بقلم : محمد حبيب
لم يكن سيد حجاب شاعرا عظيما وحسب، وإنما ضمير للأمة المصرية، كتب تاريخها بعاميته بكل الثراء والعمق والوطنية، وانحاز للفقراء وللعدالة الاجتماعية والحرية، وأشعاره التى صكها على مدى نصف قرن ستظل باقية فى الوجدان الشعبى، خاصة أنه من شعراء العامية القلائل الذين ارتقوا بالعامية وحسنوها ويمثل شعره نقلة موضوعية فى إبداع العامية المصرية.
اشتهر سيد حجاب بكتابة تترات أشهر المسلسلات المصرية التى بمجرد سماعها - التترات- نتذكر كل أحداث المسلسل، نجح من خلال أشعاره فى التغلغل لأعماق الأعمال الدرامية التى كتب كلماتها مثل تترات «ليالى الحلمية»، «المال والبنون»، «أرابيسك»، «بوابة الحلوانى»، «الأيام»، «غوايش»، «رحلة أبوالعلا البشرى»، «الشهد والدموع»، «وقال البحر»، «عصفور النار»، و«الوسية»، وغيرها من روائع الأعمال الدرامية المحفورة فى وجدان المصريين.. كما كتب الكثير من الأغانى لكبار المطربين.
سيد حجاب لم يكن شاعرا فقط بل كان ضمير الأمة، فلقد عانى سيد حجاب من تجربة الاعتقال عام ١٩٦٦ ووجهت إليه تهمة الانضمام لتنظيمات شيوعية معادية للدولة، فيما كانت مطالب حجاب وغيره من المعتقلين أن يبنى ناصر دولة ديمقراطية، فيما كان اعتقاله فى زنزانة واحدة مع صديقه عبدالرحمن الأبنودى.
بشر سيد حجاب بثورة ٢٥ يناير، وقبلها أصدر ديوانا اسمه «قبل الطوفان الجاى» وكان يبشر بثورة وكأنه كان يقرأ مشاهد ثورة يناير، ففكره كان يسبق الأحداث، وشارك فى ثورة الـ١٨ يوما منذ بدايتها، كما شارك فى ثورة ٣٠ يونيو وكان من أوائل الذين هتفوا ضد الإخوان وطالب برحيلهم، ثم شارك فى كتابة الدستور وصاغ بفكره وقلمه ديباجة الدستور فى ٢٠١٤، وهى الديباجة التى تعبر عن أهمية إدراك معنى مصر..بتراثها وتاريخها لدى كل مصرى. والتى حاول فيها أن يعمق مفهوم الوطنية المصرية المتعددة الأبعاد. كما كان مدركا لتميز كل من ثورتى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو بين ثورات العالم. وأنهما «إشارة وبشارة، إشارة إلى ماض مازال حاضرا، وبشارة بمستقبل تتطلع إليه الإنسانية كلها» وأننا «نحن المواطنات والمواطنين، نحن الشعب المصرى، السيد فى الوطن، هذه إرادتنا».
ما جاء فى هذه الديباجة إنما يعبر عن حصيلة مشواره الإبداعى الملتزم بالوطنية والضمير والالتزام الاجتماعى والاقتصادى والتعبير عن الناس. كما أن شعره يعبر عن هذا بوضوح. إبداع يلتزم الحرية والعدالة من أجل الغلابة. هكذا كان شعره وكانت رسالته الوطنية التى سجلها فى ديباجة دستور ٢٠١٤.
عم سيد- كما كان يحب أن يناديه الجميع - كان يطل على محبيه مؤخرا من خلال مقال يوميات فى الصفحة الأخيرة بـ«الأخبار» يعبر عن هموم الفقراء وينحاز للثورة ومبادئها فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ولم لا وهو شاعر الفقراء، وحامل همومهم؟.. تميز بكتابة الكلمة البسيطة المعبرة عن رؤى المجتمع المصرى، حتى ولو كانت تحمل انتقادا للحكومة، وعندما هاجمه المرض بشراسة اعتذر عن عدم الكتابة فى الفترة الأخيرة قبل أن يلقى ربه الأسبوع الماضى بعد فترة مرضه الأخيرة.
على مدى ٥٠ عاما، فإن سيد حجاب من أبرز شعراء العامية، وهو تلميذ نجيب فى مدرسة الكبير صلاح جاهين، الذى قدمه للجمهور كشاعر للمرة الأولى من خلال باب «شاعر أعجبنى» بمجلة «صباح الخير»، وتنبأ باحتلاله مرتبة مهمة فى شعر العامية فى مصر.
