السبت 1 يونيو 2024

طه حسين

4-11-2020 | 14:11

والأمة تمشى في جنازته أحسست كأن هناك موسيقى تتقدم الموكب وتلفه وتملأ النفس بالخشوع، وتشغل الناس عما ألفوه من الهمس وهم يمشون في وداع الموتى..

موسيقى ستتصل دائما في سمع الزمان، من هذه الألحان المسماة : الأيام.. دعاء الكروان.. شجرة البؤس.. المعذبون في الأرض.. الحب الضائع.

ما قرأت له سطراً إلا وجدت في أذنى صوته وفى قلبى موسيقاه.. كلماته كانت دائماً مقروءة مسموعة مما تستولى على الجوارح جميعاً.

كأنى في مدرجات كلية الحقوق في الصباح الباكر، وصوت على الجانب الآخر من حرم الجامعة، وفي كلية الآداب يستدرجني فأهرب إليه، وأتسلل إلى هناك لأستمع إلى المعلم العظيم.

نبرات صوته ظلت دائماً أبداً، على مر السنين، تحتضن الوجدان.. وكانت هذه هي معجزته.. إنك في حضرته تحس كأنك تقرأ صوته أيضاً.. وتخلو إلى كتبه فكأنك تسمعه وتزاحم أذنك عينيك في التهام السطور واستيعاب الشعور.

سيمفونيته الأولى “الأيام” ما من أديب أو متأدب لم تشترك في صياغة ذوقه الفني.. كانت وستبقى الرغيف الأسمر.. الخبز المصرى الحقيقى.. خبز مر المذاق.. حلو المذاق.. يعطيك الشبع الذهنى الذى لا تجده في الدقيق الأبيض.

في” الأيام” تلتقي بالطفل العاجز الذى تقتحمه العين وتزدريه.. وتتمزق من هوائه وأحزانه.. وتخاف معه وعليه من العفاريت .. ويجثم فوق صدرك الظلام المقيم الذي كتب على هذا الصغير وكأنه كتب عليك.. وتضطرب معدتك وأنت تأكل معه طعامه الخشن وهو يجاور في الأزهر.. اللحن العذب يسقيه حزن ثقيل.. الليل حالك ترفض النجوم أن تقترب منه.. تعجب لأمر هذا الظلام.. كيف يقوى على الابتسام في كلماته، وهو غارق في بؤسه من أين واتته الجرأة على أن يغازل الأمل.

ومع ذلك فإنه يغافل يأسك معه ومنه.. ويتسلل إلى أول جامعة مصرية ليحصل منها على أول دكتوراه عام ١٩١٤… “تجديد ذكرى أبى العلاء” رسالة مقتحمة متمردة.. بدا الشاب المكفوف يمشى على الشوك غير هياب.

ثم تفاجأ بأنه يبصر طريقه وأنه مسافر إلى مونبلييه لا يقوده عن ذلك نشوب الحرب ، الصبي الذي كان يفزع من عفاريت القرية يركب أهوال البحر إلى بلاد غريبة!.

وتخذله موارد الجامعة عن مواصلة الدرس ويعود إلى مصر.. ولكنه لا يقنع من الغنيمة بالإياب .. وتستقبله باريس عام ١٩١٥ ليفوز بالدكتوراه عام ١٩١٨ عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون.. العبقرية هي الصبر والإصرار .. عقله لؤلؤة تأبى أن تبقى حبيسة الأصداف.. لؤلؤة قررت مصر أن تحلي بها جيدها.. ها هي ذي تجعل منه أستاذا في الجامعة.. وعميداً لكلية الآداب ووزيراً للمعارف، وقبل كل ذلك الكاتب المعبر عن ضميرها وآلامها وشجنها الذي يستحق منها أول جوائزها التقديرية في الأدب ورئاسة المجمع اللغوي ثم يشارك العالمُ مصر في الاحتفاء به.. ويهديه أكثر من دكتوراه .. ويرشحه لجائزة نوبل ويقدم له وهو على فراش الموت إكليل الوداع بمنحه جائزة الأمم المتحدة في ميدان حقوق الإنسان.. هذا هو الطفل الذى كان يظن أن العالم ينتهي في قريته.. بسياج القصب من يمين.. وشط الترعة من يسار.

