وضعت أجندة منتدى دافوس هذا العام على أجندتها عددًا من القضايا العالمية الملحة على رأسها الصراعات الجيوسياسية فى الشرق الأوسط والتحديات التى تهيمن على المشهد السياسى العالمى تحت عنوان التعاون فى العصر الذكى، بحضور ثلاثة آلاف مشارك من 130 دولة بالإضافة إلى رؤساء الدول والحكومات وممثلى المجتمع المدنى والنقابات من أجل ضبط زوايا العالم الاقتصادية.
وهنا نقول دومًا الأسواق العالمية تركز على المستقبل ولكن هناك عوائق أمام الجميع فأحوال العالم ليست عظيمة خاصة أن مناطق الصراعات تتسع بشكل كبير ومصفوفة المخاطر ترتفع يومًا بعد يوم وتحاول الدول أن تنجو بنفسها وتضع السيناريوهات التى تبقيها بعيدًا عن الخطر وما زال صناع القرار يصارعون الوضع الاقتصادى الذى فرضته الظروف العالمية ولعل المحن الجديدة التى يشهدها الاقتصاد العالمى على الأصعدة المالية والنقدية وتفاقم مزيد من الديون الخارجية المتراكمة هو ما سيترك آثاره الأكثر قسوة على اقتصادات دول العالم والتى تعانى أصلًا مواجهة اتجاهات التضخم الجديدة فضلًا عن توجيه ضربة للثقة الاقتصادية فى وقت أعرب فيه الاقتصاديون والنخب وصانعو السياسات وأثرياء العالم عن أملهم فى إعادة تعزيز الثقة فى احتواء الأزمة وقراءة الأحداث الاقتصادية أو التنبؤ بها حاليًا أو مستقبلًا، فهناك فى جبال الألب السويسرية حيث يجتمع كل هؤلاء ومعهم المؤسسات المالية العالمية ورجال وول ستريت الذين وضعوا العالم فى نكبة التضخم الحالية بأسعار الفائدة ليدرسوا حالة العالم الاقتصادية فى مناخ من الفوضى والحرب وعدم اليقين الاقتصادى.
والحقيقة أن العالم فى الوقت الحالى يحتاج إلى مزيد من العقلانية لأن التأخر الاقتصادى يزيد من المخاطر وإدارتها خصوصًا الأماكن التى يقبع بها النفط والغاز وهى الأماكن التى تعانى الخوف والأزمات المتتالية.
ولذلك أصدر المنتدى الاقتصادى العالمى تقريرًا متحدثًا فيه عن (محاور النمو الأربعة) لتربطها كل دولة بخطتها الاقتصادية، وقد تحدثنا من قبل عن خطتنا البحثية للمستقبل ومؤشراته واليوم سوف نتحدث عن هذا التقرير والمؤشرات وقياسها على الانخراط فى المستقبل.
أطلق المنتدى الاقتصادى العالمى تقريره الخاص بمستقبل النمو فى عامنا الحالى عام المهام الصعبة والذى يقوم بتقييم مدى تنافسية الاقتصاد العالمى والمصادر المحتملة لعمليات النمو الاقتصادى فى المستقبل فى كل دولة من الدول المعنية التى تضمنها التقرير، والسؤال المهم: ما هو وضع مصر فى مسألة النمو والانخراط فى المستقبل؟.
فى بداية الأمر التقرير يتكون من عدة محاور مهمة تعتمد على 4 ركائز مهمة:
أولها: الابتكار وهو مدى تطور الاقتصاد المصرى ليستجيب لأى تغييرات تكنولوجية.
ثانيها: الشمولية وهى كيفية شمولية النمو لجميع الأطراف المعنية واستفادة الجميع من هذا الشمول.
ثالثها: الاستدامة وهى مدى قدرة أى اقتصاد على النمو مع المحافظة على انخفاض البصمة البيئية أو الانخفاض الكربونى لهذا الاقتصاد.
رابعها: المرونة المكتسبة لهذا الاقتصاد على النمو وقدرته على الصمود وتحمل أى صدمات ومدى سرعة استجابته وتعافيه بسرعة من هذه الصدمات.
