فتح عيناه ليجد نفسه بين أحضان عائلة "السعدني" والده هو "عثمان" الذي عاش ومات في "حارة سمكة" بالجيزة وأنجب كل أبناءه هناك، إلا "محمود" الذي ولد على "الرياح المنوفي" في بيت خالته "زينب" الذي يبعد خطوات من بيت جده "الشيخ خليل" الكائن على أعلى "تبة" في "كفر القرينين" ليرتبط الشيخ خليل بـ "الولد الشقي" ولا يفارقان بعضهما البعض، كان "محمود" محملا برائحة طين الأرض بالمنوفية لتفوح من بين جنبات أركان البيت المتواضع في "حارة سمكة" ليس غريباً أن تجد "طاقية" أو "جلباباً" متناثر فوق كرسي خشبي قد ضل طريقه ناحية "الدولاب"، كبر الصبي ليتعلق قلبه بشوارع القاهرة الصاخبة وأنوارها التي لا تنطفىء ومقاهيها التي صدأت أقفال أبوابها والتي لا تعرف في قاموسها كلمة "مغلق"، يجلس بجوار شقيقه الأكبر "محمود" الكاتب الصحفي على مقهى "محمد عبد الله" المطل على ميدان الساعة بالجيزة بين نوابغ الأدب والصحافة والشعراء يوسف إدريس، ونعمان عاشور، وعبد الرحمن الخميسي، لينغمس في الثقافة وحب القراءة، يخزن في داخله كل ما يقابله في طريقه من شخصيات يمسك مفاتيحها ويملك مفرداتها.
بات حلم التمثيل يراوده كل ليلة وتمنى ألا يضيع في الزحام وما إن أصبح شاباً وعندما وطئت قدماه كلية الزراعة حتى وجد في فريق التمثيل ملاذه وبعد سنوات من الكفاح كان له ما أراد وصار واحداً من أهم الفنانين في مصر، أحبت الكاميرا تقاسيم وجهه المصري الذي يميل ناحية السمار، يقف يؤدي أدواره بكل ما أوتي من موهبة، هو أبن البلد الجدع "حسن النعماني" في "أرابيسك" الذي يجعلك متورطاً في حبه ويخطف قلبك وعقلك بعراقة وأصالة حي الجمالية والمغربلين وتنبهر بصنعة "حسن" في فن الأرابيسك، وهو "علواني" صعلوك القرية الذي يقف بجوار أهلها دفاعاً عن "الأرض" التي لا يملك فيها شبراً واحداً، وهو أستاذ التاريخ "نصر وهدان القط" الذي يتصدى لتجار الآثار في "حلم الجنوبي"، لم يكن إتقان شخصاياته محض صدفة بقدر ما كانت شخصيات من لحم ودم هو وحده من يملك أسرارها وتفاصيلها التي حفظها عن ظهر قلب في طفولته وصباه وينتهز الفرصة حتى تخرج للنور فتجد على الشاشة "سليمان غانم" مرتيداً الجلباب والعباءة ممسكاً بعصاه وعلى رأسه "طربوش" ولم يأتي إتقانه للهجة من فراغ ولكن حفظها من دوائر الأهل في الريف منبع جذوره ويجعلك تنتظر طلة "غانم" على الشاشة تحب عفويته وخفة ظله وصراع كل يوم مع عدوه اللدود "ابن البدري" وبعد "ليالي الحلمية" المحفور في الوجدان يجد أسمه مرتبطا بـ "العمدة" هو الفنان الكبير صلاح السعدني.
ولد صلاح عثمان إبراهيم السعدني في 23 أكتوبر 1943 في "حارة سمكة" بالجيزة، توفى والده ليعكف شقيقه الكاتب الصحفي والساخر الكبير محمود السعدني، على تربيته وتأسيسه ثقافيا إذ كان يصطحبه معه عندما يلتقى الأدباء والشعراء، تلقى تعليمه بمدرسة "السعيدية" الثانوية، ثم التحق بكلية الزراعة في جامعة القاهرة.
