رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

سيدة الغناء العربى تتحدث عن نفسها كنت أتشاجر مع أخى حتى أنام فى حضن أمى فى عام ١٩٢٤ كان عمرى ١٥ سنة


2-2-2025 | 17:26

سيدة الغناء العربى تتحدث عن نفسها كنت أتشاجر مع أخى حتى أنام فى حضن أمى فى عام ١٩٢٤ كان عمرى ١٥ س

طباعة
نشر فى يونيه 1957

الفنانة الكبيرة أم كلثوم تؤثر دائمًا ألا تتحدث عن نفسها، وقلما تظفر منها الصحافة بكلام تروى فيه بعض قصة حياتها.. ولكن «إنجى رشدي» استطاعت أن تقنعها بأن صوتها الحلو وهى تغني، هو هو بحلاوته لو تتحدث.. فتحدثت!

 

كانت الساعة السابعة مساء، والدنيا حر، عندما وقفت أمام باب حديقة «فيللا» أم كلثوم بالزمالك، وما كاد البواب يرانى حتى تقدم من الباب وفتحه بمفتاح «ييل» دون أن يسألنى من أنا أو ماذا أريد، كان يبدو أن لديه فكرة عن الزائرة التى ستحضر فى المساء..

 

وأدخلونى إلى الصالون الكبير الذى يتوسط صالونات «الفيللا» وحجرة المائدة.. وجلست أنتظر أم كلثوم.

 

ورأيتها بعد لحظات مقبلة من الدور العلوى، تنزل الدرجات فى رشاقة، ترتدى ثوبًا بسيطًا من الحرير «الهافان» المنقوش بورود بيضاء، وقد زينت رقبتها بسلسلة من الذهب يتدلى منها مصحف ذهبى صغير، وعلى عينيها «نظارة» أنيقة، وفى قدميها صندل من القش الأسود، كان منظره غاية فى الرقة!

 

وقالت لى وهى تحييني: «هل نجلس هناك فى الصالون الداخلي... أو نبقى هنا حيث الجو أكثر برودة؟»

 

وبقينا فى الصالون الكبير الرطب، الذى أوحت إلينا رطوبته اللذيذة بأن نتحدث عن الصيف.

 

قالت لى إنها تحب قضاء الصيف بالإسكندرية لولا أن جوها لا يلائم صحتها، ويسبب لها أحيانًا نوعًا من «الأرتكاريا» التى تضايقها كثيرًا، وفى كل صيف تقرر أم كلثوم أن تقضيه بالإسكندرية، فتؤجر بيتًا بها، وتؤجر «كابينا» على البلاج، وتأخذ «عزالها» وتسافر، فلا يمضى عليها يوم هناك حتى تعود مسرعة إلى القاهرة.

 

مضايقات المعجبين

 

مرة واحدة ذهبت أم كلثوم إلى «الكابين» وفى نيتها أن تقضى وقتًا طيبًا على البلاج، فتجمع المعجبون حولها يراقبون حركاتها وسكناتها، ويضيعون عليها لذة الاستمتاع بالماء والرمال.. والهواء النقي!

 

قلت لها:

 

«وهل يضايقك أن يبدى الناس إعجابهم بك»؟

 

قالت: «الإعجاب لا يضايقنى طبعًا.. ولكن طريقة التعبير عنه هى التى تضايق أحيانًا».

 

يحدث أن أسير فى الطريق فينظر إلى شاب ويقول بصوت مرتفع النبرات: يا ظالمني... يعنى أنا عرفتك.

 

«وأبتسم فى صمت وأواصل سيرى.. وقد يكون شابًا رقيقًا فيكتفى بما حدث.. أو يكون أقل رقة فإذا به يسرع إلى غيره من الشبان يجمعهم حوله، ويشير إلى ناحيتى ويقول: أم كلثوم أهه

 

«وتتكون زفة محرجة جدًا».

