غرد البلبل ثلاثين عاما وسيغرد ويغرد ويغرد بعون الله خالق الجمال، وباعث السحر الحلال«أم كلثوم» فلتة الطبيعة ومعجزة العصر الحاضر الفنية قد خلدت اسمها فى تاريخ الفن ورسمت صورتها فى كل مخيلة، وتسلل صوتها الحنون إلى الآذان والقلوب.. فإلى القراء شيئا عنها ومنها!
طافت برأسى الذكريات وأنا فى طريقى إلى «قفص» البلبل المغرد الذى يسمونه «الفيلا» فاستعرضت ذاكرتى «فيلما سينمائيا» زاخرا مطبوعا بألوانه المختلفة الطبيعية: الزاهية والقائمة.. والذكريات حلوها حلو.. ومرها حلو!
ولا أنكر وأنا أبسط هذه الصفحة عن «أم كلثوم» أن قلبى اهتز أكثر من مرة أمامها أسوة بغيرى من الشباب الذى كان يحيط بها ولكن الذى حدث أننى أخطأت فاخترت فى «بطانتها» منصب الصديق والمحامى وكاتم السر والمستشار فتلونت عاطفتها وعاطفتى ألوان هذه الصفات، وعبثا حاولت أن أنتقل من المنصب الذى أوجدت نفسى فيه، إلى المنصب الذى رفت إليه عاطفتى وتاقت إليه جوانحي.. ولت الفرصة ودفنت العاطفة فى أقصى مكان من قلبى ونفسى ولا أظنها تبعث من جديد..!
ذات العقال!
فى سنة 1920 كنت أسمع فى ناحيتنا «كفر أبو شحاتة» عن فتاة صغيرة تطوف الموالد وتتلو القرآن، وتنشد السيرة النبوية وكنت أسمع أنها موهوبة إلى أن دعانى صديقاى «على حسين بك» المستشار و«على أيوب بك» وكيل مجلس النواب إلى «الصوه» لمناسبة مولد سيدى «أبى مسلم الصغير»... ذهبت إلى عاصمة «الحناء» فى الشرق الأدنى والأوسط والأقصى بل ربما كانت «الصوه» عاصمة الدنيا بأسرها فى هذا الصنف! فأكلنا الفتة واللحمة و«البالوظة» وفق تقاليد الموالد ثم توجهنا إلى سرادق أقاموا فيه «تختا» يحتله بعض المشايخ، ولم ألبث أن لمحت «فأرًا صغيرًا» يزفو إلى التخت كما يزفو الفئران وقد تعصبت رأسه بعقال بدوى فقلت: ما هذا !؟
قالوا: أم كلثوم.
الله أكبر...
شيء صغير فى حجم «المليم» و«قد» الهرة الصغيرة...
كان أول خاطر خطر لى أن الليلة قد ضاعت على وأننى سأعود من رحلتى بذكريات الفتة واللحمة والبالوظة ليس إلا... ولكن... ما كاد المشايخ يتمتمون ويدندنون ويهمهمون حتى اندلع من بين أصواتهم صوت قوى حلو ما كادت أولى نبراته تطرق أذنى وذهنى وقلبى حتى صحت من أعماق نفسى هاتفا: الله! الله! الله أكبر...
ومن ذلك الحين بدأت أتعقب الفتاة فى موالد الشرقية والدقهلية والغربية أنا وبعض الزملاء وكنا نشرف على «عقودها» المتواضعة البسيطة وقد أخذ شأنها يستفحل فى الأقاليم فأقيمت حفلات فى بعض عواصمها، فكنا نشرف على الوارد والمنصرف، وتذاكر الدخول والخروج والفتاة تكبر وتترعرع رويدا رويدا.. وكانت فى غريزتها «شيطانية» جذابة وروح أخاذة خلابة وقد بدأت أسارير وجهها تتفتح وتتجلى وتحلو فوثق فن الفن وفن الفتنة من علاقتنا بها واهتمامنا بشئونها...
