السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

البجعة الرومانية التى غرّدت

  • 22-10-2021 | 13:13
طباعة

المسلسل التراجيدى لنهاية الإمبراطوريات العُظمى يأخذ نفس تتابع الحلقات وله ذات المظاهر، إذ تتشابه النهايات وكأنّ التاريخ رسم لها خط سير واحد للأحداث لا تحيد عنه، يحمل عنوانًا مكتوبًا بالبُنط العريض (فى الزمن الردئ يأتى الرجل القادر القوى فى غير وقته)؛ من بين ركام الانتكاسات المتتالية والتخبط السياسى والإحباطات الكبرى يتقدم قائد ملك إمبراطور، متصورًا أن باستطاعته معاندة الزمن بضربة سيف واحدة، وبدافع من الحماس والاندفاع نجده ربما يحقق بعض الانتصارات الوقتية المتوهجة سرعان ما تخبو، وتبقى غير قادرة على استعادة حضور وقوة الدولة التى تهدمت أساساتها.

وفى الدولة البيزنطية كان رجل هذا "الزمن الردئ" هو الإمبراطور جستنيان الأول؛ بدأ حكمه للإمبراطورية فى أجواء حماسية أن يستعيد أمجاد أباطرة الرومان الأوائل وهيبة أسلافه، ولكن بعدما كان الوهن الشامل قد دبّ فى أوصال الإمبراطورية يشل أطرافها، وانحدرت على منزلق الهاوية بالفعل ؛ فالسقوط كان حتميًا ولكنه يؤخر زمن حصوله فحسب!

 

فى العام 527 م؛ أقبل الربيع على القطسنطينية بعد شتاء قارص انعدم فيه المحصول وندُرت الغلال، وفى شهر أبريل تُوِّجَ "جستنيان الأول" إمبراطورًا على شعب يئن من الفقر والقمع، ساخطًا على أداء الحكومة المتقاعس وسلبية رجال البلاط تجاه سوء الأحوال. كان حكم القسطنطينية قد استتب لجستنيان، بعد فترة صاخبة - ليست بالقصيرة - من التقلبات السياسية داخل البلاط البيزنطى والأسرة الحاكمة، فقد كان لدى الجميع تحفظات وشكوك تجاه وريث العرش الشاب وهو عضوًا بمجلس الشيوخ وعضوًا بارزًا فى سياسة الإمبراطورية، وقبلهما ثقتهم فى رشادة الإمبراطور المحتمل بسبب حكاية عشقه وزواجه من تلك الممثلة الماجنة.. "ثيودورا"!

جستنيان عُرف فى التاريخ بلقب الإمبراطور البيزنطى الأخير، ليس فقط لأنه عنوانًا للحكم الطموح فى الزمن الردئ الذى يسبق أفول الإمبراطورية، بل لأن يجب أيضًا أن تكون إلى جانبه فى القصر الحاكم امرأة مثل ثيودورا!

 

يُطلق المؤرخون على "جستنيان الأول" لقب الإمبراطور الرومانى الأخير؛ رغم ما حققه من نجاحات عسكرية وتوسُع فى الدولة وازدهار نسبى فى القانون والعمارة ؛ فجستنيان - الأخير- ومن شابهه باعتباره حلقة من حلقات الإمبراطوريات الآفلة، تتطابق مع أسطورة "تغريدة البجعة الأخيرة"؛ التى تقول بأن البجعة قبل موتها تغمس منقارها فى مياه البحيرة ثم ترفعه لأعلى وتُطلق تغريدها الأجمل فى حياتها ثم تموت؛ و"جستنيان الأول" كان تلك البجعة الرومانية، بما أحرزه من انتصارات حربية - مؤقتة وليست حاسمة - على الفرس فى الشرق والقبائل الجيرمانية والبلغار والقوط فى أوربا ووسط آسيا، وما قدمّه للإمبراطورية من فضائل حضارية وروحية بأن جمع القانون الرومانى وبنى كاتدرائية "آيا صوفيا" وحاول توحيد الكنيستين الشرقية والغربية، غير أنه مجرد وفاته عام 565 م تلاشت كل تلك الإنجازات، ولم تعد تراكمية يبنى عليها من يخلفه، فالواقع أن الأمبراطورية الرومانية من وقت احتلال روما عام 476م، وقد انعدمت فيها أسباب الاستمرار وبقيت حركتها مدفوعة بالقصور الذاتي. عندما تولى جستنيان مقاليد الحكم لم تكن الإمبراطورية قد تغلبّت على الأزمات الكبرى والجوهرية التى تعرضت لها منذ أواخر القرن الخامس الميلادى، أصبح الجزء الأكبر من الجيش البيزنطى منشغلًا فى صراعه مع الفرس الساسان، بينما كانت الفوضى تعم الإمبراطورية من الداخل وتأكلها ديدان الإهمال بسبب اضطراب الحكم والأداء الحكومي.

 

كانت تلك هى بذرة عوامل الانهيار التى عانى منها الأباطرة التاليين، إلى جانب أن الانشغال الدائم والرئيسى بملاحقة الفرس ودفع عدوانهم، لم يمكنهم من سحق القبائل التى خلقت لنفسها وجودًا وموقعًا على مسرح الأحداث العالمية، وكانت السبب المباشر فى سقوط الدولة البيزنطية الغربية، فحتى لو تمكن جستنيان من استردادها فإنه لم يفعل سوى أن عالج العرض الظاهرى بينما بقيت جرثومة الفناء كامنة فى صدر كل بيزنطي. فما لبث وأن أطلق مبراطور(زمن الحكم الردئ) نيابةً عن الإمبراطورية بأسرها تغريدة البجعة الأخيرة، وقد خرجت جميلة شجية مؤثرة. ودخلت بعده بيزنطة فى مرحلة الموت.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة