دائمًا مصر الحصن والأمل لكل أشقائها، تواصل دورها البارز فى مشروعات إعمار البنية التحتية للدول العربية المنكوبة، ومنها ليبيا والعراق، وأخيرًا قطاع غزة، هذه الجهود كانت جزءًا من استراتيجية شاملة تجمع بين الأبعاد الاقتصادية والإنسانية والسياسية، وتفوق مصر فى مشروعات إعمار البنية التحتية يؤكد ريادتها الإقليمية ودورها كمحور للاستقرار والتنمية فى المنطقة، ومن خلال هذه الجهود، أثبتت مصر أنها ليست فقط حليفًا سياسيًا، بل شريك تنموى حقيقى للأمة العربية.
الدكتور عباس الزعفرانى، الأستاذ بكلية التخطيط العمرانى وعميدها الأسبق، قال إن «مصر لديها إمكانات كبيرة للإعمار نتيجة امتلاكها عددًا كبيرًا من شركات المقاولات وعددًا كبيرًا من المهندسين والعمال، هذا فضلاً عن أنها تملك قدرة كبيرة فى قطاع التشييد والبناء، ويمكن الاستفادة منها بشكل كبير وفعال فى غزة، ومنذ سنوات طويلة تتفوق مصر هندسيًا وتتمتع بتاريخ طويل فى هذا المجال، إذ كانت المصدر الرئيسى للمهندسين فى العالم العربى قبل إنشاء كليات الهندسة فى بعض الدول الأخرى، فلم يكن هناك فى كثير من الدول العربية مهندسون من خريجيها، لم يكن هناك إلا المهندس المصري.
وأضاف: حاليًا هناك تنوع هندسى مصريون وأجانب، لكننا ما زلنا نملك ميزة نسبية فى شركات البناء، خاصة لأننا فى الفترات الأخيرة نفذنا مشروعات كثيرة، من إسكان وطرق وكبارى وبنية أساسية، السوق المصرى حاليًا يُعانى من تشبع فى حركة البناء، مما أدى إلى وجود فائض فى طاقة شركات المقاولات يمكن استثمارها فى مشروعات خارجية، بما فى ذلك إعمار غزة.
وأشار «الزعفرانى» إلى أن «إعمار غزة، التى يبلغ عدد سكانها نحو مليونى نسمة، يُعد مهمة صغيرة مقارنة بإمكانات مصر الهائلة، حيث تمتلك مصر شركات مقاولات كبرى بخبرات واسعة لا تُضاهى فى المنطقة، وأن تقوم مصر بإعمار غزة فهذا يحتاج إلى جزء صغير جدًا من طاقة مقاولات الشركات المصرية، لافتًا إلى أنه «من الصعوبة أن نجد دولة عربية أخرى أو دولة فى المنطقة بها هذا العدد من الشركات والمهندسين مثل التى تملكها مصر، ونحن نملك قوة العدد هذا حقيقى ولا مجال للعبث فيه ولدينا خبرة لا يُستهان بها».
وأضاف: فى الفترة الأخيرة أقمنا مشروعات مختلفة متنوعة فاخرة وحتى المحلية والشعبية، بمعنى أدق نملك تنفيذ مشروع بشكل عاجل وسريع وبجودة فائقة، لأننا نملك عددًا وخبرة ومعدات، وشركات المقاولات حاليًا تمتلك معدات جيدة وتتمتع بقدرة كبيرة على إعادة إعمار أى مكان تم تدميره أو حتى القدرة على تأسيس مكان من الصفر، فهناك بلاد لا تعانى من دمار الحروب لكنها بحاجة للإعمار والبناء، وهناك شركات مصرية سبق وأن أعادت تعمير العراق لفترات طويلة بعد حرب الخليج الثانية لأن الأولى لم تشارك مصر فى إعمارها.
وأضاف إلى أن «غزة تحديدًا، فإن عملية إعادة إعمارها تحتاج إلى نظرة مختلفة تملكها مصر وهى بعيدة عن مجرد فكرة البناء فقط، لأننا لاحظنا أثناء الحرب الأخيرة بالقطاع عدم وجود أى مخبأ نهائيًا بالعمارات للمدنيين فى غزة، ففى كل غارة تنهار العمارات على كل ما فيها»، مضيفًا أن «إعادة إعمار غزة تحتاج إلى طريقة مختلفة فى البناء نحن فى مصر نعلمها، وأتذكر فى حرب الاستنزاف وأنا من مواليد الستينيات، تربينا على أن كل عمارة فيها مخبأ والشبابيك بطلاء أزرق، وكانت هناك زيارات دائمة من الدفاع المدنى، تسأل «بتنزلوا المخبأ؟» وفى حال قال أحد لا بسبب جدة مسنة يصعب نزولها، كانوا يحددون لنا أكثر مكان أمانًا فى المنزل للجلوس فيه، وكان أمام مداخل العمارات حواجز خرسانية تتصدى للشظايا، دولة مثل فلسطين وقطاع غزة فى حرب دائمة لا بد وأن تبقى مستعدة لحماية المدنيين».