وبالفعل، ظل حجاب ينشر قصائده ودواوينه منذ بداية الستينيات وحتى بدايات الألفية، جنبا إلى جنب مع كتابة الأغانى وتترات المسلسلات التليفزيونية، والتى ظلت عالقة فى الأذهان حتى أصبحت تراثا فنيا حقيقيا.
سيد حجاب.. سليل عبدالله النديم، وبيرم التونسى، وفؤاد حداد، وصلاح جاهين.. ويمتاز شعره ببساطة مدهشة وكلمات شديدة الصلة بلغة الأحاديث اليومية، مع نهايات مفاجئة تحمل دفقة المعنى والإحساس دفعة واحدة، كما تتميز جمله الشعرية بموسيقى داخلية شديدة الوضوح.
كان عبقريا فى اللعب بمفردات اللغة وأن يستخلص الكثير والكثير من المفردات الجديدة. كان يغزل الكلام بخيط من حرير.. ويدخل قلبك كأنه سهم رشق فى الحنايا، يجعلك تتساءل من أين يأتى بهذه الصور والنحتات البلاغية؟ وكيف لكلامه مكان فى كل مناسبة تمر بالشخص أو حتى فى حنين عابر.
الشعر عند سيد حجاب ليس مجرد نظم كلمات ورص حروف، لكنها الموسيقى التى تأخذ بشغاف القلب، والحكمة التى تغلف كل ما يقوله، كلماته تسكنها الفلسفة، لكن الفلسفة عنده ليست نظريات محفوظة فى أطر جافة، لكنها حكمة البسطاء الذين يرددون دائما رغم تعبهم:
«ما تسرسبيش يا سنينّا من بين إيدينا
وما تنتهيش.. داحنا يا دوب ابتدينا
واللى له أول.. بكره ح يبان له آخر
وبكره تفرج مهما ضاقت علينا».
لسيد حجاب ذكريات مع دار الهلال فقد عمل لفترة فى مجلات «سمير» و«ميكى» للأطفال، حيث كان يكتب قصصا قصيرة لهم، يقول فى حوار له مع جريدة الوطن عام ٢٠١٥ «عملت لفترة فى مجلة «سمير وميكى» للأطفال، وكنت أكتب قصصا قصيرة لهم وأشكالا جذابة، وهو ما دفعنى لبدء تجربة أغانى الأطفال بعد لقائى بـعمار الشريعى، لأننا تعاهدنا أن نخلق معارف تربوية ترتقى بعقول الأطفال وتوافق أمزجتنا الخاصة والذوق العام الرفيع، إلى جانب ابنتى «ريم» التى ولدت وقت كتابة تلك الأغنيات فكانت مصدرا مهما للإلهام بالنسبة لى آنذاك».
وحول السبب وراء اختفاء الأعمال الإبداعية الموجهة للأطفال فى الفترة الأخيرة؟
قال حجاب «نحن نعيش على مدار أكثر من ٤٠ سنة فى حالة انحلال بهذا المجتمع، لدرجة أنه تحول إلى منفصلات عشوائية متجاورة، وهذا أدى إلى أن يصبح التفكير فى الطفل مجرد تفكير بنائى فقط، وهذا سببه الأساسى هو استقالة الدولة عن أداء دورها تجاه المجتمع، فلم تفعل شيئا بالنسبة للمدرسة أو الصحة أو الفن أو الأدب أو الثقافة أو الإعلام».
وعندما سئل فى نفس الحوار عن تفسير نجاحه فى تقديم أعمال فنية تبث القيم فى نفوس الأطفال؟ قال: «أظن أن الجيل الذى شارك فى تقديم هذا النوع من الثقافة كان يسبح ضد التيار السائد الذى كان يمكن أن أصفه بـالتسطيحى أو التجهيلى أو التضليلى، وفى مقابل ذلك حاول مجموعة من الشرفاء الوطنيين مقاومة ذلك التيار المتحكم والقاهر».
هكذا كان سيد حجاب.. ضمير الوطن، مهموما ببناء الشخصية المصرية والطفل المصرى، ومعبرا عن أحلام المصريين وبخاصة الكادحين.. ولم يكن غريبا أن يفارقنا فى ذكرى ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١. وهو اليوم الذى كان أحد أركانه، كما كان له دور فاعل فى ٣٠ يونيو٢٠١٣ وفى دستور ٢٠١٤.
كم أتمنى على وزارة التربية والتعليم أن تضع قصائد من شعر سيد حجاب فى المناهج التعليمية ونبذة عنه، حتى يتعرف الطلبة أكثر على هذا الشاعر العظيم الذى يستحق تكريما كبيرا، وهذا الإجراء أبسط ما يقدم لسيد حجاب.. الذى يعد سيد الشعراء وضمير الأمة.. الله يرحمك يا عم سيد.