السبت 1 يونيو 2024

بحر البقر.. قرية شاهدة على النصر

6-11-2020 | 19:40

فى الطريق من القاهرة إلى محافظة الشرقية فى رحلة لزيارة مدرسة شهداء بحر البقر شغلني سؤال ما الذي يخبئه المكان ولم يكتب بعد، كتب كل شيء على مدار 47 عاما هى عمر المذبحة التى ارتكبها الكيان الصهيوني فى حق أطفال بحر البقر راح ضحيتها 30 شهيدا وعشرات الجرحى ضمن 150 طفلا كانوا يدرسون فى المدرسة الابتدائية الوحيدة بالقرية، والمكونة من طابق واحد وثلاثة فصول، حيث ألقت طائرت الفانتوم الإسرائيلية قاذفاتها على الأطفال صباح الثامن من إبريل عام 1970 ليصبح ذلك اليوم هو يوم الشهيد الذي يتذكره أبناء القرية كل عام، وتتذكره مصر كلها.

ورغم الكتابات المتتابعة على مدار سنوات عن المذبحة وأسرارها، ورغم أن أغلب شهود الحادث قد رحلوا، إلا أن رغبة بالسفر إلى القرية راودتني، مؤكدا أنه مازالت بحر البقر لم تقدم كل أسرارها بعد، خاصة أن الجميع كتب عن المذبحة والشهداء؛ لكن أحدا لم يكتب عن المكان وناسه، وحكاياته، وعن رد مصر على المذبحة بعد أقل من شهرين بعملية حربية أطلق عليها اليهود عملية «السبت الحزين» والتي قتل فيها عشرات اليهود وسطرت خلالها بطولات الجنود المصريين ثأرا لبحر البقر وحوادث أخرى ارتكبها الكيان الصهيوني فى حق أبناء مصر.


البداية


تأسست الشركة العامة لاستصلاح الأراضي بموجب قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1959 وكان حلما يراود عبدالناصر أن يستصلح ويزرع الأراضي البور والصحراوية، أن يخلق مصرا جديدة تكون ملكا لأبنائها، وكان من ضمن هذه الأحلام استصلاح 118 ألف فدان تبدأ من الصالحية القديمة التابعة لمركز الحسينية نفس المركز الذي يضم بحر البقر، وتنتهى بالإسماعيلية بحثا عن توفير الأمن الغذائي لمصر، لكن حرب 1967 أوقفت حلم ناصر والذي عاد ونفذه الرئيس الراحل محمد أنور السادات، لكن الحلم الذي توقف فى حياة عبد الناصر ترك شواهد سجلت صمود أبناء هذا الوطن، وانتزاعهم النصر من رحم الهزيمة، كان من ضمن هذه الشواهد قرية بحر البقر!

بحر البقر حديثة المنشأ، تأسست عام 1965، قبل النكسة بعامين، وعمر المدرسة التي قصفها اليهود لم يكن تجاوز بضعة أعوام، هى مجموعة قرى كان يشقها مصرف مائي سمي مصرف بحر البقر، وجميعها تسمى بحر البقر مصحوبة برقم من 1 إلى 7، وفى عام 65 تم استصلاح هذه الأرض ووزعت على الفلاحين الذين تم استقدامهم من محافظات وقرى قريبة، وفى قرية بحر البقر 2 تأست المدرسة التي شهدت المذبحة.

أم الشهيد

على مقربة من مقر المدرسة القديم تجلس فى منزلها والدة أحد الأطفال الشهداء، السيدة «نبيلة على محمد حسن»، 75 عاما هو عمرها،  قضت منه 50 عاما فى بحر البقر، حين حضرت مع زوجها من قرية مجاورة للعمل موظفا فى القرية، لكن الزوج سريعا ما توفي تاركا الزوجة وخمسة أطفال، رحل قبل حرب 1967 بعام، لتكمل الزوجة رحلته فى الأرض الجديدة، تحكي عن ذكريات الحرب قائلة:" كانت أسوأ ذكريات تلك التي حدثت بعد حرب 67، مازلت أسمع صوت طائرات الفانتوم فى أذني، تضرب المكان كل يومين أو ثلاثة".

تستكمل أم الشهيد قائلة: "يوم الحادث أخبرني طفلي الصغير بشعوره أنه لن يعود إلى بيته، كانت طائرات اليهود والموت الذي يأتون به يحلق فى المكان على رءوس أطفالنا كل يوم، ذهب طفلى إلى المدرسة وبالفعل لم يعد، فقد راح شهيدا مع ثلاثين طفلا، ونجا طفلي الثاني، لكنه مات فى حادث بعد سنوات حين كان يعمل فى إحدى الشركات بالقرية، كأن الموت كان يلاحقه".