«الزعفرانى» أوضح: أذكر عندما كنت رئيس لجنة تسجيل المبانى المميزة فى جنوب سيناء، قمت بمعاينة عدد كبير من مبانى اليهود وقت الاحتلال، كانت حصونًا وليست بيوتًا، جميعها خرسانة مسلحة وبها مخابئ مهولة ومن بينها سراديب، لذلك عندما تحدث ضربات على الإسرائيليين تكون خسائر الأرواح قليلة، الكل ينزل المخبأ، وغزة للأسف خالية من المخابئ، بها كمية هائلة من الأنفاق للمقاتلين ولا توجد أنفاق ومخابئ للمدنيين، لذلك أتمنى إذا شاركت مصر فى إعادة إعمار غزة أن تعمل بشكل مختلف وتنفذ اشتراطات المبانى التى سبق وطُبقت فى بلادنا فترات حرب الاستنزاف وحرب 73، وهى تنفيذ مخبأ لكل عمارة على أن يكون الدور الأرضى أو الأول خرسانة مسلحة وسقفًا ثقيلاً يتحمل سقوط المبنى من فوقه، حتى إذا تعرض للضرب تُنقذ أرواح الأبرياء، ويجب أن يكون الإعمار بمبانٍ تحافظ على سلامة الأبرياء، هذه النقطة الأهم التى يجب أخذها فى الاعتبار، سواء تولت مصر الإعمار أو شاركت دول أخرى، ومصر على دراية كافية بتنفيذ هذه المباني، وما زلنا ملوك «الصنعة» وأنا أندهش من المبانى فى غزة مبانٍ لا تتحمل حربًا أو قنابل، ويجب أن تكون المبانى مستعدة للحرب، حتى إن انهارت تبقى الأرواح سالمة، أى دولة فى حروب تشيّد مخبأ، لا أعرف كيف يغفلون عن ذلك.
من جهته، قال الدكتور إسماعيل الشيمي، استشارى التخطيط العمرانى: إن «مصر متفوقة فى المجال العمرانى على مستوى المنطقة العربية بالكامل، بداية من التخطيط العمرانى للمناطق المستهدفة، ثم التصميم المعمارى لما تم تخطيطه، وصولًا للإشراف الهندسى على عمليات التنفيذ، وتشمل هذه العمليات اختيار الشركات المناسبة لإجراء أعمال المقاولات وإنشاء البنية التحتية التى تضم شبكات الطرق، وشبكات التغذية بالمياه، وشبكات الصرف الصحي، وشبكات الكهرباء، بالإضافة إلى إنشاء شبكات متخصصة للتخلص من القمامة بإعادة التدوير، وشبكات الاتصالات، والتفوق المصرى فى هذه المجالات يعود لوجود خبرات عميقة فى كل التخصصات، ووجود شركات متخصصة على أعلى مستوى فنى وتقنى بفضل الخبرات المتراكمة التى اكتسبتها على مدار سنوات.
وأضاف أن «مصر تمتلك خبرات عملية تمتد لأكثر من 65 عامًا مستمدة من الكليات الهندسية العريقة مثل جامعات القاهرة، والإسكندرية، وعين شمس، إلى جانب أكثر من 30 كلية هندسية متخصصة، وما يزيد على 52 معهدًا هندسيًا»، مشيرًا إلى أن كل ذلك أسهم فى بناء منظومة متكاملة تضم جميع جوانب البنية التحتية، وأعطى لمصر ثقلًا لا يضاهيه فى أى دولة أخرى فى المنطقة، إلى جانب كوادر هندسية ذات خبرة عملية واسعة ومؤهلة لتنفيذ المشروعات العمرانية بأعلى درجات الجودة والاحترافية.
