السبت 18 مايو 2024

وحنوا بدمى كفوف عريس

2-2-2017 | 23:30

يرثى الموسيقار الكبير راجح داود العم سيد حجاب بموسيقاه الحزينة على وقع أنات الشاعر الكبير فى وصيته الشهيرة، ليحرك الدمع السخين فى مآقى الغلابة المحرومين الذين طعموا كلمات العم سيد، وتغنوا بها فى قعور البيوت الطينية الغارقة فى الفقر والجهل والمرض، يؤنسهم بكلماته «ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء».

راجح داود صار يودع بموسيقاه أعز الناس إلى القبور، ودع الفاجومى الكبير أحمد فؤاد نجم، من قبل إلى قبره بموسيقاه الحزينة، وها هو يبكى العم سيد بمقطوعة موسيقية ناطقة الكلمات، ونعم الوداع، أظن أن العم سيد أطربته موسيقى داود، ليس لحنا جنائزيا بل لحن الوفاء.

اختار داود صوت الرائعة «سلمى غريب” المعبر تماما عن آهات العم سيد، وخطفت القلوب بمرثية الموت، العم سيد يرثى نفسه، بكلمات ليست كالكلمات ولكنها وداع، العم سيد يترك وصيته، ليتهم نفذوا الوصية كما أوصاها العم على فراش المرض.

معلوم الميت بيحس بقرب الأجل، وعادة ما يودع الأبناء والإخوة والأصدقاء، ولكن عم سيد قرر أن يودع شعب أحبه وتغنى بكلماته ، يعزف على وتر حاد يشرخ القلوب، ويحرك الدموع، ويحرك الأشجان، ويتمتم عجوز طيب، الله يرحمك ياعم سيد.

“ ولما أموت

لو مت ع السرير ابقوا احرقوا الجسد

ونطوروا رمادى ع البيوت

وشوية لبيوت البلد

وشوية ترموهم على « تانيس» 

وشويه حطوهم فى إيد ولد

ولد أكون بُسته.. ولا أعرفوش

ولو أموت..

قتيل – وأنا من فتحة الهويس بافوت -

ابقوا اعملوا من الدما حنة

وحنوا بيها كفوف عريس

وهلال على مدنة

ونقرشوا بدمى - على حيطان بيت نوبى تحت النيل – اسمى”

لم يفزع من الموت استقبله بكل ترحاب، وغنى للموت قبل الرحيل، يقول للموت :

 الموت ترف

 وعيشة القرف ترف

ولما تصبح الحقيقة عار

والكذب على النفوس شعار

بتصبح البيوت قبور بلا صبار

ويصبح السكوت ترف

 ساعتها يبقى الموت طريقنا للشرف». 

سألت عمى سيد حجاب فى وعكته الأخيرة وقبل الرحيل، ألف سلامة على جمل الحمول، ضحك، الجمل برك وضحك، أنا تعبان، أيامنا بقت معدودة، البركة فيكم، أعادنى مباشرة إلى ليالى الحلمية.

“ متسرسبيش يا سنينا من بين إيدينا..

ومتنتهيش ده احنا يادوب ابتدينا

واللى له أول بكره ح يبانله آخر..

وبكره تفرج مهما ضاقت علينا «

خاض عمى سيد معركة حياة مع زائر شرس لا يرحم، ودعته متمتما بدعوات طيبات لمن استنكف السكوت باعتباره ترفا، زعق طلبًا للشرف يوم عزّ الشرف. 

العمومة ليست لقبًا من عندياتى، هذا شرف، العم حجاب من العمومة عم شعراء العامية، كان لهم خال ورحل فى وداع حزين ( الخال عبد الرحمن الأبنودى )، وها هو العم يرحل بعده بسنوات، الموت يحصد الأعمام والأخوال بعد أن حصد من بيننا الآباء والأجداد، الله يرحم الجد فؤاد قاعود والعم صلاح جاهين عم الأعمام كافة.

