الأربعاء 29 مايو 2024

لماذا يدرسون توفيق الحكيم ونجيب محفوظ فى إسرائيل؟

4-11-2020 | 14:08

في سنة ١٩٧٢ حدثت قصة طريفة لها إلى جانب طرافتها مغزى ودلالة فقد فوجئ العرب في مدينة نابلس في الضفة الغربية المحتلة بضابط إسرائيلي كبير يلقي خطابا في أحد الاجتماعات باللغة العربية، ثم يقول في هذا الخطاب وكانت هذه المفاجأة.

إننى درست أدبكم العربي الحديث، ونلت الدكتوراة برسالة قمت بتحضيرها عن أديبكم العربي الكبير نجيب محفوظ الذى أتبادل معه الرسائل وتربطنى به صداقة وثيقة.

وكان هذا الخطاب مصدر دهشة لدى العرب الذين استمعوا إليه ، كما استمع نجيب محفوظ إلى فقرات الخطاب الذى ألقاه الضابط الإسرائيلي ثم سأل عن اسمه فقيل له “ إنه الجنرال ميتيتياهو بيليد”.

قال نجيب محفوظ لقد فهمت القصة الآن، فقد كنت أتلقى خلال عام ١٩٧٠ و ١٩٧١ رسائل بتوقيع ماتيتياهو بيليد، وكان صاحب هذه الرسائل يكتب لى من أمريكا على أنه طالب في جامعة كاليفورنيا يقوم بتحضير رسالة دكتوراه عنى، وكنت أتصور أنه مستشرق أمريكى، ولذلك فقد قمت بالرد على رسائله وأسئلته الخاصة بحياتى الأدبية، وأخيراً تلقيت منه نسخة بالآلة الكاتبة من هذه الرسالة التي نال عنها الدكتوراة بالفعل ثم انقطعت صلته بي إلى أن فوجئت الآن أنه ضابط إسرائيلى وكنت أظنه باحثاً من أمريكا، وهكذا اتضحت القصة.

فقد كانت رسالة الدكتوراة التي قدمها الضابط الإسرائيلي ميتيتياهو بيليد تحت عنوان “عقيدتي” دراسة في أدب نجيب محفوظ وقد نالها من قسم الفلسفة والدراسات الإسلامية في جامعة كاليفورنيا، وكانت الرسالة تحت إشراف المستشرق المعروف جوستاف فون جرونياوم .

والجنرال الإسرائيلي ماتيتياهو بيليد، في الخمسين من عمره الآن، وقد نال الدكتوراة سنة ١٩٧١ أي وهو في الثامنة والأربعين من عمره، وهذه الدراسة التي قام بها “بيليد” تكشف عن الاهتمام المعروف من جانب العسكريين الإسرائيليين بدراسة فروع علمية أخرى إلى جانب العلوم العسكرية، فكثير من هؤلاء القادة قد حاولوا أن ينالوا درجات علمية في القانون أو في الزراعة أو في الأدب أو في التاريخ، سواء نالوا هذه الدرجات العلمية من الجامعة العبرية أو من الجامعات الأوروبية والأمريكية.

على أننا نجد أن الاتجاه عند الإسرائيليين عسكريين وغير عسكريين، لدراسة الأدب العربي والثقافة العربية هو اتجاه قديم فهناك عديد من النماذج تؤكد هذا الاتجاه في إسرائيل.

فقد قام “ أبا إيبان وزير خارجية إسرائيل الآن بترجمة قصة “يوميات نائب في الأرياف، لتوفيق الحكيم إلى اللغة الإنجليزية سنة ١٩٤٧، وقد كتب مقدمة هذه الترجمة حافظ عفيفى “باشا” السياسى المصرى القديم، والذى كان رئيساً لديوان الملك فاروق عندما قامت الثورة في سنة ١٩٥٢ وقد سمى أبا إبيان الترجمة الإنجليزية “ليوميات نائب في الأرياف” باسم “العدالة الحائرة” أو حيرة العدالة.

ومن ناحية أخرى فإننا نجد أستاذا في جامعة “تل أبيب” هو ساسون سومخ يقدم كتابا باللغة العربية باسم “دنيا نجيب محفوظ” وهذا الكتاب هو مجموعة فصول مختارة من روايات نجيب محفوظ وقصصه ومسرحياته قدم لها “سومخ” بمقدمة نقدية عن نجيب محفوظ وعد فيها “بإصدار كتاب آخر يحتوى على دراسات في أدب نجيب محفوظ كتبها نقاد عرب وأجانب على حد سواء.

ولم يتوقف اهتمام إسرائيل بالأدب العربى والثقافة العربية عند هذا الحد، بل امتد الاهتمام إلى ترجمة مختصرة لتاريخ “الجبرتى” إلى العبرية، كما ترجمت إسرائيل إلى العبرية أيضاً عدداً آخر من كتب التراث العربى القديم والآثار الأدبية العربية الحديثة في نفس الوقت.

فما هو هدف إسرائيل من هذه الدراسات والترجمات؟

 

نسمع لأول مرة وجهة النظر الإسرائيلية، حيث يقول جبرائيل باير أستاذ تاريخ الشعوب الإسلامية في جامعة القدس ومؤلف كتاب “الملكية الزراعية في مصر الحديثة” إن وراء الاهتمام بالأدب العربي والثقافة العربية واللغة العربية في إسرائيل عدة أسباب أهمها:

أولاً: أن معرفة اللغة العربية والعالم العربى أمر هام جداً لإسرائيل، فمن الناحية الجغرافية تجد إسرائيل نفسها محاطة من كل جانب بأقطار عربية، ومن ناحية السكان داخل إسرائيل نفسها توجد أقلية عربية كبيرة، كما يوجد يهود أتوا من بلدان تتكلم العربية. ومن هنا فإن الإدارات الحكومية المختلفة تحتاج إلى عدد متزايد من المتخصصين في اللغة العربية، كما تتطلب موظفين يتقنون اللغة العربية ويلمون بالعادات العربية والثقافة العربية والتاريخ العربي .

