الأربعاء 29 مايو 2024

المقاومة الإبداعية الفلسطينية

مدحت بشاى

28-11-2023 | 20:23

بقلـم: مدحت بشاى
ستظل الفنون وكافة وسائل الإبداع وأدوات القوى الناعمة واستثمارها فى دعم رسائل وخطط أهل المقاومة فى جوانبها المعنوية للدفاع عن القضايا المعنية بحقوق الإنسان فى الحياة والوجود على أرض الوطن فى أمن وسلام.. وفى هذا السياق يتقدم الصفوف أهل الإبداع الأدبى والفنى بإيمان صادق وتبنٍّ حقيقى لأحلام بنى مواطنيهم دون تزييف أو متاجرة أو مزايدة على حساب مصالح الوطن والمواطن.. أيضًا، ستظل المقاومة الفلسطينية وما رافق مراحل نضالها من منتجات إبداعية تاريخية خير شاهد على صدق المقصد وروعة وتفرد الإبداع العربى بشكل عام والفلسطينى بشكل خاص.. وهنا نتوقف عند مصطلح أو هدف «المقاومة بالإبداع الفنى والأدبى» حيث لا يمكن الاكتفاء بتوثيق مراحل تصعيد آليات المقاومة لإثبات المشاركة والحضور فى الميدان، حيث دور المبدع يتمثل فى اعتماد فنونه كسلاح للمقاومة الفاعلة تشكل مصدر خطورة بأثرها التوعوى والتنويرى والوطنى.. منْ منا يمكن أن ينسى مقاومة قلم «غسان كنفانى» أو ريشة «ناجى العلى».. حتى كان استهدافهما وغيرهما من أهل الإبداع.. عندما دوّى صوت انفجار فى بيروت كان استشهاد الكاتب والصحفى الفلسطينى «غسان كنفانى» عام 1972، أنتج قبلها مجموعة من الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات التى تصور معاناة الفلسطينى قبيل النكبة وبعدها ودراسات فى الأدب الفلسطينى والأدب الصهيونى، مما جعل رئيسة وزراء الكيان الصهيونى جولدا مائير تعلق على خبر قتله : «اليوم تخلصنا من لواء فكرى مسلح، فغسان بقلمه كان يشكل خطرا على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائى مسلح».. وبجانب تدفق إبداعات ”غسان” نذكر ريشة ”ناجى العلى”، فنان الكاريكاتير الذى لا تزال رسومه إلى اليوم تعبر عن الحال الفلسطينى والعربى ككل، وما زال رمزه المشهور الطفل حنظلة صاحب العشر سنوات يعبر عن كل إنسان عربى مشرد، مظلوم ورافض للحلول الخارجية.. وينضم لأهل إبداع فنون المقاومة فى مجال الغناء والموسيقا «مارسيل خليفة» الذى عقد تزاوجا رائعا بين الغناء وشعر «محمود درويش» و«فيروز»، «جوليا بطرس»، «ريم البنا»، فرقة العاشقين ومن ارتبطت أسماؤهم بالمقاومة بشكل أو بآخر فالغناء الفردى والجماعى، الشعرى والفصيح، القديم والحديث، وحّد المشاعر العربية وصاغ مفاهيم الرفض والثورة والغضب.. معلوم أن الفن والمقاومة يترافقان فى صياغة رسائل توجز أحلام وأهداف أصحاب القضايا الجوهرية لتعزيز ثقافة الصمود فى الأرض والثبات المستبسل عليها فهى من أصعب أشكال المقاومة الصامتة.. حتى الانتصار والفوز وجنى الثمار.. فى مجال علاقة المقاومة وإسهامات الفنون التشكيلية، يلجأ الفنان الفلسطينى للتعامل بفنونه فى اتجاه توعوى تنويرى للجماهير للتأكيد على التأثير السلبى من جانب الاحتلال على ضياع الهوية الفلسطينية ودعم سبل التأكيد على أبعاد وأشكال التراث الفلسطينى وبيان انعكاساته على لوحاتهم، وإظهار التراث الفلسطينى الغنى المنعكس على المشغولات المطرزة المستخدمة فى الأثواب التراثية، والتعبير عن وسائل المعيشة ككل ودعم الاستخدامات اليدوية اليومية بأشكال متعددة من وسائل التعبير التشكيلى، سواء كان التصوير الفوتوغرافى أو التصوير الزيتى أو اللونى أو النحت أو الريليف، حتى