السبت 1 يونيو 2024

المهمة الصعبة

11-11-2020 | 21:45

عد صراع ماراثونى فاز المرشح الديمقراطى جو بايدن برئاسة أمريكا.. ليجد نفسه أمام تركة ثقيلة.. أكد على أهم ملامحها فى خطاب الفوز.. ومن المؤكد أن بايدين سيعمل سريعاً على «تبريد الالتهابات» الكثيرة.. سواء على مستوى الداخل الأمريكى.. أو على مستوى العلاقات الخارجية. وعمليات التبريد تلك ستكون توطئة لعلاج ما يمكن علاجه.. أو على الأقل الاحتفاظ بالالتهاب في أقل درجة ممكنة.. وكل هذا سيتم من دون تنازل بايدن عن «الثوابت الأمريكية».. وفى محاولة لقراءة متأنية لكل هذه الأبعاد.. نقف بالرصد والتحليل أمام أهم ملامح المشهد:

أولًا: ظهر جو بايدن طوال الحملة الانتخابية.. وطوال الصراع الماراثونى لفرز الأصوات.. بلغة رصينة يختار كلماته بدقة شديدة.. يؤكد على أنه سيكون رئيسًا لكل الأمريكيين.. وذلك لعلمه بأن أخطر وأهم الملفات التي ستكون أمامه.. تكمن في إعادة ترميم المجتمع الأمريكي بعد الخطاب الشعبوى الذي يقترب من العنصرية.. والذي أشاعه ترامب بانحيازه الشديد للأمريكي الأبيض.. مما جعل المجتمع الأمريكي يقف على حافة الفتنة والاقتتال.. بعد الحوادث العنصرية الكثيرة ضد الأقليات.. وخاصة السود وأشهر تلك الحوادث قتل الشاب الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض.. وهذه الأقليات كان لها دور فاعل في فوز بايدن بتلك المعركة الشرسة.. وترميم المجتمع الأمريكي لن يكون الهدف الأوحد لسياسات بايدن الداخلية.. ولكنه أمام معضلة كبيرة حيث حصل ترامب على ٧٠ مليون صوت.. بزيادة خمسة ملايين صوت عما حصل عليه عام 2016.. وهذا يعنى أن نصف المجتمع الأمريكي يؤيد ذلك الخطاب الذي أشاعه ترامب.. ومثل هذا الأمر سيحتاج إلى جهد كبير لاستعادة مؤيدى ترامب.. أو على الأقل تحييدهم.. ومن ملفات الداخل الملحة أيضًا أمام بايدن.. ملف جائحة كورونا وهو الملف الأهم والذي أطاح بالرئيس ترامب.. حيث فشل في التعامل مع الجائحة.. مما جعل أكثر من مائة مليون أمريكي في سابقة هي الأولى من نوعها.. يشاركون في التصويت المبكر تحت وطأة الرعب من كورونا.. وغالبية هذه الأصوات قد ذهبت إلى بايدن.. الذي وعد أنه سيتعامل بجدية شديدة مع هذا الملف.. فور دخوله إلى البيت الأبيض.. ليس فقط للوقوف أمام هذا الفيروس المرعب.. ووقف اجتياحه لأمريكا.. ولكن من أجل علاج آثاره الاقتصادية الكارثية.. التي ضربت الاقتصاد الأمريكي بعنف.. وكل هذه الملفات الداخلية الخطيرة.. ستجعل بايدن في موقف مشابه لما تعرض له الرئيس الأمريكي الأسبق إبراهام لنكولن.. عندما وجد نفسه مضطرًا لخوض حرب أهلية.. بعد إعلان عدة ولايات الانفصال عن الحكومة الفيدرالية.. ونجح بعد جهد كبير وتضحيات أكبر في الحفاظ على الكيان الأمريكى.

ثانيًا: عملت سياسات ترامب الخارجية.. على تفجير العديد من الصراعات الملتهبة.. مع الكثير من الأطراف التي يأتي في مقدمتها الصين وإيران.. سوف يعمل بايدن بشكل سريع على تبريد الالتهاب مع الدولتين.. خاصة الصراع التجارى الشرس الذي خلقه ترامب مع الصين.. ووضع الدولتين على حافة المواجهة الشاملة.. حيث عمل ترامب بكل السبل على وقف اعتلاء الصين لقمة الاقتصاد العالمى.. وساعدته جائحة كورونا عدم تحقيق الصين ما خططت له منذ سنوات.. وهو تربعها على عرش الاقتصاد العالمى في 2020.. وسوف يعمل على الوصول إلى حلول وسط مع الصين.. دون التلويح بالتهديد العسكرى ومن دون فرض العقوبات كما كان يفعل ترامب.

أما إيران فبعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي معها.. والتوسع في فرض العقوبات عليها وعلى كل رموز الحكم.. فوجئ بالرفض الأوربى بالسير في ركابه.. حيث رفضت دول أوربا مؤخرًا تمديد الحظر على السلاح بالنسبة لإيران.. ومن المتوقع أن يعود بايدن إلى الاتفاق النووي مع إيران.. ولكنه سيحتفظ بها كما فعل كل رؤساء أمريكا خلال الأربعة عقود الماضية لتكون «فزاعة»، تعمل على وجود المزيد من الابتزاز من الأمريكان لدول المنطقة.. للحصول على أكبر قدر من الثروات التي تتمتع بها دول هذه المنطقة.

