان التساؤل صادما للحاضرين، ولم يقدم أحد أى إجابة. ولكن بعد انتهاء أعمال الندوة جمعنى لقاء مع أستاذ علوم سياسية قطرى شهير يدافع عن سياسة بلاده أيا كانت، وآخر يوصف بأنه مفكر عربى فلسطينى يعيش غربته فى الدوحة، وكلاهما أكدا لى استغرابهما من الشكوك التى يطرحها البعض حول نزاهة السياسة القطرية، مؤكدين أن قطر مظلومة لأن الكثيرين يرونها بمثابة عنصر قلق واضطراب فى المنطقة وهى ليست كذلك، وأنها تقدم نفسها باعتبارها بلدا شقيقا لا يملك سوى أداة إعلامية وأموالا كثيرة وليس لديها جيش كبير وهى دائما بحاجة إلى حماية من المخاطر التى تتهدد وجودها من قبل دول كبرى مجاورة، وهى لا تملك قوة ناعمة كجيش من المثقفين والفنانين والإعلاميين كما هو الحال فى بلدان أخرى وأبرزهم مصر، وسكانها الأصليون لا يتجاوزون ١٥٪ من جملة الذين يقيمون على أرضها، فكيف يكون لها سياسة تتعدى حدودها المحدودة أصلا، ولذا فهى بحاجة إلى سياسات منفتحة على العالم بأسره، أما علاقاتها مع إسرائيل فهى – حسب قولهما - محدودة وتُستغل فى مساندة السلطة الفلسطينية وتنشيط المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين ومنع العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، وأن كل تحركاتها فى اتجاه الشعوب العربية محسوبة فى إطار المصالح الخليجية الجماعية، وأنها تستند إلى علاقاتها بواشنطن لكى تحمى نفسها من إيران، وفى كل الأحوال فهى تسعى لتقديم الدعم للأشقاء العرب بدون أى مآرب أخرى، وهى ليست لديها أى مشروعات سياسية أو أيديولوجية للعب دور قيادى على المستوى العربى أو الإقليمى، لأن مقومات هذا الدور الموضوعية لا تتوافر للدوحة، وأن نجاح الجزيرة - حسب معايير تلك الفترة – مرتبط بمهنيتها وليس لها أى علاقة برأس الدولة أو سياسة قطر الخارجية.

قليل صحيح وكثير كاذب

بعض ما قيل على النحو المشار إليه وهو قليل صحيح تماما، وبعضه الآخر وهو الكثير كاذب تماما، وكلاهما يعكسان جملة التناقضات التى تمارسها قطر تجاه نفسها وتجاه أشقائها فى مجلس التعاون الخليجى والجامعة العربية. فكل التحركات القطرية تتم على خلفية مشروع سياسى فكرى مرتبط بحركة الإخوان يستهدف الانقضاض على الأنظمة العربية، وهنا تقدم قطر إلى جانب استضافتها لرموز إخوانية كبيرة وأخرى سلفية جهادية، ثلاث أدوات مهمة، أولها الآلة الإعلامية التحريضية متمثلة فى قناة الجزيرة، وثانيها الأموال الهائلة، وثالثها فتح خطوط الاتصال مع القوى الإقليمية والدولية المختلفة لتمرير الخطط الإخوانية لاسيما فى النطاق العربى. وفى المسار الثالث تحديدا شكلت العلاقة مع الولايات المتحدة وإسرائيل ثم تركيا الدعائم الرئيسة للتحركات القطرية، وصاحب ذلك تواصل سياسى واقتصادى محسوب مع إيران، وفى شق من هذا التواصل انفتاح محسوب بدقة استنادا على درجة الانفتاح الأمريكى فى عهد الرئيس أوباما على إيران والذى توج رغم التعقيدات بتوقيع الاتفاق الخاص بالبرنامج النووى الإيرانى، والذى وفر لطهران فرصة كبيرة للتحرك الإقليمى واكتساب مواقع نفوذ جديدة إضافة لما اكتسبته من قبل فى العراق ولبنان واليمن وسوريا، وذلك على أساس أنها حلت مشكلاتها الكبرى مع الولايات المتحدة والغرب، وأن ثمة اعترافا أمريكيا وغربيا بدور إيران فى الأزمات الإقليمية المختلفة، وبالتالى فهناك مجال لتوسع إقليمى دون أن يواجه أى اعتراض أمريكى أو غربى. وقد تلقفت الدوحة هذا التطور باعتباره يسمح لها بمزيد من الانفتاح على إيران بغض النظر عن الأضرار والتهديدات التى تمثلها السياسة الإيرانية للدول الخليجية الأخرى والتى تتشارك مع قطر نفسها فى مجلس التعاون الخليجى.