مدرسة شهداء بحر البقر

قرى بحر البقر تقع فى مركز الحسينية على حدود محافظة الشرقية وجنوب شرق محافظة بورسعيد، تبعد عن القنطرة  بضع دقائق بالسيارة، تحدها أيضا قرى الصالحية والتي تضم إلى جانب آلاف الأفدنة الزراعية مناطق عسكرية مهمة، بسبب موقعها الجغرافي القريب من مدن القناة وسيناء، الصالحية  فى الأساس تأسست كمنطقة عسكرية فى عصر الملك الصالح نجم الدين أيوب، لهذا سميت الصالحية نسبة إليه، تلك القراءة الجغرافية السريعة توضح العالم الذي نشأت فيه قرى بحر البقر، والتي كان مقدرا لمن سكنوها قبل عامين أن يحولوها إلى جنة، لكن إسرائيل أحالت حياتهم فيها إلى جحيم.

فى مدخل القرية استقبلني مدير مدرسة شهداء بحر البقر الأستاذ محمد عبد المعطي، وانتقلنا فى سيارته إلى المدرسة، التي تضم متحفا يحتوي على مقتنيات الأطفال الشهداء، بقايا كراسات الدرس، وقطع من عرائس كان يلعب بها الأطفال، وإلى جوارهم فى نفس المكان بالمتحف قطعة ضخمة من قاذفة ألقتها طائرات الفانتوم على الأطفال.

يحكي محمد عبد المعطي عن المتحف:"عام 1992 أعيد بناء مدرسة شهداء بحر البقر فى مكانها الجديد، وبعد الانتهاء من المباني تجمع أهل القرية مطالبين باستعادة مقتنيات أطفالهم المعروضة بمتحف فى محافظة الشرقية، لتأسيس متحفهم الخاص داخل المدرسة، ومنذ ذلك الوقت وأهل القرية يحتفلون كل عام بذلك اليوم، والذي أسموه يوم الشهيد".

لكن السؤال الذي كان يجب أن يطرح بالفعل على أهل قرية بحر البقر، لماذا  اختاروا البقاء فى مكان ليس لهم فيه جذور، ووجودهم على أرضه لم يتجاوز عامين، يعيشون فى مكان هو أقرب لمنطقة حرب، على بعد دقائق من القناة والقنطرة، وفى الضفة الأخرى اليهود يتربصون بهم؟ لكن إجابة السؤال لم تتأخر،  فقد وجدتها لدى أحد مصابي مجزرة بحر البقر، «أحمد الدميري».

إرادة التحدي

توجهت بصحبة مدير المدرسة إلى منزل «أحمد الدميري» فى القرية المجاورة دون تحديد موعد مسبق، يقول مرافقي: "الدميري لم يعد يفضل الحديث إلى الصحافة، يحضرون كل عام ليخبرهم بنفس الكلام ولا جديد يحدث سواء له أو لأهل القرية التي يغيب عنها كثير من الخدمات".

على باب منزل «أحمد الدميري» استقبلنا بوجه بشوش، وحين علم سبب حضوري صمت قليلا ثم قال:"ذكرت ما حدث كثيرا قبل ذلك، لم يعد يوجد ما يقال".

هذه كانت رؤية الدميري، لكننى كنت أملك رأيا آخر، مؤكدا مازال هناك الكثير لم يعرفه الناس، هنا طرحت عليه السؤال عن إصرار أهل بحر البقر على البقاء فى مكان حديث النشأة فى ظل ظروف الحرب دون العودة إلى قراهم القديمة، فوالد أحمد الدميري حضر إلى المكان من السنبلاوين فى الشرقية، حصل من الرئيس جمال عبدالناصر على خمسة أفدنة يزرعها فى بحر البقر، أرض بور وأخرى صحراوية تحتاج لعمل شاق كى يستفيد من خيرها.

يجيب الدميري عن سر البقاء: "قرار ترك بحر البقر كان مرفوضا بشدة من والدي، كانت لديه إرادة البقاء واستكمال زراعة الأرض رغم الحرب والموت الذي كنا نشاهده كل يوم".