العاصمة
فى سنة 1920 أو 1921 كانت ساحة قهوة «الكافيه ريش» عرسا ومهرجانا ومؤتمرا نيليا مستمرا جمع بين مطربى القطر جميعا فى مكان واحد فتناوبوا الغناء والطرب والفن كل بدوره إلى أن علمنا أن المطربة الكبيرة ذات الحنجرة العالية الممتازة «منيرة المهدية» قد عادت من منفاها «بلبنان» إلى القاهرة وأنها ستغنى سمعناها وتذكرنا صديقتنا الصغيرة وروينا لها الكثير عن المطربة الكبيرة وأخذنا نحرضها ونحرض والدها على أن «يجربا بختهما» فى القاهرة.. فسال لعابها وجن جنونها وبكت بكاء الأطفال، وودت لو تغنى فى القاهرة!
وأسمعناها للموسيقار الكبير المرحوم «سى محمد العقاد» فأخذ يمتحنها ولعب بأنامله حذرا مترددا على قانونه واستفزها لتتابعه فانطلقت تجرى بصوتها وراء أنامله فكان الرجل يهتز ويختلج كلما بدرت لؤلؤة من لآلئ الكنز الثمين المخبوء وكلما تجلت جوهرة من جواهر الحنجرة المكبوتة.. ولمحناه يهز رأسه ويترنح ثم أخذ يترحم على محمد عثمان وعبده الحمولى ويقول بين الفترات: يارب هل يعود الماضى ويبعث فى هذه البنية ؟
أمام وزارة المالية
وأعددنا حفلة القاهرة كما شاءت فى أرض فضاء بجوار وزارة المالية، وعلم القاهريون أن «العقاد» الكبير المخضرم ونابغة القانون والوزير الأول فى دول محمد عثمان وعبده الحمولى والشيخ يوسف المنيلاوي، يتولى هذه الحفلة لحسابه فتدفقت القاهرة على المكان وكان ما كان...
كان أحس الجمهور المصرى بأن «معجزة فنية» قد هبطت من السماء- أو تفجرت من الريف- فاستولت على الآذان والأذهان والقلوب! وهكذا غزت أم كلثوم، وبدأت غزوها وفتحها منذ ذلك الحين...
العوازل!
شقت الفتاة طريقها واستفحل أمرها فمن حجرة ضيقة فى ملحق «جوردون هاوس» إلى شقة متواضعة فى شارع قوله بحى عابدين – إلى شقة فاخرة فى عمارة بهلر بالزمالك- إلى حيث هى الآن فى فيللتها الأنيقة على النيل..
استفحل أمرها والتف حولها الكبراء والعظماء والأغنياء والمعجبون والمغرورون والمتملقون فأحسسنا أن نجمنا فى أفول وأن دولتنا تدول...
غضبنا... وقاطعنا...
ثم اصطلحنا.. !
ثم غضبنا... ثم قاطعنا... ثم عدنا! وهى فى هذه الفترات المتقطعة لا تكترث ولا تسترضى بل تذيقنا كل ألوان «التلويع» من هجر، وصد ونسيان وإغفال وإهمال فكنا ننتقم ونتشفى! ونحارب! ونطعن! ثم نتعب ونلقى السلاح...
ونعود إلى «طاعتها» صاغرين...
حديث البيت والغيط !
إلى هذا الحد من الذكريات كانت العربة قد وصلت بى إلى مسكنها فاقتحمت باب دارها وتسللت إلى صالونها الفاخر، على أننى من «المؤسسين» لصروحها الفنية والأدبية والمادية وبعد تناول القهوة- والفناجين كبيرة ترمز إلى الكرم – قلت لها :
يعلم الكثيرون عن فنك، وقد أسعدت القلوب وأسعدت الآذان والأذهان ثلاثين عاما وستسعدينها جمعيا أعواما وأعواما ولابد لـ«لمصور» أن يسجل هذا النبوغ الطويل المدى ولكنى أتساءل ويتساءل معى الناس: هل بلغت الشأو فى سيادة المنزل كما بلغت الشأو فى سيادة الفن ؟!