إيران والازدواجية القطرية

ويلاحظ فى الحالة الإيرانية تحديدا نوعا من الازدواجية فى السلوك القطرى، فبينما تتقرب أكثر إلى إيران وتعتبرها قوة استقرار إقليمى لا يجوز معاداتها، فإنها تشتبك معها بطريق غير مباشر من خلال دعم وتمويل وتسليح الجماعات الإخوانية والسلفية الجهادية والقاعدة المنتشرة فى سوريا، وهم كلهم أعداء بدرجات مختلفة لإيران والتى هى فى حالة حرب فعلية مع تلك الجماعات على الأراضى السورية. ولاشك أن هذا الدور المزدوج يوفر مصالح لكلا الطرفين، وبالنسبة لقطر فإن الحرص على تبادلات اقتصادية وتجارية وتعاملات سياسية وتهدئة الخطاب الإعلامى المعادى لطهران، يعد مكسبا للأخيرة، ولكنه تعرض للتآكل النسبى بفعل المساندة التى تقدمها قطر للجماعات الإسلامية العنيفة فى سوريا والتى تحارب الوجود العسكرى الإيرانى هناك. والجدير بالملاحظة هنا أن صمود النظام فى سوريا، واستعادة سيطرته على كبرى المدن كحلب وحمص وخروج المسلحين الإسلاميين منها، وهو ما يمثل نكسة كبرى للسياسة القطرية وكل السائرين على دربها، ومن بينهم تركيا، ويُعد بشكل أو بآخر دعما للنفوذ الإيرانى فى سوريا وفى الإقليم ككل. ولعل التقرب القطرى لنظام الملالى فى طهران هو من قبيل سياسة احتواء الغضب الإيرانى، بيد أن السير فى هذا الطريق فى ظل الظروف الراهنة لن يكون بلا ثمن، خاصة وأن الاتجاه العام بعد تولى الرئيس دونالد ترامب مقاليد الحكم فى البيت الأبيض يناهض تماما أى مسعى للانفتاح على إيران قبل أن تعدل الكثير من سياساتها الهجومية فى الإقليم ككل، بل يعتبرها مركزا لتوليد الإرهاب فى عموم الإقليم، وتمثل خطرا على أمن العديد من الدول مثل البحرين واليمن وغيرهما.

التماهى مع استراتيجية أوباما

وأثناء فترتى الرئيس الأمريكى أوباما والتى استهدفت تغيير المنطقة العربية وإخضاع نظمها لما تعتبره التيار الإسلامى المعتدل والمتفاعل مع القيم الديمقراطية، أعُطيت قطر مساحة كبيرة جدا للتحرك فى أكثر من اتجاه طالما أنها تخدم مشروع إدارة الرئيس أوباما، وظهر التأثير القطرى فى سوريا وليبيا من خلال دعم الجماعات السلفية والإخوانية بالمال والسلاح والدعاية وكل من استهدف النظام الحاكم فى سوريا. أما فى ليبيا فقد لعبت قطر دورين متكاملين لهدم ليبيا؛ الأول أن تكون بمثابة المقدمة للتدخل الدولى لإسقاط حكم القذافى، والثانى المساهمة فى ترتيبات الحكم الجديد لكى يسقط كثمرة يانعة فى أيدى الجماعات الإسلامية العنيفة خاصة التابعة لحركة الإخوان والمتمركزة فى غرب البلاد وخاصة العاصمة طرابلس، وقد سعت قطر للسيطرة على صناعة النفط الليبية تحت زعم مساعدتها فى تجاوز نتائج الصراع المسلح الذى نشب إثر سقوط القذافى. وفى اليمن ونظرا لهيمنة النفوذ السعودي فقد آثرت قطر التحرك فى إطار مجلس التعاون الخليجى من خلال دعم سياسى فضفاض للمبادرة الخليجية.