وإذا نظرنا إلى الهدف الأسمى من هذا التقرير فإنه يسعى إلى دعم صانعى السياسات فى تقييم النمو الاقتصادى من حيث الدعائم الأربع التى عرضناها سلفًا من حيث الابتكار والشمولية والاستدامة والمرونة،
والأمر المهم الآن ما هى المعوقات التى تمنع أو تعرقل أى اقتصاد فى التفاعل مع المكونات الحقيقية التى قد تواجه تحقيق الشمولية؟ وما هى التحديات التى تواجه معايير الاستدامة؟ وما هو المنهج الذى يجب اتباعه لنصل فى نهاية المطاف إلى منهج اقتصادى متوازن قابل للمرونة؟
ولقد عرض التقرير أهم بنود الاستدامة والشمول والابتكار، ولكن من الأهم أن ينظر كل منا فى ورقته أو حاله الاقتصادى أو مؤشرات النمو الخاصة به ولذلك تنحصر درجات مستويات النمو الأربعة فى مصر فى مستوى دون المتوسط فى ثلاثة محاور هى الابتكار والشمولية والمرونة، وعند المستوى المتوسط لمؤشر أو محور الاستدامة وقد سجل المنتدى الاقتصادى العالمى نموًّا فوق المتوسط فى نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى ويرجع انخفاض مؤشر الابتكار إلى نقص الاستثمار فى البحوث والابتكار والتطوير وبراءات الاختراع المسجلة كذلك الصادرات الخاصة بالخدمات المتقدمة وبالنسبة لكل الدول الموجودة لهذه المجموعة فإن هذه الدول لديها غياب فى الرؤية طويلة الأجل، أما مصر فلديها قوة فى مؤشرين رئيسيين يجب البناء عليهما وهما:
1 - انخفاض نصيب الفرد دون المستوى المتوسط بالمساهمة فى الانبعاثات الكربونية.
2 - تزايد الاستثمار فى الطاقة المتجددة، على مستوى سوق العمل فإن تأثر ترتيب مصر بفعل انخفاض نصيب الفرد من عدد العاملين بالقطاع الصحى مع غياب التدريب فى منتصف الحياة المهنية.
ولعلنا نقوم بتحليل التقرير لمعرفة نقاط القوة والضعف وما نستطيع فعله، فالنجاح قوة وإرادة والتقرير يطرح نتائج مهمة يجب أن تكون بمثابة أسئلة أو استقصاء لواضعى السياسات الاقتصادية حتى يمكن صياغة الانخراط فى المستقبل بطريقة علمية تتفق مع المعايير الدولية التى وضعها وحددها بركائز الابتكار والشمولية والاستدامة والمرونة لنقول ما يلي:
- لقد سعى التقرير إلى تحديد المحركات الرئيسة لعوامل المفاضلة بين أمرين إما نمو الناتج المحلى الإجمالى أو التحسن فى هذه الركائز الأربع لصانعى السياسات أو السير على النهج كله.
- إن نتائج تقرير النمو للمنتدى الاقتصادى العالمى يقول إن هناك تباينًا فى النمو بين الدول فى المحاور الأربعة.
- إن الدول التى تحاول اللحاق بركب الاقتصادات مرتفعة الدخل لديها ارتفاع فى محاور الشمولية والابتكار والمرونة، لكن عليها التحسن فى درجات الاستدامة.
- معظم الدول التى توجد فى الاقتصادات ذات الشريحة العليا ولكنها دول متوسطة الدخل لديها أولوية فى الشمولية والمرونة ولكن لا يزال عليها التحسن فى مؤشر الاستدامة والابتكار.
لقد سجلت الدول منخفضة الدخل أداء قويًّا فى ركيزة الاستدامة ولكن عليها التحسن فى المؤشرات الثلاثة الأخرى.
ويشير التقرير فى خلاصته إلى أن معظم أو غالبية الدول تنمو بصور لا تتسم بالمرونة أو الشمولية وليس لديها الجاهزية للابتكار وبالتالى قلة المرونة فى مواجهة الصدمات العالمية.