الخبيث الذى يختطف من الجوار أعز الناس، التف ماكرا من حول العم سيد، سد عليه المنافذ كلها، قاوم العم سيد، وإن منعه من كتابة قصيدة أخيرة كان يتجهز لها فى العيد السادس لثورة يناير التى كانت قرة عينه وسجلها بمداد قلمه فى ديباجة الدستور، لم يمنع تدفقه الإنسانى، العم سيد حتى أيام قليلة من رحيله ما كان يرد طالبًا يخبط الباب مستأذنًا، تسأل عن الصحة والأحوال يرد بقلب شجاع، أنا متفرغ لهذه المعركة الآن.

ياما دقت على الرؤوس طبول، وفى كل مرة كان العم سيد يدفع الثمن باهظا، هذه المرة نحن من دفعنا الثمن، سبحانه وتعالى اختاره إلى جواره، ونعم الجوار، مسكنه الجنان العليا لأنه دافع عن الفقراء والغلابة والمساكين الذين يحبهم الله، والعبد إذا أحبه الله حبب فيه خلقه، وأحب العم سيد خلق كثير ذرفوا دمعا ساخنا يوم رحيله الحزين.

دفع الثمن مبكرًا من شبابه، سجن وتشريد من بعيد، ولم ينزل من على الفرس، خرج من عباءة عصر وحواديت صلاح جاهين، كان قريبًا منه جدًا، لكنه شاعر صاحب اتجاه ومدرسة.. قصائد حجاب ومعظمها عرفها عموم الناس من مقدمات ونهايات المسلسلات التى كتب أشعارها، فلسفة اجتماعية.. وصوفية فى بعض الأحيان، لكنها قريبة من القلب، منطوقة على الشفاه، تعزية لليائسين وفرحة للطموحين ودعوة للحلم الأخضر.

“ من اختمار الحلم يجى النهار..

 يعود غريب الدار لـ أهل وسكن «.

متصوف كان فى عشق مصر، حادب على المصريين الفقراء، قلبه يتجول بين بلدته الأولى فى الدقهلية وبين شواطئ الإسكندرية، التى فتن بروعتها منذ الصبا.. حين درس فيها فصارت ملهمته التى يسميها مدينة النور، لم تفتنه باريس كما فتنته الإسكندرية.

كان اشتراكيًا ورحل اشتراكيا، لكنه دفع الثمن فى السجون الناصرية، فيما كان النظام يتكلم عن الاشتراكية ليل نهار.. كانت اشتراكيته مختلفة، اختارها منهجًا للفكر والحياة وأخلص ولم يصدمه المعتقل، فقد كان يعرف أنه مختلف عن السائد ومعه وعليه..!

خرج أكثر قوة، تحمل تجاهل الأضواء له فى السبعينيات، وأسس مدرسة صار ناظرًا لها حين احتضن فى تلك الفترة عشرات من الشعراء وكتّاب القصة والرواية والمسرح والمترجمين، صار أبًا روحيًا لأجيال متتالية من المثقفين.

وفى كل المراحل لم يرتحل وراء نغمة جديدة فى السياسة، بحث عن النغم الجديد فى الشعر الذى كتبه فى حب مصر والمصريين الحقيقيين، صارت أغانيه كلها عن العدل.. الحق.. المساواة.. الجنة المفقودة.. الهناء الذى يشبه سرابًا يطارده «حجاب» فلا يصل إليه فى آخر المدى وتظل لذة البحث عنه قائمة فى كل مكان وفى كل حين..

أصبح فيلسوفًا للفقراء، لم يهمه أن يرضى عنه الكبار، واختار الصغار الذين فى الصفوف الأخيرة.. يقفون فيها مجبرين وهم الذين يفترض أن يكونوا فى طليعتها، لم يخش السجن وقد جربه فى شبابه، ولا خشى الابتعاد.

 زهد فى الأضواء فهرولت وراءه الأضواء، اختار الفقراء فأحب شعره الفقراء والأغنياء على السواء.. فلسفة الاستغناء عند «حجاب» صنعت نصف مجده، ومنها اكتسب قيمته واحترامه إلى يوم الرحيل، وبها استطاع أن يحافظ على قلبه المشتعل حبًا وشوقًا للوطن، بعيدًا عن الأهواء وبورصة البيع والشراء.

“ ومنين بيجى السواد.. من الدموع والعناد

ومنين بيجى الرضا.. من الإيمان بالقضا”.

راضون بالقضاء دوما.. البقاء لله. 

 

    الاكثر قراءة