الجمعة 1 نوفمبر 2024

تأسيس الدولة (3) المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

صورة أرشيفية

1-4-2024 | 01:48

بقلـم: د. أحمد على ربيع
لم تكن المدينة على قلب رجل واحد قبل مجىء الرسول صلى الله عليه وسلم إليها فقد كانت الأوس والخزرج قبيلتين تنتميان إلى الأصل القحطانى وهو أبو العرب العاربة وكانت مساكنها فى اليمن، وقد نزحت القبيلتان من اليمن فى الجنوب إلى الجزيرة العربية بعد انهيار سد مأرب، وهذا ما حدث أيضاً لكثير من القبائل اليمنية التى تركت اليمن وتفرقت فى كثير من مناطق الجزيرة العربية، واستقرت قبيلتا الأوس والخزرج فى المدينة، وكانت هناك ثلاث قبائل يهودية هم بنو قينقاع وبنو قريظة وبنو النضير وكانت هذه القبائل كغيرها من قبائل اليهود تتسم بسمات الغدر والخيانة تحدث الفتنة بين أبناء الشعب الواحد حتى تحدث الفرقة بينهم عملاً بالمثل القائل فرق تسد، فعز عليها أن ترى هذا الوفاق والانسجام بين قبيلتى الأوس والخزرج وهما من أصل واحد فعملت على إحداث الفرقة بينهما، يحركون نار الفتنة ويشعلون الخلاف حتى قامت بينهما حرب طويلة ظلت سنوات عديدة هلك فيها عدد كبير من الفريقين وظلت العداوة بينهما حتى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تخمد هذه النار إلا بعد مجيئه إلى المدينة فكان أول عمله أن يزيل تلك العداوة من نفوسهم وأن يوحد صفهم ويجمعهم على كلمة سواء، فالإسلام يجمع ولا يفرق ويزيل العداوة من النفوس ويطهر القلب من أغلال العداوة ويجعل أبناءه إخوة متحابين وقد عز على اليهود ذلك، ويشعرون أن الأمر سينفلت من بين أيديهم فحاولوا جاهدين أن يحدثوا تلك الفرقة بين الفريقين مرة ثانية، فجلسوا بينهم ذات يوم يذكرونهم بتلك الحروب التى دارت بينهم ويذكرونهم بالقتلى من الفريقين فجعلوا يتفاخرون على بعضهم حتى ذهبوا إلى المقابر يتفاخرون بالأموات ثم رفعوا السيوف على بعضهم وكادوا يقتتلون، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك غضب غضباً شديداً وذهب إليهم قائلاً لهم أيحدث هذا وأنا بين ظهرانيكم؟ دعوها فإنها منتنة أى تلك العصبية القاتلة ثم نزل قول الله سبحانه وتعالى «واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً» فبكى القوم وابتلت لحاهم وتعانقوا وصافح بعضهم بعضاً، فكان هذا أول توفيق بين فريقين من التركيبة السكانية لأهل المدينة ليتفرغ الفريقان لاستقبال إخوانهم من المهاجرين الذين ليس لهم مأوى ولا أهل بعد أن تركوا الأهل والمال وراء ظهورهم واشتروا رضا الله ومغفرته فكيف كان حال الأنصار معهم وماذا حدث بينهم من أنواع المواساة؟ كان المهاجرون قد تركوا وراءهم كل شيء وجاءوا إلى المدينة عزلاً لا يملكون مسكناً ولا مالاً، والأنصار أبناء البلد يملكون بيوتاً وتجارة ومالاً، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن آخى بين المهاجرين والأنصار فجعل كل واحد من المهاجرين أخاً لواحد من الأنصار يشاركه المسكن الذى يسكنه والمطعم الذى يطعمه وهذه عادة العرب حين يلجأ إليهم ضيف أو يحل بهم زائر فيظهرون الشهامة ويقرون الأضياف ويبالغون فى الإكرام والترحيب، وقد ضربوا المثل الأعلى فى المواساة والتوقير فلم يتوقف الأمر