تصل رسائل فعاليات تلك الفنون إلى رموز وقوى الاحتلال الباغية العاتية مواصفات طبيعة المواطن الفلسطينى واعتزازه بهويته التى لن يتنازل عن معطياتها الرائعة مهما عانى من تحديات وواجه من صعوبات عبر تعاقب الأجيال.. وكما تقول الناقدة الأميرة «وجدان على» يعود الفضل لـ «إسماعيل شموط» الفنان الكبير الراحل فى إرساء القواعد الأولى للفن الفلسطينى المعاصر، فمنذ الخمسينيات وهو يكرس جلّ جهده لبناء قاعدة متينة للفنان التشكيلى الفلسطينى، فقد أقام أول معرض شخصى له عام 1953 فى مدينة غـّزة، أتبعه عام 1954 بمعرض آخر فى القاهرة، شارك فيه كل من ”تمام الأكحل” و«نهاد سباسى»، تناولوا فى أعمالهم الموضوع الفلسطينى من أجل إعطاء الفن هوية وطنية، تعكس مأساة شعب سلبت حقوقه وشُرّد فى شتى بقاع الأرض، وكان للتشريد هذا ردة فعلٍ معاكسة لما أراده الآخرون للهوية الثقافية الفلسطينية.. وقد رحل صباح الأربعاء فى يوليو 2006 الفنان التشكيلى الفلسطينى الكبير ”إسماعيل شموط” فى أحد مستشفيات ألمانيا عقب إجراء عملية جراحية فى القلب عن عمر يناهز (76 عامًا)، أمضى منها 55 عامًا فى تشكيل القضية الفلسطينية بألوانه وخطوطه ورؤاه.. تذكر الفنانة التشكيلية لطيفة يوسف فى هذا السياق أن الفنان التشكيلى الفلسطينى قد عانى قديمًا فى فترة الانتداب البريطانى على فلسطين من القهر الذى تمارسه قوات الانتداب، حيث لم يكن مسموحا للفنان الفلسطينى سوى بالتعبير عن الطبيعة فقط، فلجأ الفنان الفلسطينى لـ”اللاند سكيب” من خلال تسجيل كل ما يسقط نظره عليه من الطبيعة الفلسطينية، مثل البحر والجبال والسهول والرقصات الشعبية وتوثيق الأفراح والعادات والتقاليد، أما فى زمن الاحتلال الصهيونى فأصبح لابد للفنان التشكيلى الفلسطينى من اللجوء لعدة طرق حتى يستطيع إقامة معرض، سواء داخل فلسطين أو خارجها، فعندما كان يتم الاستعداد لإقامة معرض داخل فلسطين كان جيش الاحتلال يذهب ويدمر المعرض ويمنع حضور أى شخص به، كما كانت قوات الاحتلال تعمل على منع خروج أى عمل فنى خارج فلسطين، لذلك كان يقوم الفنان الفلسطينى المقيم خارج وطنه بهذا الدور، حيث هناك صياغة لدور تكاملى بين الفنانين الفلسطينيين فى الخارج والداخل فى ظل الاحتلال ومازال هذا الشيء قائمًا حتى الآن.. ولدت الفنانة ”لطيفة يوسف” فى فلسطين بعام النكبة ونشأت فى مخيم خان يونس كباقى جيلها، وعاشوا على أمل العودة فقد كان يلازمهم باستمرار، وكان فى محيطهم باستمرار فنانون تشكيليون من الرواد، مثل الفنان ”إسماعيل شموط” و”أمين شموط” و”جمال شموط”، كانت عائلة فنية بجدارة، ذلك إلى جانب فنانين آخرين يعتبرون جيرانًا بالنسبة لهم فى المخيم، وكانوا يصممون البوسترات لتوعية الناس من الناحية الصحية والبيئة وغيرها.. تحكى ”لطيفة يوسف”: ”أميل للأسلوب التعبيرى التجريدى وأطبقه فى غالبية أعمالى الفنية فى الفترة الراهنة، وأحب الألوان كثيرًا ولا أقلق من استخدامها، وليس لدىَّ مدرسة خاصة بالنسبة للفن للتشكيلى بشكل عام، لكنى أتحدث عن أسلوبى الشخصى، إذ إننى أحب أى عمل فنى يعجبنى وأجد فيه رؤية بصرية جمالية وعمقا وفكرة، دون أن أصنف المدرسة الفنية التى ينتمى إليها إذا كانت واقعية أم كلاسيكية أو ”مودرن آرت” أو غيرها من المدارس.. وترى ”لطيفة” أن جهود حكومات الدول فى تعزيز دور الفنان التشكيلى ودعمه لا تكون واضحة بشكل دائم للأسف، وتقول ”فى