أطرقت إطراق الساسة المسئولين، وأعرف سلفا أنها لا تلقى الكلام على عواهنه، وأنها تحسب ألف حساب لكل عبارة وتراجع وتغير وتشطب فى أحاديثها الصحفية كما تفعل فى عقودها السينمائية وغيرها وكان الله فى عون المتعاملين !
قالت: أنا لا أعنى بالمسائل التفصيلية ولا بالتوافه وأنا أحب بيتى وأعشقه فأنا «ربة منزل» من الطراز الأول من هذه الناحية ولكنى لا أشغل نفسى بالمسائل الثانوية، وإنما أرسم «السياسة العامة» لمنزلى وأصدر تعليماتى الرئيسية لذوى الاختصاص متفرغة للجوهريات...
هتفت قائلا: ما شاء الله! هذا هو طراز «الوزير النموذجي» الذى نرجوه للبلد! فكم عانت الإدارة والوزارة من تدخل الوزراء فى كل صغيرة وتافهة.. وسأبلغ إجابتك هذه لوزرائنا لعلهم يهتدون..!
وجر السؤال عن «البيت» إلى السؤال عن «الغيط» فسألتها عن أطيانها الواسعة ومزارعها فرفعت عينيها إلى السماء تشكر الله على نعمته ثم استدركت قائلة: «إن أرضى كلها مؤجرة لصغار الفلاحين من أقاربى وأهلى وأرجوك أن ترسل مندوبا للتحقيق فسيعلم أننى أكاد أؤجرها بإيجار اسمى أو بإيجار متواضع فيه كل معنى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية لا شيء كما أعتبر أن أقاربى منى أعتبر أن ملكى ملكهم وأرضى أرضهم، وقد اعتدت أن أزور القرية بين حين وحين لأزود سكانها بالأدوية والأقمشة الشعبية وغيرهما حتى لقد عقدت (شركة تعاون) بكل معنى الكلمة !»
ولقد سألت وتحريت شخصيا لأرضى شكى وريبتى فعلمت أن هذا هو الحاصل بالفعل... ودهشت – وأنا الصديق القديم- إذ ظلمتهما زمنا طويلا فى الماديات وأحسب أن سعادة حامد جوده بك رئيس مجلس النواب يسر أن يقرأ هذا الكلام! وأن السيد «ستالين» يحس إذا قرأه أن من بيننا من يعلو «بالشيوعية» إلى مرتبتها السليمة فى مصر، وأننا سنحارب شيوعية موسكو بمبادئ الحنان القروى الذى لا تكلف فيه ولا تصنع باسم الملاك لا باسم السلطة والتشريع وحبذا لو أجرى «المصور» تحقيقات متوالية فى مزارع الأغنياء والكبراء والتفاتيش لينتشر صفحة بيضاء للعاملين وصفحة سوداء للظالمين المتغولين!
بمثل هذا تدفع «الشيوعية» عن أبوابا وندفعها عن ديارنا فنضرب المبدأ بالمبدأ ونقرع السلاح بالسلاح.
الخير
وتشجعت فسألتها: يتكلمون عن ثروتك وأرباحك..!
وهنا قاطعتنى وقد استفزها السؤال قبل أن أتمه ثم قالت:
ماذا يقولون؟ وماذا تقول أنت؟ وهل تعلم أننى أساهم وأكتتب بفنى وأعصابى وصحتى فى أكثر من خمس عشرة جمعية ولو حسبت حساب المادة فى هذا لعلمت أننى أدفع عن طيب خاطر وبوحى من ضميرى ووجدانى ضريبة أهلية أو ضريبة خيرية لا تقل عن أربعة آلاف جنيه فى العام أتريد أن أذكر لك أسماء الجمعيات التى أؤدى لها هذا الواجب؟
قلت: «أعفيك من ذكرها وسأذكرها أنا لقرائى من عندياتي.. فإن مطربتنا الكبيرة تغنى لوجه الخير والإحسان متبرعة فى حفلات وليالى جمعيات الإصلاح الاجتماعى – والعميان- والمرأة الجديدة- والهلال الأحمر- ومبرة محمد على- والاتحاد النسائى- وتحسين الصحة- والموسيقيين- والممثلين- والجمعية الخيرية الإسلامية- وجمعية المستشفيات- وجمعية مبرة فريال- وغيرها وغيرها.. فهى تدفع فى الواقع- لو حسب الحساب- زكاة عن عافيتها ونعمة الله عليها حبذا لو دفع نصفها أو ربعها أرباب الملايين وأرباب الألوف من الفدادين..