عند الكرم الذى أمر به الإسلام ودعت إليه المروءة وقضت به أحوال المهاجرين بل وصل الأمر حد الإيثار وهو أن تعطى لأخيك أحب ما تتمناه لنفسك وتشتهيه وتفضله على نفسك محبة وكرامة دون أن يطلب منك ذلك، فغاية الضيف أن يجد فيك البشر والطلاقة وحسن الضيافة، أما أن تجعل له حقاً فى أطايب مالك وأن تسمح لك نفسك أن تعرض عليه إحدى نسائك لتطلقها ويتزوجها هو فهذا هو الإيثار وهذه هى الأخوة الصادقة والمحبة الخالصة وقد حدث هذا مع عدد منهم فهذا أبو أيوب الأنصارى يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسكن الطابق الأعلى من البيت توقيراً له ورفعاً لقدره ومكانته مفضلاً الرسول على نفسه لكن الرسول يأبى ذلك لكثرة زواره حتى لا يزعج أبا أيوب بكثرة الطلوع والنزول، كما قدم الأنصار أروع الأمثلة فى مشاركة إخوانهم المهاجرين فيما يملكون من ثمار وتجارة وعقار وغيرها فعن أنس ابن مالك رضى الله عنه أنه قال: «لما قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا يا رسول الله ما رأينا قوماً أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم لقد كفونا المؤونة وأشركونا فى المهنأ» رواه الترمذى، وروى البخارى أن الأنصار قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال لا فقالوا تكفونا المؤونة ونشرككم فى الثمرة قالوا سمعنا وأطعنا، وهذا يبين مدى حبهم لهم وتعلقهم بهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضى بأن يراعى المهاجرون النخيل بالسقى والتعهد حتى يشاركوهم الثمار بعد ذلك أما ما حدث بين عبدالرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصارى فيضرب به المثل فى الإيثار من جانب سعد والتعفف من جهة عبدالرحمن رضى الله عنهما فقد روى البخارى عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال قدم عبدالرحمن بن عوف المدينة فآخى النبى صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصارى وكان سعد ذا غنى فقال لعبد الرحمن أقاسمك مالى نصفين وكذلك أزواجى قال عبدالرحمن بارك الله لك فى أهلك ومالك دلنى على السوق فما رجع حتى استفضل أقطا وسمناً فيأتى به أهل منزله فمكثنا يسيراً أو ما شاء الله فجاء وعليه وضير من صفرة أى أثر عطر فقال له النبى صلى الله عليه وسلم كلمة تفيد الاستفهام أى ما حالك قال يارسول الله تزوجت امرأة من الأنصار قال ما سقت إليها قال نواة من ذهب قال أولم ولو بشاة ولك أن تتأمل هذا الكرم وهذا النبل من أنصارى كسعد بن الربيع والذى عرض على عبدالرحمن شطر المال رغم أن النفس الإنسانية طبيعتها تخالف ذلك وتأباه فالنفس تميل إلى الأثرة وحب الخير لنفسها لكن ما فعله سعد على عكس ذلك، وهذا ما أحدثه الإسلام ونور الإيمان فى نفوس أصحابه ويزيدك تعجباً من موقف سعد أنه عرض عليه إحدى نسائه ليطلقها له حتى يتزوجها عبدالرحمن فهذا قمة الإيثار والتضحية ويقابله قمة التعفف والنزاهة من عبدالرحمن الذى يدعو له بالبركة فى ماله وأهله ويطلب منه فقط أن يدله على السوق حتى يبيع ويشترى ويتكسب من وراء ذلك مالاً يعف به نفسه ويساعده على مجابهة أمور الحياة، والأمثلة فى الإيثار بين المهاجرين والأنصار كثيرة سجلها التاريخ ومجدها الإسلام فى