 

وكانت أم كلثوم تتحدث فى بساطة وانطلاق، وأحسست وأنا أنظر إليها أتفحصها وهى جالسة أمامي، أنها مستريحة فى جلستها، مستريحة فى ثوبها وفى كلامها، وفى كل شىء... وأسعدنى أن أراها على هذه الحال.

 

قلت لها:

 

«الناس يريدون أن يسمعوك تتحدثين عن نفسك ما رأيك؟»

 

قالت: «أنا لا أحب أن أتحدث عن نفسى».

 

قلت: «وهذا يجعل الناس أكثر شوقًا إلى حديثك.. ما رأيك لو ألقيت عليك أسئلة تجيبين عليها؟».

 

قالت: «رتبى أسئلتك، ثم اقرئيها على يومًا فى التليفون وأنا أجيبك عليها».

 

قلت: «لا.. إننى أريد أن أوجهها إليك وأنا جالسة معك أراقب صداها على وجهك وفى نفسك».

 

وضحكت فى رنات جذابة وقالت: «يعنى أنت فاكرة إنى مش حاعرف أرد... اتفضلى اسألى».

 

فى الكوخ

 

وكنت أريد أن أسمع الناس فنانتهم الكبيرة وهى تروى لهم بنفسها قصتها من الأول... قلت لها:

 

من أى بلد أنت يا أم كلثوم؟ أية قرية، أى كفر، أى بيت رأى مولدك؟ من هو أبوك؟ ومن هى أمك؟ ما أصلكم ومن أين جئتم؟

 

وران علينا الصمت، وسرحت أم كلثوم، وبدا عليها أنها عادت بذاكرتها إلى الوراء... إلى أيام طفولتها فى القرية، ثم بدأت تروى قصتها:

 

«ما أصلنا ومن أين جئنا أمور لا أعرفها... أعرف أننى من قرية طماى الزهايرة مركز السنبلاوين، مديرية الدقهلية.

 

«أما أهلى فهم ناس فلاحون...

 

«وأبى كان مقرئًا رخيم الصوت يرتل القرآن ويطرب الناس فى الموالد.

 

«أما البيت الذى ولدت فيه فلم يكن بيتًا... كنا نعيش فى كوخ»

 

ولم أكن فى حاجة إلى أن أستنتج أن أم كلثوم علمت نفسها بنفسها، وكسبت ثقافتها من الحياة، أكثر مما كسبتها من المدرسة فقلت لها:

 

كيف استطعت أن تثقفى نفسك؟

 

فقالت ببساطة:

 

«تعلمت فى الكتاب، وكانت سعادتى بذهابى إليه لا توصف حتى إننى كنت ألون أصابعى بالحبر ليراها الناس ويعرفون أننى تلميذة، ثم ذهبت إلى المدرسة، وكنت أهوى الشعر وأستمتع بالأدب، فكنت أقرأ وأقرأ كلما وجدت فسحة من الوقت... قرأت كل الشعر من الجاهلية إلى اليوم... وكذلك قرأت كتب الأدب... وأذكر أن من بين ما قرأت كتاب الأغاني، ثم «كليلة ودمنة»..

 

قلت:

 

هذا جميل... ولكننا لا نزال فى القرية... كبرت وأصبحت تلعبين مع الأطفال تشاركينهم المرح والبكاء والغناء، وارتفع صوتك الحلو يردد أغنيات ساذجة، فهل فى ذاكرتك اليوم بعض ما كنت ترددين فى تلك الأيام؟

 

قالت: «أنا غنيت على طول.. كان أبى يعلم أخى صنعته وكنت أسمعهما وأحفظ عنهما وأردد ما يقولان.