وهنا يناشد التقرير قادة العالم إلى إعادة تقييم نماذج النمو والسياسات المتبعة، وما هى المؤشرات التى تحتاجها كل دولة إلى التحسن ويخطط المنتدى العالمى إلى إطلاق حملة لمدة عامين تهدف إلى حث قادة العالم على التعاون لإيجاد حلول لمواجهة تحديات النمو الاقتصادى على نحو عادل وطموح وهنا باهتمامنا بالشأن المصرى فإننا نرى أن آليات وضع محاور أساسية لعملية النمو الاقتصادى يجب ألا تكون على حساب أى مرحلة من المراحل الأربع للابتكار والشمولية والاستدامة والمرونة فلِمَ لا نسير فى كل الاتجاهات فهناك ترابط حقيقى وقوى بينها ويسجل التقرير عدم تحقيق معظم الدول لمؤشرات الاستدامة باعتبار أن نصف الناتج المحلى الإجمالى العالمى يعتمد على الموارد الطبيعية بمتوسط 47.7 فى المائة وهو ما يعنى عدم تحقيق تقدم كافٍ فى أهداف المناخ ومع ذلك الدول منخفضة الدخل ومتوسطة الدخل ومنها مصر تحقق مؤشرات عالية فى التقدم فى مؤشرات المناخ عكس الدول ذات الدخل الأعلى.
وفى هذه النقطة تحديدًا فإن مصر رغم كل المعوقات والتحديات الراهنة فإنها فى هذا المؤشر الخاص بارتباط النمو بالبيئة تحقق تقدمًا ملحوظًا بتنفيذ آليات الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر وعلى الشركاء الدوليين والبنوك والمؤسسات الدولية مساعدة الدول على تحقيق التوافق بين مؤشرات النمو والبيئة.
أما عن مؤشر المرونة وهو مؤشر مهم جدًّا فالمتوسط العالمى هو 52.8 فى المائة، وقد تصدرت الدول مرتفعة الدخل هذا المؤشر، وإذا قررنا التحليل على الحالة المصرية فإن المرونة تتطلب التنوع للاقتصادات والانفتاح وهو ما لدينا من آليات فالاقتصاد المصرى قادر على المنافسة.
والفرصة لأى دولة هى أن تشارك فى سلاسل القيمة الرقمية العالمية وهو ما يؤثر على فرص النمو المستقبلى، ومن هنا يأتى حل مشكلات البنية التحتية الرقمية وتعزيز استخدام الخدمات الرقمية فى المؤسسات خصوصًا التعليمية من شأنه أن يساعد هذه الدول على النمو سواء دولًا نامية أو متقدمة من خلال حصولها على الخدمات الرقمية.
والمؤشر الثانى الخاص بالشمولية والذى يأتى منه متوسط العالم كله فإن هذه الركيزة تمثل حوالى 55.9 فى المائة نقطة وهذا يدفعنا إلى سؤال مهم وهو: ما العلاقة بين الترابط فى الناتج المحلى الإجمالى والشمولية؟
وهنا يتزايد عدم المساواة فى الثروة العالمية والدخل بين الدول مما يصعب الشمولية والنمو للجميع، وتحديدًا النساء والمهاجرون هم أكثر من لا يستفيدون من ثمار النمو حسب ما جاء بالتقرير، وهنا تذكر أن الشأن المصرى استطاع احتواء هذه النقطة فى عملية النمو بتمكين النساء فى مصر بالإضافة إلى مظلة الحماية الاجتماعية التى تتسع عامًا بعد عام.
ومرونة طرق الإنتاج مما يؤدى إلى زيادة نفاذ المنتجات المصرية إلى الأسواق الدولية وشبكات التجارة الحيوية، فالدول التى حققت درجات أعلى يتسم اقتصادها جميعًا بالمرونة وهنا يقول التقرير على الدول التى لديها حرص على النمو الاقتصادى أن تكون..
1 - مستعدة بصورة جيدة للتغيرات الديموغرافية حيث تؤثر شيخوخة المجتمعات على الدول ونحن دولة شابة.