ثالثًا: كانت مفاجأة الانتخابات الأمريكية الأخيرة.. هي حصول بايدن على غالبية أصوات اليهود الأمريكان «76 فى المائة» ولعل ترامب نفسه هو أكثر المصدومين.. فبعد كل ما قدمه.. والذي تمثل في نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.. والموافقة على ضمها للكيان الصهيونى.. ومحاولة فرضه على المنطقة بعد كل هذا تخلت عنه أصوات اليهود.. وذلك ببساطة لأنه لن يقدم أكثر مما قدمه.. وليس لديه المزيد الذي يقدمه للكيان الصهيونى.. ولذلك من مصلحة اليهود التعامل مع رئيس جديد.. يواصلون معه مسلسل الابتزاز للحصول على مكاسب جديدة.. والأهم أن الدعم اللامحدود من ترامب لليمين الصهيوني برئاسة نيتنياهو.. يقلق كل ألوان الطيف الصهيوني الأخرى.. وأيضًا لأن عنصرية ترامب ودعمه للبيض.. دفعت بعض المتطرفين البيض إلى الاعتداء على اليهود.. وأشهر تلك الاعتداءات ما قام به متطرف أبيض.. بالاعتداء على كنيس يهودى مما أدى إلى وجود قتلى وجرحى، وذلك في عام 2018.. ولذلك فمن المتوقع ألا يواصل بايدن دعم اليمين الصهيوني.. ربما إرضاء لبقية طوائف الكيان الصهيوني.. وربما غزلًا للعرب والفلسطينيين.. ولكنه في كل الأحوال لن يتنازل عن ثوابت أمريكا.. في دعم الكيان الصهيوني وضمان أمنه وتفوقه على كل الميحطين به.. والاحتفاظ به كشرطى للمنطقة.

رابعًا: يصل إلى حد الخطيئة من يتصور أن بايدن سيعمل على إعادة جماعة الإخوان الإرهابية إلى المشهد السياسي العربي.. وذلك لأن بايدن على يقين بأن الشعب العربي، وخاصة الشعب المصري، هو من يرفض وجود الإخوان وهو من ثار عليهم وطردهم من الحكم في مصر. وقد يتصور البعض أن بايدن الذي كان نائبًا للرئيس أوباما على مدى ثماني سنوات لابد وأن يعيد سياسة «باراك أوباما وهيلارى كلينتون» في ضرورة دعم الإسلام السياسي وخاصة جماعة الإخوان الإرهابية، وهذا تصور خاطئ، لأن بايدن لن يجازف بفقدان البقية الباقية من النفوذ الأمريكي في المنطقة.. بعد أن تدهورت سمعة أمريكا إلى أقصى درجة ممكنة.. نتيجة انحيازها السافر للكيان الصهيوني ضد الحقوق العربية.. وكل ما سيستطيع بايدن أن يفعله.. هو الضغط في ملف حقوق الإنسان بالمنطقة.. وذلك لممارسة المزيد من الابتزاز المالى والسياسى.

خامسًا: على المستوى العربي سيقبل بايدن بالنفوذ الروسى في سوريا.. ولكنه لن يترك العراق.. وفى الحالتين سيكون حريصًا على عدم عودة كل من سوريا والعراق إلى قوتهما السابقة.. وذلك حتى لا تمثلا تهديدًا للكيان الصهيوني وسيعمل بشكل أو بآخر على تجميد الصراع في كل من اليمن وليبيا.. مع الاحتفاظ بكل العناصر التي تعمل على تفجير الصراع في أي وقت يريده.

سادسًا: على المستوى الدولي سيحاول بايدن سريعًا.. ترميم ما تكسر من العلاقات الأمريكية مع الاتحاد الأوربى.. خاصة بعد تشجيع ترامب على انفصال إنجلترا عن الاتحاد الأوربى.. وبعد خطابه غير المتعاون مع كثير من قادة أوربا.. ولذلك سيعمل بايدن على إصلاح العلاقات الأمريكية الأوربية حفاظًا على حلف الناتو.. والأهم الحفاظ على النفوذ الأمريكى.. استعدادًا لمواجهة الحلف الصينى الروسى الذي بدأ منذ فترة التنسيق المشترك لوضع الخطط التي تضمن عدم تغول النفوذ الأمريكي في مناطق من مصالحها المشتركة، كما سيعمل بايدن على العودة سريعاً إلى المنظمات الدولية التى انسحب منها ترامب.

سابعًا: بشكل عام لن تكون مهمة بايدن سهلة.. خاصة في ظل تقدمه في السن «78عاما» ومن المتوقع أن يضع أمام نائبته «كاميلا هاريس» الكثير من الملفات المهمة.. وقد وفق في اختيارها كممثل الأقليات في رسالة تؤكد حرصه على أن يكون رئيسًا لكل الأمريكيين.

وفى النهاية نؤكد على أن أمريكا ليست قدرًا.. وعلى أن الرئيس الأمريكي ليس رئيس مجلس إدارة العالم.. ولكنه دومًا يسعى خلف مصالح بلاده.. وعلى كل البلدان الأخرى صغيرة أم كبيرة أن تسعى هي الأخرى خلف مصالحها.