ثانياً: الصحافة والإذاعة في إسرائيل تحتاجان إلى جيل جديد من المترجمين والمعلقين، إذ إن أخبار البلدان العربية تحتل بالطبع مكانا هاما في كل وسائل النشر في إسرائيل.

ثالثاً: هناك عنصر ثقافى عام يدفع الجمهور الذى لا يبتغى الوظيفة ولا يتخصص في اللغة العربية إلى إدخال دراسة اللغة العربية والثقافة العربية في برامجه، نظراً للتقارب بين العبرية والعربية، ومن هنا فإن معرفة العربية هي عنصر أساسى في أي دراسة عميقة للعبرية، ولا يمكن دراسة العبرية والتوراة والأدب العبري الكلاسيكي دون الإلمام بالعربية.

وفى بعض العصور كان أثر الحضارة العربية عميقاً في الشعر والفلسفة وغيرهما من فروع الثقافة العبرية.

خامساً: أن دراسة التاريخ الفلسطيني وعلم الآثار في القرون الوسطى والعصر الحديث لا تتم بدون معرفة العربية.

ويشير “باير” في النهاية إلى أن بعض الإسرائيليين يتابعون دراساتهم للغة العربية والثقافة العربية ليعرفوا العدو معرفة أدق.

ويعلق باير علي هذا النوع الأخير من الباحثين الإسرائيليين فيقول.. ولكن هؤلاء شواذ.

فهل هذا صحيح؟.. الحقيقة أن السبب الأخير الذى أشار إليه “باير” هو بكل تأكيد السبب الرئيسى في اهتمام الإسرائيليين بدراسة الأدب العربي والثقافة العربية واللغة العربية، فالإسرائيليون يهدفون إلى دراسة العرب وفهمهم فهماً دقيقاً حتى يعرفوا موضع القوة وموضع الضعف فيهم، وحتى يتمكنوا من مواجهة العرب ورسم الخطط المناسبة لهذه المواجهة بناء على فهم دقيق ومعرفة واضحة.

وهذا هو الذى يفسر لنا اهتمام رجل عسكرى مثل “ ماتيتياهو بيليد” بدراسة نجيب محفوظ، كمدخل لفهم المجتمع المصري واكتشاف الإنسان في مصر، على أن الدراسة نفسها لاتخضع للمنهج الأدبى بل تعتمد أساساً على فهم العقيدة الدينية والتفكير الاجتماعي عند نجيب محفوظ، فالباحث الإسرائيلي يهدف في الواقع إلى محاولة فهم المجتمع والإنسان في مصر من خلال أدب نجيب محفوظ، وكذلك فإن أبا إبيان عندما يختار ترجمة “يوميات نائب في الأرياف” إنما يهدف إلى تقديم وثيقة عن الحياة الاجتماعية في مصر، ذلك أن “يوميات نائب في الأرياف تكشف الكثير عن الواقع الاجتماعي في القرية المصرية.

وهذا هو الهدف الأساسى من الجهود التي تبذلها إسرائيل لترجمة الأدب العربى والفكر العربى إلى العبرية أو الإنجليزية “حيث يستفيد منها اليهود الناطقون بالإنجليزية وهم كثيرون.. إن الهدف هو فهم المجتمع العربى والإنسان العربى، ويمكن أن نسمى هذه الجهود الإسرائيلية كلها باسم “الحرب الثقافية ضد العرب”. وهي الحرب التي تساند “الحرب العسكرية” وتمهد لها.

ولعل مما يلفت النظر أن كثيرين من المستشرقين الذين قاموا بدراسة الأدب العربى القديم أو الحديث هم من اليهود مثل ليفى بروفسال و بول كرفوس وإسرائيل لفنسون وغيرهم.. إن هذه الظاهرة تعنى أن اليهود يصرون على تسليح أنفسهم بفهم واضح للعرب من خلال أدبهم وثقافتهم وذلك قبل مواجهتهم في الميادين العسكرية أو الاقتصادية.. إلخ.

ولابد أمام هذه الحرب الثقافية الإسرائيلية من أن يكون لنا رد عليها، كما كان للعرب رد على الحرب العسكرية في ٦ أكتوبر، والحقيقة أن السنوات الأخيرة قد شهدت دراسات واسعة في المكتبة العربية عن التكوين السياسي والاقتصادي والعسكري لإسرائيل، ولكننا مازلنا نتجاهل التكوين الثقافي لإسرائيل ولا نبذل جهداً حقيقياً في هذا المجال، وهذا الجهد لابد منه لنرد على “الحرب الثقافية” الإسرائيلية، ولكى نعرف حقيقة عدونا الذي يحاربنا، فليس أدق ولا أعمق من الأدب والثقافة بشكل عام في مجال الكشف عن شخصية الشعوب ونفسيتها.

وهذا هو ما يجب أن نفعله ونهتم به.. فمن الضرورى أن نتوسع في دراسة الأدب الإسرائيلي والثقافة الإسرائيلية، وذلك هو الرد الصحيح على الحرب الثقافية الإسرائيلية وهو أحد المفاتيح الدقيقة لفهم العدو الإسرائيلي ورسم خريطة نفسية سليمة له تساعدنا على مواجهته والانتصار عليه.