2 - مراعاة عوامل الهجرة.
3 - التركيز على الاستثمار البشرى.
ويلخص التقرير فكرته فى أن الاقتصاد العالمى على المستوى العام قد وصل إلى منتصف الطريق نحو المسار المثالى الذى يتمناه أى اقتصاد وهو يتسم بالابتكار والشمولية والمرونة والاستدامة.
كذلك حذرت الأمم المتحدة فى تقريرها السنوى والذى صدر هذا العام بتاريخ يناير 2025 أن فترة النمو المنخفض تلوح فى الأفق، الأمر الذى يقوض التقدم المحرز على صعيد التنمية المستدامة للعالم كله، فالاقتصاد العالمى يتباطأ لنمو 2.4 فى المائة فى معدلات النمو الاقتصادى بعدما كان 2.7 فى المائة فى عام 2024 وهو مازال دون معدل النمو قبل الجائحة والبالغ 3 فى المائة، وعلى المدى البعيد فإن العالم فى عام 2024 حقق ناتجًا محليًّا ليس الأقوى ولكنه انتقل معنا بالتضخم لندخل به هذا العام الصعب.
فما زالت أسعار الفائدة المرتفعة وزيادة الصراعات واتساع دائرتها وتباطؤ حركة التجارة الدولية وزيادة الكوارث المناخية والتى تشكل تحديات كبيرة أمام النمو العالمى.
ويحذر التقرير الخاص بالأمم المتحدة من بعض الأمور وعليها أن تأخذها فى الاعتبار وهو ألا تقع الدول فى:
۱- فترات طويلة من تشديد شروط للائتمان.
۲- ارتفاع تكاليف الاقتراض فهى تمثل رياحًا معاكسة قوية تواجه الاقتصاد العالمى المثقل بالديون ولدينا بعض الدول التى امتنعت عن سداد الديون مثل إثيوبيا.
۳- زيادة الحاجة إلى كم من الاستثمارات لإنعاش النمو ومكافحة المناخ وتغيره وتسريع التقدم على مسار تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وقد كانت الآمال عريضة قبل بداية هذا العام الصعب اقتصاديًّا عندما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غويتريش إن 2025 يجب أن يكون هو العام الذى نخرج فيه من هذا المستنقع الاقتصادى وإطلاق العنان لاستثمارات كبيرة وجريئة ووضع الاقتصاد العالمى على مسار نمو أقوى للجميع، كما أن العالم فى حاجة إلى مليارات من الدولارات سنويًّا فى شكل تمويل طويل الأجل ميسور التكلفة للاستثمارات فى التنمية المستدامة والعمل المناخى.
وباستعراض كل التقارير العالمية حتى نخرج بدروس مستفادة فإنه يجب على الدول الصاعدة ونحن منها أن تتخلص أولاً من الضغوط الموجودة فى ميزان مدفوعاتها ومخاطر القدرة على تحمل الديون.
وإذا كان التقرير الأممى يقول إن التضخم العالمى فى طريقه للنزول ولو بشكل ضئيل ولكنه أشار إلى أن ضغوط الأسعار مازالت مرتفعة بالإضافة إلى أن زيادة الصراعات الجيوسياسية ستعيدنا إلى المربع الأول فى التضخم وهو ما يعوق القضاء على الفقر، وعلى كل دولة أن تعمل على تعزيز التعاون العالمى بأى شكل والنظام التجارى متعدد الأطراف وإصلاح تمويل التنمية والتصدى لتحديات الديون وزيادة تمويلات المناخ والتعجيل بالوصول إلى مسار النمو المستدام الشامل بتطوير الأداء فى محاور النمو الاقتصادى والارتقاء باقتصادنا إلى المستوى للدول عالية الدخل والتى تتمتع بتوازن فى الأداء من خلال مؤشرات الابتكار والشمولية والمرونة والاستدامة وتحسين التصنيف الائتمانى الذى لنا فيه حديث آخر فهل نفعل ونحن نُفعِّل إعادة تصور النمو وصناعة النمو فى العصر الذكى والاستثمار فى البشر وبناء الثقة؟