أقصى أماني أبيه كانت أن يرى أخاه قاضيا وأن يراه صاحب عمود في الأزهر.

تجاوز طه حسين النبوءة.. صار هو من أعمدة الحكمة في رواق الحضارة المصرية إلى جوار لطفي السيد وحسين هيكل وعباس العقاد.. وتيمور.. وأحمد أمين ومصطفى عبدالرازق وتوفيق الحكيم.

قال عن نفسه: أنا قلق دائماً، مقلق دائماً، ساخط دائماً، مثير للسخط من حولى.

من هنا كانت المعارك التي خاضها كبيرة.. وكان صراعه صراع جبابرة.. في الأزهر بقدر ما انتفع من شيوخه الأجلاء.. بقدر ما كره العلم الجاهل وثار عليه منذ نعومة أظافره.. اقرأ تهكمه المرير في ختام الجزء الأول من الأيام.. وهو يتندر بالعلم الجاهل أحس أن دوي الطلاب يخف ثم ينقطع وغمزه أخوه بيده قائلاً في صوت خافت: “قد أقبل الشيخ” اجتمعت شخصية الصبى كلها حينئذ في أذنيه وأنصت “ماذا يسمع” يسمع صوتا خافتاً هادئاً رأينا ملؤه شيء قل إنه الكبر.. أو قل إنه الجلال،، أو قل ما شئت.. ولكنه شيء غريب لم يحبه الصبى.

ولبث الصبى دقائق لا يميز مما يقول الشيخ حرفا، حتى إذا ما تعودت أذناه الشيخ وصدى المكان، وسمع وتبين وفهم، وقد أقسم بعد ذلك انه احتقر العلم منذ ذلك اليوم، سمع الشيخ يقول “ولو قال لها أنت طالق.. أو أنت طلام أو أنت طلال أو أنت طلاء وقع الطلاق ولا عيرة بتغيير اللفظ يقول ذلك متغنيا به مرتلاً ترتيلاً في صوت لا يخلو من حشرجة، لكن صاحبه يحتال أن يجعله عذبا، ثم يختم هذا الغناء بهذه الكلمة التي أعادها طوال الدرس “فاهم يا أدع” وأخذ الصبى يسأل نفسه عن “الأدع” هذا، ما هو؟ حتى إذا انصرف عن الدرس سأل أخاه : “ما الأدع” فقهقه أخوه وقال “الأدع الجدع في لغة الشيخ”.

صاحبت طه حسين هذه الخلة.. خلة ورفض ما يثور عليه فكره، وصارت شجاعة الرأي سليقة فيه لازمته من قبل ومن بعد كتابه “في الشعر الجاهلي”.. لم يجفل من خصومة سعد زغلول.. ولم يرهب مجلس النواب.. ولم يذعر من اتهامه في دينه.. وفضل الولاء لاقتناعه على الولاء للسلطان.

كره أن يمشى في ركب الجماهير وأن ينحرف مع تيار الأغلبية.. انحاز لحزب الأمة المحافظ على غير هوى الناس لأنه لم يستطع أن يقاوم جاذبية لطفى السيد الفكرية وانفتاحه على ثقافة العصر.. وزهد في شعبية الحزب الوطنى لأنه لم يهضم ارتباط مصر بتركيا في ظل الخلافة الإسلامية.

ومع أن حزب الوفد كان قادراً أن يعطيه من المجد ما لا يتيحه له الأحرار الدستوريون، فقد آثر أن يبقى في صحبة لطفى السيد وحسين هيكل.. دائماً المناخ الفكري هو مطلبه الأول.. دائما قلق ومقلق.. ساخط ومثير للسخط من حوله.

يخطب إسماعيل صدقى وده ويطلب إليه أن يرأس تحرير جريدة الشعب فيرفض.. كيف يصادق حكومة تغلق معهد التمثيل.. وتحارب اختلاط الجنسين في الجامعة.. منذ جداله مع عبدالعزيز جاويش وهو في صف تحرير المرأة، فهل يخاف اليوم من نائب يهاجمه في البرلمان يحاكمه على صورة يظهر فيها الطلبة والطالبات من حوله كأن وجود المرأة إلى جوار الرجل إثم عظيم.