«الشيمى» قال: بصفتى أستاذًا لمادة التصميم المعماري، ولدىَّ باع طويل فى مجال العمران وتصميم الإسكان والبنية التحتية، فقد ساهمت فى تخطيط مدن مثل الزقازيق الجديدة ودمياط الجديدة وأسوان الجديدة بالتعاون مع الهيئة العامة للتخطيط العمرانى برئاسة الدكتور مصطفى مدبولي، وأعتز بكونى أحد كوادر هذه المنظومة الرائدة، مصر تمتلك رؤية هندسية شاملة قادرة على تنفيذ مشروعات كبرى مثل إعمار غزة.
وأوضح أن مصر لديها خبرات متجذرة فى مجال العمران منذ بناء السد العالى فى الستينيات بعهد الرئيس جمال عبدالناصر، مرورًا بمشروعات كبرى فى عهدى الرئيسين أنور السادات وحسنى مبارك، وصولاً لعهد الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى شهد طفرة غير مسبوقة بإنشاء 22 مدينة جديدة خلال عشر سنوات فقط، هذه المدن تضمنت بنية تحتية وفوقية وخدمات صحية، وترفيهية، واجتماعية، وتجارية، ورياضية، ما يجعلها نموذجًا عمرانيًا يخدم أى منطقة، بما فى ذلك غزة، كما أن العاصمة الإدارية الجديدة تعد نموذجًا فريدًا لما يمكن أن تحققه مصر فى مجال العمران، إذ تم تنفيذها خلال خمس سنوات فقط لتضم أحياء ومنشآت عمرانية ضخمة، ما جعلها علامة مميزة فى الشرق الأوسط.
وأكد «الشيمى» أن مصر تمتلك القدرة على إعادة بناء مناطق ومدن من العدم، عبر تطوير وبناء الطرق السريعة والجسور، وتحديث شبكات الكهرباء والمياه، كما سبق وشاركت الشركات المصرية بشكل فعال فى إعادة إعمار العراق، وخاصة فى القطاعات الحيوية مثل الإسكان والنقل والطاقة، مما يجعلها مؤهلة لقيادة مشروعات إعمار كبرى مثل غزة بكل جدارة، وسبق واعتمدت مصر على خبراتها الطويلة فى تنفيذ المشروعات الضخمة لتوفير حلول مستدامة ساهمت فى تحسين حياة المواطنين العراقيين بعد سنوات من الصراعات، حيث كانت مشاركتها حاسمة فى إعادة تأهيل البنية التحتية وإحياء المدن المدمرة، كما تستعد مصر للعب دور محورى فى إعادة إعمار سوريا بعد سنوات من الدمار، وذلك عبر ترميم المبانى السكنية، وإعادة تأهيل الطرق، وإقامة مشروعات إنشائية جديدة تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية للسكان، وإعادة النازحين إلى ديارهم.
وقال: فى السودان، تركز مصر على دعم مشاريع التنمية، خصوصًا فى مجالات البنية التحتية الزراعية والمائية، حيث تُسهم فى بناء السدود، حفر الآبار، وتطوير أنظمة الرى الحديثة، لدعم الاستقرار الغذائى وتعزيز التنمية الاقتصادية للشعب السودانى. أما فى ليبيا فقد كانت مصر من أبرز الدول التى ساهمت فى إعادة الإعمار بعد الصراعات، حيث نفذت مشروعات حيوية فى البنية التحتية مثل إعادة بناء شبكات الطرق والجسور المتضررة، وتحسين منظومات الكهرباء والمياه، وتبرز شركات مصرية عملاقة مثل «المقاولون العرب» بدور حاسم فى هذه الجهود، حيث تمكنت من تنفيذ مشروعات ضخمة فى وقتٍ قياسي، وشملت هذه المشروعات إعادة تأهيل المبانى الحكومية، وترميم محطات الطاقة، وإنشاء مدن سكنية جديدة. كما ركزت مصر على إصلاح البنية التحتية الحيوية، مثل: الطرق، والمدارس، والمستشفيات، وخطوط المياه، بهدف تسريع عودة الحياة الطبيعية للمدن المتضررة.
وأوضح «الشيمى» أن «قطاع غزة يُعد شاهدًا واضحًا على التزام مصر الإنسانى تجاه أشقائها الفلسطينيين، فقد نفذت مصر مشروعات إعمار ضخمة عقب كل عدوان إسرائيلي، شملت بناء المنازل المدمرة، وإعادة تأهيل شبكات الطرق والبنية التحتية الأساسية، كما تحرص على إدخال المعدات ومواد البناء بشكل منتظم، بالتوازى مع إشرافها المباشر على تنفيذ المشروعات، مما يُسهم فى تحسين حياة سكان القطاع».