القرآن الكريم، فبعد أن مدح الله المهاجرين بالصدق وابتغاء فضل من الله ورضوان، مدح الأنصار أيضاً بمحبة المهاجرين وإيثارهم على أنفسهم رغم حاجتهم كما مدحهم بالفلاح حيث قال تعالى فى سورة الحشر: «والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون» ، فأنت ترى أن كل واحد من الفريقين قدم ما يليق به من أخلاق وما هو أهل له من خصال حتى ضربوا فى ذلك أروع الأمثلة وصاروا أئمة وقدوة لغيرهم فى هذا الجانب، لقد طبق الصحابة هذه المؤاخاة حق تطبيقها فجعلوها مبدأ حياة بينهم وقد حض عليها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة فقد ذكر القرآن مبدأ الأخوة وجعله عنوان المؤمنين فقال تعالى : «إنما المؤمنون إخوة» وحض الرسول الكريم على ذلك فى كثير من أحاديثه فقال صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم» وقال صلى الله عليه وسلم «وكونوا عباد الله إخواناً» كما جعلهم فى تعاونهم وتكاتفهم كالجسد الواحد فقال صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» إن الصحابة قد عرفوا حق الأخوة وقيمة الإيثار وعلموها لغيرهم فهذا أبو هريرة رضى الله عنه يأتيه واحد فيقول له إنى أريد أن أؤاخيك فى الله فقال له أبو هريرة أتدرى ما حق الأخوة فى الله قال له علمنى فقال له أبو هريرة أن أكون أحق بدينارك ودرهمك منك فقال له الرجل لم أبلغ هذه الدرجة فقال له أبو هريرة إذن فاذهب حتى تبلغها، وكان سلمان الفارسى أخا لأبى الدرداء الأنصارى وكان يتفقده ويسأل عن أحواله فيمر يوماً بالبيت يسأل عنه فرأى أم الدرداء مهملة فى نفسها فسألها ما لك يا أم الدرداء فقالت له أخوك أبو الدرداء صوام قوام فقال لها إذا حضر أخبريه بسؤالى عنه فلما قدم أبو الدرداء بعث لسليمان فجاءه ورحب به أبو الدرداء وكان ذلك وسط النهار فأتى له بطعام فقال له سلمان لا آكل حتى تأكل معى فقال له إنى صائم قال له أبو هريرة كل بحقى عليك فأكل ثم قال له سلمان إنى ضيفك الليلة فقال له أبو الدرداء مرحباً أخى سلمان فلما دخل الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم من أول الليل لله فقال له سلمان نم فقال أبو الدرداء أنا أقوم من أول الليل قال له سلمان نم بحقى عليك فنام حتى الثلث الأخير من الليل فقاما معاً يصليان لله ثم قال له سلمان إن لربك عليك حقا ولبدنك عليك حقا ولزوجك عليك حقا فأعط كل ذى حق حقه فلما أصبح أبو الدرداء ذهب يحكى لرسول الله ما فعله معه سلمان فقال صلى الله على وسلم صدق سلمان وهذا يبين لنا حق الأخ على أخيه وأنه منه بمنزلة نفسه يرضى له ما يرضاه لنفسه ويكره له ما يكرهه لنفسه ويكون له عضدا يتكئ عليه ويتقوى به كما قال سينا موسى عن أخيه هارون «هارون أخى اشدد به أذرى وأشركه فى أمري» وفى آية أخرى يقول له ربه سبحانه وتعالى «سنشد عضدك بأخيك» فما أحوجنا فى هذه الأيام إلى إحياء هذه الخليقة الإسلامية التى تراجعت كثيراً هذه الأيام وأصبحت عملة نادرة غير موجودة فى زمننا هذا وصدق الشاعر القائل إن أخا الحق من كان معك ومن أضر بنفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك نفسه ليجمعك، ويقول عبدالرحمن شكرى وياليت لى دنيا أبيع حطامها بود أخ لو يشترى الود بالنقد.