الإثنين 3 يونيو 2024

قيم ومبادئ الدولة المدنية الأولى

3-11-2020 | 17:09

تستقبل الأمة الإسلامية المولد النبوى الشريف وهى تعانى بشدة جراء اختراق مفهوم الدولة المدنية، تلك الدولة التى وضع رسولنا الكريم، محمد عليه الصلاة والسلام، أسسها بعد هجرته إلى المدينة؛ إذ أكد على مفاهيم لم تكن محل اهتمام حقيقى فى واقع ذلك الزمان البعيد.

نظرة واسعة على المشهد السياسى فى لبنان وسوريا والعراق واليمن، بل والسودان الذى انقسم جراء تهميش بعض طوائفه، نستخرج منه أسبابا منطقية لما آلت إليه أوضاع الأمة الإسلامية من ترد بين الأمم. وما عاد الشغل الشاغل لبعض مكوناتها ينصب على مبادئ الدولة المدنية التى وضعها رسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام، بل حرص بعضهم على امتلاك أسلحة الدمار الشامل لتصارع بها وتتدخل فى شؤون غيرها

فقد رسخ رسولنا الكريم مفهوم المواطنة بين مواطنى المدينة، دون تفرقة أو تمييز، ورفع شعار المساواة بين الجميع، ولم يعمد أبدًا إلى مبدأ “فرق تسُد” بل أضاف أبعادًا اجتماعية واقتصادية على الحياة فى المدينة من شأنها توسيع دوائر القواسم المشتركة بين الجميع، دون أفضلية للمسلمين على غيرهم من النصارى أو اليهود.

وواقع الأمر، أن فشلًا ذريعًا نال من خطوات الأمة الإسلامية للبناء عاليًا على الركائز الفكرية التى وضعها رسولنا الكريم؛ ومن ثم نجد أن معاناة مفهوم الدولة الوطنية يكاد يكون شائعًا فى كافة الملفات الساخنة فى المنطقة، بل وفى العالم.

ومن الأسف أن تحظى الأمة الإسلامية بالنصيب الأوفر من هذه النزاعات المسلحة الطاعنة بقوة فى مفهوم الدولة الوطنية، رغم أن ديننا الحنيف أسس لقواعد الدولة المدنية، وكانت أولى ثمارها تلك الدولة التى نشأت مع تولى سيدنا أبو بكر الصديق بعد وفاة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.

إذ عمد أبو بكر الصديق إلى توجيه كلمة للمسلمين ضمت المحتوى القيمى والفكرى للدولة المدنية؛ فقال بعد أن بويع: “أما بعد أيها الناس فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينونى، وإن أسأت فقومونى، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة فى قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم”.

وقراءة سريعة لمحتوى كلمة أول خليفة للمسلمين، نجد كافة مبادئ الدولة المدنية حاضرة؛ ففيها ليس إلا الحاكم واحدا من الناس، وليس هو بأفضلهم، كما أن عليه أن يقبل نقدهم وتوجيههم إذا ما رأوا أنه أخطأ وحاد عن الحق، كما أنه يطلب من المسلمين أن يعينوه؛ ومن ثم فهو يعرف أن نجاحه مرتبط بتعاون الأمة معه، وأنه وحده لا يستطيع إنجاز مهامه على النحو المُراد. كم يُشير ذلك إلى أن المسؤولية مشتركة، والوطن أمانة فى عنق الجميع، كما طالبهم بأن يقوموه إن هو أساء، ومعنى ذلك نجده فى حياتنا المعاصرة بالمعارضة الموضوعية الأمينة والصادقة التى لا تستهدف إلا المصلحة الوطنية، ولا مكان فيها للمصالح الخاصة المضادة للمصلحة الوطنية.