 

«ولم تكن أغنيات ساذجة... كانت تواشيح يغنيها أبى وأرددها دون أن أفهم معناها.. مثلًا كنت أغني:

 

مولاى كتبت رحمة الناس عليك فضلًا وكرم

 

فالمرجع والمآل والكل إليك عرب وعجم

 

فى ملابس الصبيان

 

قلت:

 

وكان فى قومك صاحب أذن رائقة سمعك ترددين هذا الكلام.. من هو؟ وماذا فعل؟

 

وضحكت وهى تقول: «ولا أذن رائقة ولا حاجة.. كنت أغنى يومًا وحدى وسمعنى أبى أردد بعض أغنياته فإذا هو ينصت إلى فى اهتمام وصمت.

 

«وكانت السن تتقدم به، وكان يفكر فى أن يورثنا فنه، فبدأ يهتم بى كما اهتم بأخي.. وأدرك أننى صالحة لمعاونته والتعلم منه.

 

«وفكر فى أن يقدمنى للناس، فجعلنى أرتدى ملابس الصبيان وأشاركه الغناء فى الحفلات التى يحييها».

 

قلت:

 

وجد أهلك إذن كنزًا صغيرًا فى صوتك، يمكن أن يصبح موردًا للرزق، فكيف بدأت صلة الناس بصوتك، وماذا كان يدر هذا الكنز الصغير؟

 

وفى خفة دم جذابة روت لى أم كلثوم كيف غنت للناس قالت:

 

«كان أبى يوم سمعنى أغنى على موعد مع مأذون القرية ليحيى سهرة يقيمها فى بيته، وقال لى إنه سيأخذنى معه، فلما تمنعت أغرانى بأننى سألتهم «طبق» من المهلبية.

 

«ووالله لولا المهلبية ما غنيت!

 

«وسمعنى عند المأذون قوم من السنبلاوين، فدعونى مع أبى لإحياء سهرة عندهم... وفى السنبلاوين سمعنى قوم من مركز آخر... وتكررت الدعوة وهكذا..

 

«وكان أبى هو الذى يقبض الأجر، ولست أعرف والله كم كان يتقاضى ثمنًا لصوتي، ولكننى أذكر جيدًا، وكنت فى السابعة من عمرى أن رجلًا سمعنى فى إحدى القرى أغني، فأعطانى فى يدى نصف ريال كأجر للأغنية... وأطبقت عليه بكفى سعيدة، واحتفظت به حتى عدت لأمي، فاندفعت إليها وأعطيته لها، وكنت سعيدة إذ فعلت شيئًا يسعدها... نعم كنت مدفوعة بشعور خفى يؤكد لى أن نصف الريال سيسعدها».

 

قلت:

 

وأصبحت حياتك سفرًا وترحالًا وتغريدًا، فمن كان يصاحبك فى رحلاتك وممن كانت تتكون بطانتك؟

 

وقالت أم كلثوم:

 

«والدى وأخى كانا بطانتي... وأصبحت أنا بريمادونة الفرقة... وبدأ أبى يتشجع على التقاليد ولا يجد غضاضة فى أن تغنى ابنته ويرى الناس منتشين بصوتها» .

 

فى القاهرة

 

قلت:

 

وكان طبيعيًا أن تجذبك أضواء العاصمة، فمتى جئت إلى القاهرة؟ وماذا غنيت لأهلها أول ما غنيت لهم؟

 

قالت: «جئت إلى القاهرة فى عام 1924، وغنيت فى مسرح برنتانيا، وكان أجري، الفرقة وأنا، يتراوح بين سبعة جنيهات وخمسة عشر جنيهًا فى الحفلة.

 

«وكانت تنتشر فى العاصمة أغان مثل: ارخى الستارة اللى فى ريحنا، فكان أبى يحرم على أن أغنيها... وكنت أنا بطبعى لا أميل إلى ترديدها.

 

«كان يختار لى قصائد من الكتب، وكنت أرددها أمام الجمهور بلا تلحين.. أرددها كالتواشيح منغمة فى تحفظ.. ثم كانت أول أغنية ملحنة للشيخ أبو العلا، وهى أغنية: «أفديه أن حفظ الهوى».