وقت سابق وتحديدًا من بداية التسعينيات وحتى عام 2007، كنت أعاصر بينالى الإسكندرية وبينالى القاهرة، فقد كنت أشارك بجناح فلسطين بهما، وكانت الأعمال الفنية فى قمتها خلال هذه الفترة، وكان هناك متذوقون ونقاد حقيقيون للفن التشكيلى، وأعتقد أن الدولة فى هذه الفترة كانت تدعم هذا الاتجاه، أتحدث عن واقع لمسته وشاهدته بنفسى، وفى باقى الدول العربية لا أستطيع الحكم حيث لم أعشْ فيها بنفسى، أما فى فلسطين فالمعنى الوحيد بالاهتمام بالفن التشكيلى هى وزيرة الثقافة ولكنها لا تملك الميزانية الكافية لدعم الفنان التشكيلى الفلسطينى أبدًا، وليس هناك أى إمكانيات أو دعم حكومى للفن والفنانين التشكيليين، فقط هناك مجهودات فردية بحتة يقوم بها الفنان الفلسطينى الذى يحفر فى الصخر لإقامة معرضه الخاص».. ومواكبة لأحداث الحرب على غزة نشر الفنان الرائع والناقد المصرى ”صلاح بيصار” لوحة ”حلم العودة”- زيت على قماش - عام 1970، للفنان راغب إسكندر عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعى ”فيس بوك”.. وعلق ”بيصار” على الصورة قائلًا: اللوحة من 50 سنة وكانت القضية الفلسطينية من قبل ذلك.. يا ضمير العالم اصحى.. وحول سينما المقاومة الفلسطينية، اكتسب مهرجان السينما الفلسطينية فى فرنسا أهمية ثقافية، كونه متخصصًا بالسينما الفلسطينية، ولكن مهرجان السينما الأخير، وفق ما أشيع من أخبار ومقالات نقدية كان له أهمية ونكهة خاصة حيث فى شهر تشرين الثانى يكون قد مر قرن من الزمان على وعد بلفور عام 1917 المناسبة التى يُفترض بالبرامج التلفزيونية العربية ومهرجانات السينما أن توليها الاهتمام المناسب! وفى تقديرى أن مهرجان السينما الفلسطينية ينبغى ألا يقتصر على الأفلام الفلسطينية الروائية منها والوثائقية، بل يتعدى ذلك ليصبح مهرجانًا للسينما العربية، فلم تعد القضية الفلسطينية وحدها منفصلة عن الواقع الثقافى العربى الذى يشترك بنفس الهموم ويتفاعل إيجابًا وسلبًا بسبب طبيعة الأوضاع السياسية القائمة فى المنطقة.. يذكر الكاتب ”خالد محمود”: ”عبر الجيل الأول من السينمائيين الفلسطينيين عن قضيتهم من خلال عروض سينمائية أقرب إلى المزج بين الأسلوب الوثائقى والسرد، وشكلوا حركة مقاومة لطرح القضية الفلسطينية على ساحة السينما العالمية، على غرار حركات المقاومة الفلسطينية واستطاعوا إيصال قضيتهم من خلال لغة السينما رغم الصعوبات، وقد اكتملت رحلتهم بجيل المخرجين المغتربين الذين ظهروا منذ أوائل الثمانينيات واستمروا حتى اليوم حيث ولدت أعمالهم ثورة سينمائية على الشاشة، أصبحت تعرف بـ”الموجة الجديدة للسينما الفلسطينية” سعى مخرجوها إلى تغيير نظرة الغرب لصورة الفلسطينى الذى يقاوِم المحتل ويفجر نفسه للانتقام من العدو إلى صورة الفلسطينى الذى يعتز بأرضه، ويتشبث بالحياة والموت عليها، لذا فهو يقاوم من أجل الحفاظ على هويته وطقوسه اليومية، مهما كان الوضع المرير الذى يعيشه، بإصرار واضح وتجاهل تام لاستفزازات المحتل، وقد وصل صدى هذه الأفلام إلى المحافل الدولية والمهرجانات السينمائية العالمية بل ونالت جوائزها.. وأضاف : نعم استمرت السينما الفلسطينية وبقى سؤال الهوية والاغتراب ملازمًا لها، فى الجيل الأول يأتى المخرج ”ميشيل خليفى” الذى قدم أفلاما عديدة بمشوار طويل، أبرزها ”عرس الجليل”1987، الذى حصل على التانيت الذهبى لأيام قرطاج السينمائية..