أما فى مصر فلم تخف قطر حفاوتها الكبيرة بسيطرة الإخوان على مؤسسات الدولة لمدة عام كامل، وحين سقط الإخوان تحولت إلى مهاجم شرس للتطورات السياسية والشعبية التى جرت فى مصر، وصارت الجزيرة وكافة المصادر الإعلامية القطرية كأبواق دعاية سوداء مناهضة للنظام المصرى الجديد.

كما تدفق المال القطرى إلى عناصر إخوانية وسلفية لكى يشكلوا مجموعات للقتل والتخريب وتأجيج ما يصبون إليه من توترات وانقسامات مجتمعية. وفى كل هذه التحركات كان الدعم الأمريكى أثناء فترة أوباما قائما، وفى كثير من الأحوال الفجة تم التغاضى عن التحركات القطرية، ولكن فى الآن نفسه كان هناك رصد دقيق لما تقوم به الدوحة من تمويلات وأسلحة ودعاية لا تتوقف لكل الجماعات الإسلامية العنيفة سواء فى سوريا أو فى غيرها من البلدان العربية لاسيما مصر التى تحصل على النصيب الأكبر من تلك الدعاية القذرة المناهضة للسلم الأهلى المصرى والمدافعة عن القتلة والمخربين. واستنادا لهذا الرصد الامريكى يطالب أمريكيون كثر ورجال إعلام وكونجرس ومسئولون سابقون بمحاسبة قطر على دعمها لجماعات إرهابية وتوقيع عقوبات عليها واعتبارها دولة غير صديقة ولا تستحق حماية أمريكا لها.

قطر وأوهام الخلافة التركية

المفارقة الكبرى أن قطر تعلم جيدا أنها لا تستطيع العيش بدون حماية أمريكية أبرز رموزها قاعدة العُديد الموجودة على الأراضى القطرية منذ ١٤ عاما، وأنها لعبت الكثير من الأدوار القذرة بتنسيق كامل مع واشنطن فى زمن الرئيس أوباما، ومع تل أبيب التى يزداد التوجه اليمينى الرافض لأبسط الحقوق الفلسطينية المشروعة، ثم أضيفت إليهما أنقرة التى شكلت مع الدوحة ثنائيا لنشر الإرهاب فى سوريا، وهو ما تجلى فى إقامة «مجلس التعاون التركى القطرى المشترك» أكتوبر ٢٠١٤، وإنشاء مركز تدريب عسكرى ومخزن أسلحة تركية على الأراضى القطرية. وبقدر ما يعكس هذا المجلس استراتيجية تقارب مزدوجة لكل من قطر وتركيا، فإنه يعكس مخاوف قطر من جيرانها الأقوياء سواء فى داخل مجلس التعاون الخليجى أو على الضفة الثانية من الخليج، وفى الآن نفسه تنسيقا عالى المستوى لدعم جماعة الإخوان التى ارتمت فى أحضان الرئيس أردوغان متصورة أنها بذلك ستعود قريبا إلى حكم مصر. وهكذا يدعم البلدان كل منهما الآخر من أجل تصور وهمى بأنهما قادران على تغيير الحكم فى مصر وإثارة الشكوك حول النفوذ والدور السعودى الإقليمى، وإفساح المجال أمام إمبراطورية تركيا الإسلامية التى ستضم فى طياتها قطر كإحدى الولايات التركية فى دولة الخلافة الإخوانية التركية المتوهمة.

