الأربعاء 29 مايو 2024

آفاق

11-11-2020 | 22:45

سناء السعيد

رحل عن عالمنا مؤخرا “ روبرت فيسك” الصحفى البريطاني المخضرم، وأشهر المراسلين الصحفيين البريطانيين في منطقة الشرق الأوسط على مدى أربعة عقود. كان رحمه الله شاهد عدل على أبرز حروب العرب ومآسيهم خلال الأربعين عاما الماضية. إنه فيسك الذى كان له الباع الطويل في تغطية الحرب الأهلية بلبنان، وتغطية مجزرة صابرا وشاتيلا. التقيته في الثمانينيات في العراق أثناء الحرب العراقية الإيرانية التي كان شاهد عيان عليها وكتب عنها، كما كتب عن حرب الخليج 1990 . عرف فيسك بوصفه أحد أكبر المؤيدين للقضية الفلسطينية، كما شارك في تغطية حرب غزة عام 2008 وتحدث بحرقة وألم عن مجازر الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين.

إنه المراسل المنصف الموضوعي في تغطيته للأحداث. امتطى صهوة العدالة جوادا وقارع الظلم وانتصر للحق. لم يتخل عن فطرته الإنسانية الرائعة، ولم يبع القضية التي يتمسك بها، فهو الصحفى الشريف والعملة النادرة في هذا الزمان. عرف روبرت فيسك بمقالاته الرزينة الموزونة. عاش في المنطقة على مدى سنوات، فكان من الأصوات القليلة في الغرب التي تفهم المنطقة وقضاياها. من أبرز مواقفه الجديرة بالاحترام والتقدير كونه كان أكثر المعارضين لصفقة القرن التي أعلنها الرئيس دونالد ترامب، وفى معرض تعليقه عليها قال: ( إنها الخطة التي قالت وداعا لحق اللاجئين الفلسطينيين في حق العودة، وقالت وداعا للقدس بوصفها عاصمة لفلسطين، وقالت وداعا لهيئة الإغاثة الدولية الأونروا. ولكنها الخطة التي تم الترحيب من خلالها بالاحتلال الاسرائيلى الدائم للضفة الغربية، والترحيب بالضم الكامل للمستوطنات الإسرائيلية التي أقبمت هناك منتهكة بذلك القانون الدولى ).

لم تقتصر تغطية الشريف “ روبرت فيسك “ على قضايا الشرق الأوسط فقط وإنما تعداها للخارج، وعليه فلقد ملك سجلا طويلا في تغطيته للاضطرابات خارج المنطقة، فرأيناه وقد واكب اضطرابات أيرلندا الشمالية مطلع السبعينيات من القرن الماضى، وتوجه بعدها إلى البرتغال لتغطية ما يعرف ب( ثورة القرنفل). إنه الصحفى النابه الذى كتب أطروحته للدكتوراه عن ( حياد أيرلندا ) خلال الحرب العالمية الثانية. وفى مجال تتويج أعماله حصل على جائزة أفضل صحفى بريطاني سبع مرات.

عرف روبرت فيسك بانتقاده اللاذع للولايات المتحدة الأمريكية ، ولهذا رأينا كتابه (الحرب العظمى من أجل الحضارة ــ غزو الشرق الأوسط ) الذى صدر في 2005 ــ أي بعد عامين من الغزو الأمريكي لأرض الرافدين ــ يعرض فيه لما كتبه منتقدا سياسات أمريكا وبريطانيا وإسرائيل ويصنف الدول الثلاث كمحور الشر بلا منازع، فلقد وجه سهامه ضدهم للسياسة التي تبنوها إزاء المنطقة، وحمل على الولايات المتحدة الأمريكية بشدة بعد أن بارك دونالد ترامب ملكية إسرائيل للقدس كاملة، وبعد أن قام بتسليم مرتفعات الجولان المحتلة لإسرائيل بعد أن سمح لها بضمها بصفة نهائية ضارباً عرض الحائط بمبدأ الأرض مقابل السلام الذى نص عليه القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ورأى فيسك أن تسليم الجولان لإسرائيل هو الهدية التي منحها ترامب لنتنياهو من أجل دعمه لاعادة انتخابه رئيسا للوزراء في إسرائيل. وفي معرض سخرية روبرت فيسك من الولايات المتحدة تساءل قائلا: ( متى يأتي الدور على الضفة الغربية لتمنحها الولايات المتحدة لإسرائيل نهائيا وللأبد) ؟. ومضى في سخريته قائلا: ( إذا أصبح الجولان جزءا من إسرائيل بذريعة تهديد ايران، فهل على جنوب لبنان أن يصبح أيضا جزءاً من إسرائيل بدعوى أن حزب الله أيضاً يجسد تهديدا للكيان الصهيوني على غرار إيران ) ؟.

كانت له رؤيته الثاقبة بالنسبة لتنظيم القاعدة خالف بها أغلب ما نشر عنها في الصحف البريطانية والعالمية التي اهتمت بتغطية هزيمة داعش في آخر معاقله في “ الباغوز” حيث قال: ( لا تصدقوا الضجيج، فالتنظيم لم يهزم بعد، والإعلان عن هزيمته يأتي في إطار شكل الدعاية السياسية، تماما كما كان إعلان بوش في حرب العراق عندما قال: ( لقد أنجزنا المهمة، وبالتالي لا يمكن المراهنة على ذلك فالكلام غير صحيح لأن القتال لا يزال مستمرا خارج الباغوز رغم سقوط المدينة. كما أن التنظيم لا يزال يمتلك الكثير من المقاتلين المسلحين الذين يقبعون رهن الاستعداد لبدء المعارك في محافظة إدلب شمال سوريا جنبا إلى جنب مع هيئة تحرير الشام التي تقودها جبهة النصرة المرتبطة بتنظيم القاعدة). ويردف قائلا:( إن أدلب وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية أصبحت الحصن الحصين الأخير الذى آوت إليه كل الفصائل الإسلامية المقاتلة في سوريا رغم أنها محاصرة من القوات السورية بشكل شبه كامل باستثناء ممر ضيق يسمح بالفرار إلى تركيا إذا قبل السلطان أردوغان بذلك).

وفى معرض انتقاد فيسك لوسائل الإعلام الغربية حمل عليها كونها لجأت إلى خفض جناح الذل لإسرائيل بخصوص ما يحدث مخافة أن تمس بتهمة معاداة السامية. وذهب إلى أن ما يحدث من جانب أمريكا لإسرائيل يشكل اتساقا ودعما كاملا للكيان الصهيوني ودعما لمواقفه، وأن هذا ليس مفاجئا لخضوع أمريكا اليوم لتحقيق مطالب إسرائيل، وحذر من أن هذا الأمر سيكون وبالا على شعوب منطقة الشرق الأوسط.

إنه روبرت فيسك المراسل الشريف الذى دعم الحقيقة وحدها ليظهرها على الملأ. امتطى صهوة العدالة جوادا وقارع الظلم وانتصر للحق. ويعد روبرت فيسك من الأصوات القليلة فى الغرب التي تفهم المنطقة وقضاياها. إنه إنسان رائع ولذا وجبت الإشادة به علما بارزا منصفا لم يتخل عن فطرته الإنسانية، ولم يبع القضية التي يؤمن بها. ولهذا سيفتقده الجميع وأولهم الفلسطينيون وكل من يناضل من أجل الحق والعدالة . ونتوقف هنيهة لنتساءل: (هل هناك بصيص أمل في أن يكون هناك من يحمل الراية بعده ويكمل مشواره الرائع ؟. رحم الله روبرت فيسك ولروحه السلام....