وبقوله “الصدق أمانة، والكذب خيانة” يؤكد الخليفة الأول للمسلمين أن دور المعارضة الحقيقية غاية فى الأهمية، وأن دورها يستوجب منها الصدق؛، وأن المنافقين لا محل لهم فى الدولة المدنية الأولى للمسلمين. كما أن “الضعيف فيكم قوى عندى حتى أريح عليه حقه إنشاء الله” يرسخ للعدل بين الرعية؛ ومن ثم لا سبيل إلى المجاملات والاستقواء بمال أو جاه أو سلطة؛ ومن ثم فإن سيادة القانون، ذلك المبدأ الراسخ فى الدولة المدنية الحديثة، كان من دعائم أول دولة مدنية وضعها المسلمون.

وكما يقول الخليفة أبو بكر فى أولى كلماته لأمته: “أطيعونى ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم”؛ ومن ثم فإن مشروعية الإنجاز، وهى إحدى وسائل نيل ثقة الأمة، تتحقق لو أن كل زعيم أو قائد تمسك بتحقيق طموحات شعبه، دون النظر بعين الاعتبار إلى مصالحه أو امتيازاته؛ ذلك أن المسؤولية ثقيلة بالفعل، ولا تهون إلا على كل مخلص لوطنه، غير عابئ بما يتكبده من مشاق وما يواجهه من مصاعب فى سبيل أداء الأمانة التى وكله الله بها.

وبعد... ألم تكن أمتنا الإسلامية أجدر من غيرها من الأمم بحماية المكتسبات التاريخية التى حازتها منذ مئات السنين، وقت أن كانت الأمم الأخرى غارقة فى ظُلمة الصراعات والحروب واقتناص حقوق الغير، دون النظر إلى ما فى الدولة المدنية من أسس حاكمة تغلب فيها حقوق الإنسان على ما عداها من الحقوق والحريات.

نظرة واسعة على المشهد السياسى فى لبنان وسوريا والعراق واليمن، بل والسودان الذى انقسم جراء تهميش بعض طوائفه، نستخرج منه أسبابا منطقية لما آلت إليه أوضاع الأمة الإسلامية من ترد بين الأمم. وما عاد الشغل الشاغل لبعض مكوناتها ينصب على مبادئ الدولة المدنية التى وضعها رسولهم الكريم عليه الصلاة والسلام، بل حرص بعضهم على امتلاك أسلحة الدمار الشامل لتصارع بها وتتدخل فى شؤون غيرها من الدول.

وفى لبنان، ما كانت هذه الدولة الساحرة الجميلة لتعانى جراء حرب أهلية دامت ما بين ١٩٧٥ ـ ١٩٩٠، لو أنها التزمت قيم ومبادئ الدولة المدنية، بدلا من أن تؤسس نظامها السياسى على أسس طائفية، لم تبتعد بها حتى الآن عن آتون الحرب والفقر.

وفى سوريا الشقيقة، تأسس جيشها على أسس طائفية أيضًا، على حساب مفهوم المواطنة، فنجد المؤسسة العسكرية السورية تتبنى أولًا حماية الطائفة العلوية، وفى اليمن نجح الحوثيون، كذراع إيرانية، فى مسح مظاهر الدولة المدنية بين اليمنيين الذين كانوا قد قطعوا شوطًا رائعًا بوحدة بين جنوبه وشماله. وإذا كان السودان قد خسر جنوبه المسيحى فليس إلا إهمال قواعد الدولة المدنية سببًا لذلك، ولا نبتعد عن نفس الفكرة لو تحدثنا عن العراق وليبيا، وإن كانت الأوجه مختلفة.

من هنا كان التأكيد المستمر والمتواصل من القيادة السياسية بضرورة ترسيخ دعائم الدولة الوطنية، فوجودها هو الضمانة لنحيا حياة كريمة حرة، كما أراد لنا رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.

فلتكن ذكرى المولد النبوى الشريف دافعًا لمراجعات حقيقية وصريحة داخل أمتنا الإسلامية، تدفعنا لانتهاج نهج الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، بها نؤكد انتماءنا لديننا الحنيف، ونجسد معها الأسوة الحسنة التى تركها لنا الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام.

وكل عام وأنتم والأمة الإسلامية بكل الخير.