الجمعة 1 نوفمبر 2024

مدينة العلم (3) المنهج العلمى عند المسلمين

صورة أرشيفية

1-4-2024 | 02:04

بقلـم: د. عبدالحليم منصور
بينما كان الصراع يشتد بين دولتى الروم وفارس، قبل ما يربو على ألف وأربعمائة عام، حيث كانتا بمثابة القوتين العظميين فى ذلك الوقت، فضلا عن كونهما الأنموذج الحضارى الأمثل، إبان تلك المرحلة، حينها بزغ نور جديد يؤذن ببدء حضارة جديدة فى يثرب بعد أن أذن الله لنبيه بالهجرة إليها، فبدلا من أن تكون مجالا للصراعات بين القبائل، تحولت إلى نموذج إشعاع على كافة المستويات الحضارية، الدينية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، وغير ذلك، ولقد قام هذا الأنموذج على مجموعة من الأسس والمرتكزات يمكننا إيراد بعضها على النحو الآتى: أولا: قيام دولة المدينة على أساس من التعايش السلمى الإنسانى الذى دعا إليه القرآن الكريم ويتجلى ذلك من خلال العديد من النصوص الشرعية التى تجسد العلوم والمعارف التى تتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل، والتى تعبر عن أدبيات العلم الذى قامت على هذه الدولة، من ذلك قول الله تعالى: «يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ إن أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ إن ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (الحجرات:13). قال الشوكاني: إنهم متساوون لاتصالهم بنسب واحد وكونه يجمعهم أب واحد وأمّ واحدة، وأنه لا موضع للتفاخر بينهم بالأنساب.. والفائدة فى التعارف أن ينتسب كل واحد منهم إلى نسبه ولا يعترى إلى غيره والمقصود من هذا أن الله سبحانه خلقهم كذلك لهذه الفائدة لا للتفاخر بأنسابهم، ودعوى أن هذا الشعب أفضل من هذا الشعب، وهذه القبيلة أكرم من هذه القبيلة، وهذا البطن أشرف من هذا البطن، ثم علل سبحانه ما يدل عليه الكلام من النهى عن التفاخر فقال (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، أى أن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى، فمن تلبس بها فهو المستحق لأن يكون أكرم ممن لم يتلبس بها وأشرف وأفضل، فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالأنساب فإن ذلك لا يوجب كرما ولا يثبت شرفا ولا يقتضى فضلا. ثانيا: قيام هذه الدولة على أساس من المساواة التى دعا إليها الإسلام ذلك أن الإسلام سوّى بين جميع رعايا دولته على اختلاف دينهم، وجنسهم، وجعل معيار التفاضل بينهم هو معيار التقوى والعمل الصالح قال تعالى: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم». روى الإمام أحمد فى مسنده عن أبى نضْرَةَ حدثنى من سمع خُطْبةَ رسول اللّهِ فى وسط أيام التّشْرِيقِ، فقال: «يا أيُّهَا الناس إن ربَّكُمْ واحِدٌ وإِنَّ أبَاكُمْ واحِدٌ ألا لاَ فضْلَ لعربى على عجمى ولاَ لعجمى على عربى ولاَ لأحْمَرَ على أسْوَدَ ولاَ أسْوَدَ على أحْمَرَ إلاَّ بِالتّقْوَى أبَلَّغْت»ُ، قالوا: «بلَّغَ رسول اللّهِ»، ثمَّ قال: «أى يوْمٍ هذا؟»، قالوا: يوْمٌ حرَامٌ، ثمَّ قال: «أى شهْرٍ هذا؟» قالوا: شهْرٌ حرَامٌ، ثمَّ قال: «أى بلَدٍ هذا؟» قالوا: بلَدٌ حرَامٌ، قال: «فإن اللّهَ قد حرَّمَ بيْنَكُمْ دِماءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ»، قال: ولاَ أدْرِى، قال: أو أعْرَاضَكُمْ أمْ لاَ كحُرْمَةِ يوْمِكُمْ هذا فى شهْرِكُمْ هذا فى بلَدِكُمْ هذا أبَلَّغْتُ»، قالوا: «بلَّغَ رسول اللّهِ قال لِيُبلِّغِ الشّاهِدُ الْغائِب». وهذه المساواة التى قامت عليها دولة المدينة تجلت تطبيقاتها فى العديد من الممارسات: منها مثلا: المساواة فى المعاملات، بكافة أنواعها، لا فرق بين مسلم أو غير مسلم، وكذا فى شتى التشريعات، الجنائية وغيرها، فلو قتل مسلم غير مسلم قتل به، لأن كلا منهما نفس خلقها الله عز وجل، قال تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أن النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (المائدة:45) وفضلا عن هذا وذاك المساواة أمام القضاء، وهنا تظهر عظمة العلم الذى قامت عليه هذه الدولة من خلا ل تطبيق المساواة القضائية بين الأفراد فى المجتمع، يؤكد على ذلك ما روى أن الإمام علىّ بن أبى طالب خرج إلى السوق، فإذا هو بنصرانى يبيع درعا، قال: فعرف علىّ الدرع فقال: هذه درعي، بينى وبينك قاضى المسلمين. قال: وكان قاضى المسلمين شريح، كان على استقضاه. قال: فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء، وأجلس عليا فى مجلسه، وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني، - ثم قال له - اقض بينى وبينه يا شريح. فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: فقال علىّ: هذه درعى ذهبت منى منذ زمان. قال فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ قال: فقال النصراني: ما أكذب أمير المؤمنين، الدرع هى درعي. قال فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده، فهل من بينة؟ فقال علىّ رضى الله عنه: صدق شريح. قال فقال النصراني: أما أنا أشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه، وقاضيه يقضى عليه، هى والله يا أمير المؤمنين درعك، اتبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك الأورق، فأخذتها، فإنى أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. قال: فقال علىّ رضى الله عنه: أما إذا أسلمت فهى لك. وحمله على فرس عتيق، قال فقال الشعبي: لقد رأيته يقاتل المشركين. يؤكد ما سبق أيضا ما روى جاء رجل من مصر إلى عمر بن الخطاب متظلمًا، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا مكان العائذ بك. قال له: عذت بمعاذ، ما شأنك؟ قال: سابقت ولد عمرو بن العاص بمصر فسبقته، فجعل يعنفنى بسوطه، ويقول: أنا ابن الأكرمين وبلغ أباه ذلك، فحبسنى خشية أن أقدم عليك؟ فكتب إلى عمرو: إذا أتاك كتابى هذا فاشهد الموسم أنت وابنك. فلما قدم عمرو وابنه، دفع الدرة إلى المصري، وقال: اضربه كما ضربك، فجعل يضربه وعمر يقول: اضرب ابن الأمير، اضرب ابن الأمير يرددها، حتى قال: يا أمير المؤمنين قد استقدت منه، فقال - وأشار إلى عمرو: ضعها على صلعته، فقال المصري: يا أمير المؤمنين، إنما أضرب منْ ضربني، فقال: إنما ضربك بقوة أبيه وسلطانه، فاضربه إن شئت؟ فوالله لو فعلت لما منعك أحد منه، حتى تكون أنت الذى تتبرع بالكف عنه ثم قال: يا بن العاص، متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. وهكذا علمت أدبيات الإسلام وعلومه ومعارفه الدنيا كلها معالم العدل كيف يكون، ومعالم المساواة فى أبهى صورها، وطبقها المسلمون تطبيقا عمليا راقيا، وسيظل إلى قيام الساعة ليؤكد على حقيقة جلية أن تأسيس دولة المدينة إنما كان على أسس علمية رصينة أهلتها لأن تغزو القلوب والعقول، وتنافس الحضارات التى كانت موجودة إبان هذه الحقبة، وستظل بقيمها وأدبياتها ومثلها إلى قيام الساعة. ثالثا: قيام دولة المدينة على أساس المواطنة ذلك أن أدبيات الإسلام تعنى بالمساواة بين رعايا الدولة الإسلامية فى الحقوق والواجبات، وهذا ما أصّلت له وثيقة المدينة والتى جاء فيها كما ذكر ابن إسحاق: «كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا بين المهاجرين والأنصار، ووادع فيه يهود وعاهدهم، وأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط لهم واشترط عليهم: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبى صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم.. وأن المؤمنين لا يتركون مفُرجَا بينهم أن يعطوه بالمعروف فى فداء أو عقل، ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه، وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دَسِيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم.. وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.. وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما فى هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحدِثًا ولا يؤويه، وإن من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرفٌ ولا عدل، وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد، وإن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على منْ حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وإنه لن يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم، وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وإنه لا تُجاَر حُرْمة إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو استجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الله على أتقى ما فى هذه الصحيفة وأبره، وإنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على منْ دهم يثرب». رابعا: قيام دولة المدينة على المزاوجة بين العلم والعمل ولقد وردت المزاوجة بين الإيمان والعمل الصالح فى كثير من الآى قال تعالى: «وَالْعَصْرِ * إن الْإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ». قال الشوكاني: «أى جمعوا بين الإيمان بالله والعمل الصالح فإنهم فى ربح لا فى خسر؛ لأنهم عملوا للآخرة ولم تشغلهم أعمال الدنيا عنها». وقال عز وجل: «إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا» وقال تعالى: «إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ». خامسا: قامت دولة المدينة على العلم بمفهومه العام والمراد أن العلم المطلوب تحصيله ليس العلم الشرعى فقط، وإنما يشمل كافة المعارف الإنسانية التى يحتاج إليها المجتمع لأجل ذلك ترسخت هذه الثقافة فى عقول المسلمين، لأجل ذلك نجد المسلمين فى الحضارة الإسلامية ابتكروا العديد من العلوم الجديدة التى لم تُعرف قبلهم، وأطلقوا عليها أسماء عربية، ومن الأمثلة عليها علم الجبر، وعلم الكيمياء، وعلم المثلثات، كما ابتكروا المنهج العلمى المُستخدم فى البحث والكتابة، وهو المنهج القائم على التجربة، والمشاهدة، والاستنتاج، أدخلوا الرسوم التوضيحية، كرسوم الآلات، والعمليات الجراحية فى الكتب العلمية، إضافة إلى إنشائهم للقواميس، العلمية، والموسوعات المُرتبة بحسب الأحرف الهجائية، وتميزت المكتبة الرئيسية آنذاك باحتوائها على جهاز مُختص بالترجمة، وجهاز مُختص بالنسخ والنقل، وجهاز مُختص بالحفظ والتوزيع، وانتشر المترجمون من كافة الأجناس الذين أتقنوا اللغة العربية إلى جانب لغتهم الأم. المنهج العلمى عند المسلمين تطورت الأساليب العلمية لدى المسلمين وحدث تقدم مُبهر فى المنهجية المتبعة، ووصل ذلك إلى أَوجِه فى القرن الحادى عشر الميلادي، ويظهر ذلك فى أعمال العالم ابن الهيثم الذى يُعد رائدًا بالفيزياء التجريبية، حيث تم استعمال التجريب، والقياس الكمى من أجل التمييز بين عدد من النظريات العلمية المتكافئة تحت إطار من التوجه التجريبى بصورة عامة، وقد ألف ابن الهيثم كتابه المعروف باسم البصريات، وصحح العديد من الأمور فى مجال البصريات، وأثبت عن طريق التجربة أن الرؤية تحدث نتيجة للأشعة الضوئية التى تنعكس على العين، وقد قام باختراع أول جهاز شبيه بالكاميرا، وكان يُسمى باسم (قمرة). على هذا النحو قامت دولة المدينة كما أسسها النبى عليه الصلاة والسلام، وإن الدولة الحديثة اليوم لن تبلغ غايتها إلا على أساس من العلم المنفتح على كافة الثقافات، التى تعنى بالإنسان، والارتقاء به، وتحقيق مصالحه، من أجل تحقيق معانى الخلافة عن الله عز وجل، والاستخلاف فى الكون وعمارته على النحو المنشود.