ألم النفس
قلت لها إن فى حياتى الشخصية سحابة من ألم نفسى تبدو وتختفى فى سمائى بين حين وحين فهل فى سمائك مثل هذا...؟
نسيت «زغراتها» القديمة التى كان ينبعث منها الشرر هذه هى الآن تذكرنى وتكاد تغضب! ولكنى بنظرة سحرية من وراء «سياجى الحديدي» – أى نظارتي- استطعت أن أعيدها إلى قواعدها.. هادئة!
قالت: هذه (شخصيات) وخصوصيات فخير لنقيب الصحفيين ولقرائه ألا يهتموا بالشخصيات والخصوصيات... وماذا يهم القراء فى هذا؟ ولماذا تغذون فيهم غريزة الاستطلاع والفضول ومعرفة مالا يعنيهم؟ إن السياسى العام والرجل العام والفنان العام يقدم للرأى العام سياسته أو فنه وهذا هو الذى يجب أن يعرف أما ما دون ذلك فهو ليس ملكا للدولة أو للأمة أو للرأى العام».
تلقيت هذا الدرس بصفتى «نقيبا للصحفيين» من نقيبة الموسيقيين صامتا وقلت فى نفسى والله معها حق..
مشروع السنوات الخمس
سألتها: ما هو برنامج السنوات الخمس فى مشروعاتك المقبلة؟
قالت متهكمة: أنا لا أضع (مشروعات سنوات خمس أو عشر) مثل بعضهم لأننى أخشى أن أسرف فى الوعد وأتورط فى التنفيذ أنا (قدرية) أتوكل على الله ولكننى أجتهد ولقد سألونى مرارا عن (الأوبرا) ورواياتها وعن مسرح خاص باسمى وعن مجاراة الغناء الإفرنجى والموسيقى الغربية وردى على ذلك كله هو عدم الموافقة أنا (معارضة) مثلك فى هذا! فليس فى مقدورى أن أغير (غريزة) الملايين الذين تعودوا الموسيقى الشرقية وتغيير الغرائز والطبائع من شئون الله سبحانه وتعالى و(الأوبرا) تزوى وتختفى فى عصر السرعة والقنبلة الذرية فدعنا من هذا..
رئيس وزراء !
قلت لها: لنفرض أنك أصبحت «رئيسة للوزراء» ووليت رياسة الحكومة فماذا ترسمين للقضية المصرية ؟!
أطرقت إطراقة «ترومان» و»تشرشل» وقالت: اسمع قضيتنا لا تحل بالسياسة ولا بالأخذ والرد وبمجلس الأمن وبالفقه والقانون لأن التاريخ لم يبرز لنا مثلا واحدا تحل به القضايا الوطنية الاستقلالية بهذه الوسائل... كان غيرنا غلب وغيرنا كان أكفأ منا وأقدر منا وأغنى منا الوسيلة الوحيدة هى القوة.
«ولو أردت أن تعرف برنامجى حسبما تخيلت عندما أصبح رئيسة حكومة فهو هكذا.
وما نيل المطالب بالتمنى
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
إلى هذا الحد اكتفيت فودعتها مهنئا «بالثلاثين عاما» التى غردت فيها وأسعدت ملايين الآذان والقلوب والأذهان.. داعيا الله أن تغرد وتغرد وأن تسعد وتسعد وأن تعيش طويلا للفن الغالى العزيز.