العميد الآن بعد صدامه مع إسماعيل صدقى بعيد عن الجامعة تذهب إليه يحتضنه شبابها ويلتفون حوله.. الجامعة ليست المبنى.. تقاليدها رسخت وصارت في القلوب والعقول.

لعل هذه اللحظات كانت من لحظات الاكتشاف والتنوير في حياة طه حسين.. آن له أن يقتنع أن أحزاب الأقلية تقتنى المفكرين اقتناء الحلي.. أنها تتظاهر وتتبرج بهم.. جاه الوقت لكي يتنازل عن ظنه بأن الوفد انسلخ عن ثورة ١٩١٩ وتوزعته أحلام الحكم. أحس وأبناؤه في الجامعة يهتفون له أن هذا الهتاف هو بعض صوت الشعب يناديه ويضمه إلى صفوفه.. وينضم إلى الأغلبية.. بفكر مستقل.

جاء وقت الالتحام بالجماهير.. الكلمات لم تعد تقنع بأن تفترش بساط الصفحات والكتب.. آن لها أن تتحول إلى عمل.. صبى الكتاب الذى كان يلقى كالثمامة في حجرة الكرار خرج من القمقم.. صار وزيراً للمعارف يفرض مجانية التعليم العام ويعلن أن التعليم يجب أن يكون متاحاً كالماء والهواء.. آن لقلقه المفعم بحب مصر أن يرسو إلى مرفأ.. كانت هذه هي البداية التي وضعت ثورة ٢٣ يوليو ختامها الباهر.. مجانية التعليم الجامعى.. أبناء الكادحين في الحقول وبائعى البرتقال.. وعمال النسيج. وعساكر المرور صاروا أطباء ومهندسين ومحامين وعلماء.

هذه هي مصر الجديدة

وهذا هو لحن طه حسين المميز “التعليم كالماء والهواء” يختلط في نفسي وأنا أمشى في وداعه. بالموسيقى المغموسة في عطر كلماته.. في دعاء الكروان.. آن لكروان لغتنا أن يكف عن التغريد.

جمعنى به كثيراً “دعاء الكروان” وأنا بصدد تحويله إلى فيلم سينمائى.. كان من رأيه أن لا أدب إلا أدب اللغة الفصحى.. وأن الذين يستخدمون التعابير العامية ليسوا واقعيين وإنما هم عاجزون.. وكان من رأيى أن الناس يتكلمون في الأفلام اللغة التي يتكلمونها في واقعهم وحياتهم.. وجادلني في ذلك برقة وفهم.. وقرأت عليه الحوار وأنا أرتعش.. من قبل كان المعلم العظيم يحاسبنى بصرامة على ضبط الكلمات فكيف الحال الآن وأنا أجترئ على اللغة.

وأصغى طويلاً وابتسم أخيراً ، بحنان بالغ.. وأدركت أنى وفقت.. وتلقيت أجمل ثناء في حياتى عندما قال لى إنى نجحت في عقد الصلح بين العامية والفصحى.

وكنت إلى جواره وهو يرى الفيلم.. نعم كان “يراه” فقد كان نافذ البصيرة واكتشفت أننا أحسنا عملنا تأليفاً وإخراجا وتمثيلاً وتصويراً لأنه كان “المايسترو” ولأننا حاولنا أن نرتفع إلى مستواه.

وعند تحويل “الحب الضائع” إلى فيلم كان العميد قد فقد اهتمامه بأمور كثيرة من أمور دنيانا.. ولم تكن حالته الصحية تسمح باقتحام سكينته.. وجاء الحب الضائع أقل مستوى من دعاء الكروان لأن المايسترو كان غائباً.

يأذن لى المعلم العظيم أن أستعير عبارة من “الأيام” لأصف بها المشيعين له “الحفل كله يتحرك ببطء وكأنما تتحرك معه الأرض وما عليها من دور”.

ويأذن لى أن أضيف “أنك ستظل أيها الشيخ الجليل في السويداء، من قلب مصر.. فتاها الذى لن تشيخ ذكراه.