في كلية الزراعة قابل رفيق دربه عادل إمام واشترك معه في فريق التمثيل بالكلية وكانت البداية مع مسرحية "ثورة الموتى" ثم انتقل إلي مسرح التلفزيون بعد دعوة خريجي المعاهد والكليات، فتقدم إليه ليبدأ مشواره الفني دون مساعدة شقيقه محمود السعدني الذي تركه يشق طريقه بموهبته وكانت البداية في مطلع الستينيات في "الضحية" وهو الجزء الأول من ثلاثية الأديب عبد المنعم الصاوي وتبعها "الرحيل" و"الساقية" والتي أخرجها نور الدمرداش، وخطف "صلاح" الأنظار بأداءه وتعبيرات وجهه في دور الشاب الريفي الأبكم "أبو المكارم" الذي لا يستطيع الكلام، وشارك بأدوار صغيرة في مسرحيات " لوكاندة الفردوس" و"معروف الاسكافي"، بعده منحه "الدمرداش" دور أكبر في مسلسل "لا تطفئ الشمس".
كانت البداية في السينما في فيلم "شياطين الليل" مع فريد شوقي، ومطلع السبعينيات كان على موعد مع الإنطلاقة الحقيقة في فيلم "الأرض" للمخرج يوسف شاهين في دور "علواني" صعلوك القرية خفيف الظل، وتوالت أعماله في عدة أفلام أبرزها "أغنية على الممر" في دور "مسعد" و"الرصاصة لا تزال في جيبي، طائر الليل الحزين، قلوب في بحر الدموع، الإعتراف الأخير" وقبل نهاية السبعينيات طل على جمهور الشاشة الصغيرة من خلال مسلسل "أبنائي الأعزاء شكرا" في دور "عاطف" الأبن الأوسط لـ "بابا عبده".
فترة الثمانينيات قدم عدد كبير من الأفلام المهمة ولم يكن يعنيه دور البطولة المطلقة أو يجري خلفها، وكانت أبرز أفلامه مع صديق عمره عادل إمام "الغول" ومع فريد شوقي "فتوة الناس الغلابة، مقص عم قنديل، قضية عم أحمد، أولاد الأصول، الموظفون في الأرض" ومع نور الشريف "الزمار، زمن حاتم زهران" وقدم واحد من أجمل أدواره في "فوزية البرجوازية".
عرف التلفزيون قيمته الحقيقية ودخل قلوب جمهوره من أوسع الأبواب بعد النجاح المدوي لشخصية العمدة "سليمان غانم" وخفة ظله وينتظر الجمهور ما سيفسر عنه الصراع الدائر بينه وبين "سليم البدري"على مدار الأجزاء الخمسة في "بوابة الحلواني" ويردد "لازمته" الشهيرة "قوم إيه بقى" ليرتبط أسمه بـ "العمدة" وفي التسعينيات كان النجاح يلازمه أينما حل ليخطف القلوب في دور "حسن النعماني" في "أرابيسك" مع أسامة أنور عكاشة، ويتألق في "حلم الجنوبي" في دور مدرس التاريخ "نصر وهدان القط" الذي يتصدى لتجار الآثار، وفي المسرح يبدع في مسرحية "باللو".
قدم للسينما في تلك الفترة وعلى استحياء عدد من الأفلام كان أهمها "شحاذون ونبلاء" في دور "الأستاذ جوهر" و"كونشرتو في درب سعادة" والفيلم التليفزيوني "المراكبي"، وبعد أن هجر السينما قدم للدراما في الألفية الجديدة عدد كبير من المسلسلات أبرزها "وجع البعاد، رجل في زمن العولمة، أوراق مصرية، الأصدقاء، للثروة حسابات آخرى، عدى النهار، الباطنية" كانت شخصية الفلاح تطارده طوال مسيرته ما بين الشاب الطيب لـ العمدة القوي صاحب النفوذ مرورا بـ المدرس الصعيدي وصولا لـ الفلاح "عبد القادر عوف" في "الناس في كفر عسكر" وكانت المحطة الأخيرة لـ "السعدني" مسلسل "القاصرات" ليغيب عن جمهوره منذ 8 سنوات.
فضل "السعدني" الابتعاد ويعيش في هدوء مع نجله الفنان أحمد صلاح السعدني وأحفاده، ورغم اختفاؤه يبقى صاحب كل الأدوار "العمدة" و"الفلاح" و"الصعلوك" و"ابن البلد" متربعا في قلوب عشاقه وجمهورها الذي يحتفل معه بعيد ميلاده الـ 78 وتعيش ضحكته لا تفارق وجهه.