وعن سر هذه الإرادة يستكمل الدميري: "فى السنبلاوين كان والدي يعمل مزارعا فى أرض الإقطاع لدى الباشا، يعمل طول العام ولا يحصل إلا على الفتات، كانت الأرض التي حصل عليها فى بحر البقر من عبدالناصر هى الأمل فى حياة أفضل، مهما كلفه ذلك الأمل، كان يجب أن يعيش حتى يحصل عليه، أو يموت دونه، لم يكن لدى والدي طريق آخر".

حديث الدميري فتح الباب لعالم بحر البقر السري  الذي كنت أبحث عنه، لعشرات الأعوام حصرنا حكاية أهل بحر البقر فى المذبحة وموت الأطفال، لكن الحكايات الأخرى تشير إلى أن بحر البقر كانت أيقونة نصر تولدت  من قلب الهزيمة.

 ربما إرادة الفقراء ورغبتهم فى عدم العودة لذكريات الإقطاع واحتكار الباشا ورجاله لأقواتهم تبدو حكاية خاصة بأهل القرية، لكن الحقيقة أنها حكاية كل مصري عانى الاستعمار وحكم الإقطاع، وحين احتلت إسرائيل سيناء كانت محاولة لتدمير حلم هؤلاء، لكنهم قرروا المواجهة، بأغلى ما يملكون، حياتهم وحياة أطفالهم.

حين يسترجع أحمد الدميري الحادث ندرك ما الذي مر به أهل المكان، يقول:"كنت فى الفصل أجلس بجوار صديقي أحمد عبد العال السيد، وأثناء الدرس وقع القلم على الأرض فنزلت أسفل التختة لإحضاره، وكان سقوط القلم واحتمائي بالتخته هو ملاذي من الموت، حيث سقطت ثلاث قذائف متتابعة على المكان، وفى المستشفى سألت عن صديقي أحمد عبد العال، لكنه كان قد مات".

يحكي والد أحمد عبد العال فى فيلم تسجيلي عن مجزرة بحر البقر أنه ورجال القرية كانوا يحملون بقايا الأطفال الممزقة، يضع فى جلبابه الرأس منفصلة أو الأيدي والأرجل ويجمعها بعيدا عن مكان التفجير، فى تلك اللحظة التي كان يجمع فيها أجزاء الأطفال المتناثرة علم بخبر وفاة ولده الوحيد  أحمد.

السبت الحزين

مساء 30 مايو 1970 بعد أقل من شهرين على مذبحة بحر البقر وبعض الحوادث الأخرى التي راح ضحيتها مصريون مدنيون كان الكيان الصهيوني على موعد مع ثأر رجال الكتيبة 83 صاعقة واللواء 135 مشاة، والذين تمركزوا فى اليوم السابق داخل الضفة الأخرى من القناة فى منطقة سيطرة اليهود على بعد 3 كيلو مترات داخل العمق الصهيوني، حفروا الخنادق وانتظروا الأمر بالاشتباك، وبعد أكثر من 18 ساعة انتظارا جاء الأمر بالانسحاب قبل تنفيذ العملية، فقوة الصاعقة المصرية لا يتجاوز عددها 12 جنديا في حين القوة الإسرائيلية التي ستمر من المكان تتجاوز 100 جندي وهى معركة غير متكافئة، لكن جنود الصاعقة رفضوا تنفيذ أمر العودة وطالبوا باستكمال المهمة، وهو ما استجابت له القيادة العسكرية، وفى السابعة والنصف من مساء 30 مايو بدأ الاشتباك والذي قتل فيه حسب إعلان إسرائيل فى ذلك اليوم 35 جنديا إسرائيليا، وعادت القوة المصرية كاملة دون أن تفقد جنديا واحدا،  وأطلقت جولدا مائير على اليوم اسم «السبت الحزين» لما تكبدوه من خسائر على أيدي جنود الصاعقة المصرية، وكانت معركة انضمت لسجل بطولات حرب الاستنزاف التي بدأت عام 1969، لكن على الجانب الآخر من الضفة وداخل قرى بحر البقر كانت هناك معركة سكان القرية من أجل البقاء والموت، لاستصلاح أرض مصرية جديدة، تعود خيراتها إليهم وإلى مصر وليس إلى الباشا ورجاله كما كان سابق عهدهم قبل ثورة يوليو 1952. ليسطر أهل بحر البقر تاريخا جديدا بدأ قبل مذبحة الأطفال بخمسة أعوام، واستمر لسنوات حتى اليوم بعد أن أصبحت المنطقة البور والصحراوية خضراء تعود بالخير على الجميع.