ما يثير الاستغراب أن قطر تدرك أن إدارة ترامب تختلف فى توجهاتها إزاء السعودية ومصر عما كان عليه الوضع أثناء ولايتى الرئيس أوباما، وأن هذه التوجهات الجديدة مُحاطة بقدر عال من الدفء والتفاهم والتعاون فى مجالات مختلفة من بينها إعادة هيكلة المنظومة الإقليمية فى المشرق العربى. وتختلف أيضا تجاه إيران وحركة الإخوان وحركة حماس والجماعات الإسلامية العنيفة بما فيها العاملة فى سوريا ومصر وليبيا، وبدلا من التكيف ولو النسبى مع مراعاة المصالح الذاتية الرئيسية والحرص على علاقة قوية ومناسبة مع الأشقاء الخليجيين لأنهم الأقرب، اختارت الدوحة طريقا معاكسا تماما، وكأنها تعلن التحدى تجاه الكل. والسؤال الذى يطرح نفسه بقوة هو ما هى عناصر القوة القطرية التى تتيح لها تحدى الجميع فى آن واحد؟

أحد المفاهيم التى طرحها الشيخ تميم حاكم قطر فى مداخلته أمام بعض الجنود حديثى التخرج الأسبوع الماضى، أن بلاده تعتمد فى أمنها على وجود قاعدة العُديد لمنع المخاطر من دول مجاورة، ولكنه يعتقد أيضا أن هذه القاعدة وفرت للولايات المتحدة نفوذا استراتيجيا فى الشرق الأوسط وربما فى العالم لا يمكنها أن تستغنى عنه، ومهما تغيرت الإدارات الأمريكية فالقاعدة ستظل قائمة على الأراضى القطرية، ومضيفا أن توجهات إدارة ترامب المناهضة لسياسة قطر ومواقفها ليست ذات بال لأن ترامب نفسه قد يتخلى عن رئاسة الولايات المتحدة نظرا للمتاعب التى يواجهها وتحركات الكونجرس المناهضة له. وإذا كان الرئيس ترامب يواجه متاعب بالفعل تضغط عليه فى أكثر من اتجاه، فإن التعويل على ذهابه بعيدا عن الرئاسة لا يخلو من مخاطرة كبرى، لاسيما أن هذا الاحتمال يتطلب وجود أدلة قانونية لا تقبل الشك تطيح برئاسة ترامب بعد موافقة أكثر من نصف الكونجرس الأمريكى، وهو أمر يبدو بعيد الحدوث على الأقل حتى تتغير موازين القوى داخل الكونجرس بعد انتخابات التجديد النصفى فى نهاية ٢٠١٨. وإلى أن يحدث ذلك فمن الممكن أن تأخذ إدارة ترامب قرارا بالتخلى عن قاعدة العُديد ونقلها الى بلد آخر، كالبحرين مثلا، وهو أمر مطروح للمناقشة الجادة داخل أروقة صنع القرار الأمريكى، وحينها ستكون ضربة كبرى للأمن القطرى ونظامها الحاكم، وإذا تم توقيع عقوبات على الدوحة لأنها تدعم الجماعات الإرهابية، وهو محل نقاش أيضا، فسوف تفقد قطر غطاء الحماية الأمريكى، بل قد تفقد وجودها نفسه، فكيف يمكن لتميم أو لغيره أن يمارس التحدى والفتونة التى يتباهى بها وكأنه قابض على كل عناصر القوة التى لا يمكن هزمها.

مشكلة الشيخ تميم وفلسفة الحكم فى قطر وكل من يتصور أن الأموال وحدها، لاسيما إذا كانت هائلة كالتى توفرها حقول الغاز القطرية، كفيلة بأن تصنع البطل والدور والهيمنة، هى مشكلة النفوس المعقدة الفاقدة للتاريخ الناصع والحاضر المتوازن، وغير القادرة على استيعاب حركة الأحداث مهما كانت واضحة فى مساراتها ومعانيها والمتنكرة لهويتها. وما حدث لحركة الإخوان التى فقدت عقلها وسقطت فى مزبلة التاريخ، فليس بعيدا أن نرى قطر كدولة مثلا آخر فى السقوط إن استمرت على منوال التحدى الزائف.

    الاكثر قراءة