 

قلت:

 

ما رأيك فى أن صوتك فى تلك الأيام وفى مثل تلك الأغنيات كان «مسرسع» جدًا؟.. أهو سوء التسجيل فى ذلك الوقت؟

 

ويبدو أن سؤالى لم يغضب أم كلثوم، بل لعله أعجبها لأنها ضحكت وقالت:

 

«التسجيل مالوش دعوة.. أنا صوتى كان مسرسع جدًا فى ذلك الوقت.. كان عندى 15 سنة، ولم يكن هناك تمرين أو صقل لصوتي، ولكننى داومت على المران.. وما دام الواحد موهوبًا يوصل».

 

ولم تفطن وهى تقول هذا الكلام، أنها باحت لى بسر أذيعه على الناس.. أن أم كلثوم كانت فى عام 1924 فى الخامسة عشرة من عمرها..

 

ومضت تكمل قصة أيامها الأولى فى القاهرة وتقول:

 

«وألفنى الناس وبدأوا يحبون صوتي، وزاد أجري، وكثرت الحفلات التى أحييها.

 

«والحمد لله فقد عاش أبى وكان يصاحبنى فى كل شىء... حفلاتى وسكني...

 

«وكان يعيش معى فى القاهرة حتى توفى فى عام 1934.. بعد أن رأى كيف نجحت ابنته... وتوفيت أمى فى عام 1945.

 

«وكم أحسست الفراغ بعد موتها... كانت بعد وفاة أبى تملأ علينا البيت بروحها الحلوة... كانت كل شىء بالنسبة لي... وأنا أذكر أننى كنت أتشاجر مع أخى فى الكوخ لأنام أنا فى حضنها».

 

قلت:

 

ومن كان يلحن لك فى ذلك الوقت؟

 

قالت: «الشيخ أبو العلا.. والشيخ زكريا أحمد.. والقصبجى وكان رامى هو الذى يؤلف لى فى البداية كل أغنياتي... ثم لحن لى رياض السنباطي».

 

صراحة لطيفة

 

قلت:

 

وكانت حياتك الخاصة سرًا مغلقًا دائمًا، ولك أصدقاء يدافعون عن عزلتك.. ولكن حسادك ولا شك أن لك حسادًا، شاءوا أحيانًا أن يصفوا عزلتك هذه بالبخل، فهل أنت بخيلة؟ وهل صحيح أنه يندر أن يدعى إلى بيتك بعض الأصدقاء؟

 

وأجابت أم كلثوم على هذا السؤال الطويل العريض بكلمتين اثنتين، قالتهما والضحك يملأ وجهها وصوتها:

 

«هو كدة»!

 

«ودفعتنى إجابتها اللطيفة الصريحة إلى أن أقول:

 

إن بيرم التونسى مثلًا، يروى دائمًا كيف كنت تبخلين عليه بالأجر الذى يناسب فنه، وهو يقول إن أغنيات رائعات ألفها مثل «كل الأحبة اتنين اتنين.. والانتظار.. والآهات.. وأهل الهوى.. والأمل» كل هذه الأغنيات لم يتقاض ثمنًا لكل منها إلا جنيهات تعد على أصابع اليد الواحدة... فهل هذا صحيح؟

 

قالت: «إذا كان هذا صحيحًا... فهل كان بيرم يتقاضى من غيرى أجرًا أكبر؟.. اسألوه عن هذا»؟.

 

قلت:

 

ولماذا لا يسمعك الناس هذه الأيام تغردين، إلا نادرًا، بما كتب بيرم ولحن زكريا أحمد؟.. أزكريا حقًا هو المسئول؟ هل بينكما خلاف يحرم علينا سماع هذه الأغنيات؟.

 

ووجدت أم كلثوم الجواب فى السؤال!.. قالت لي:

 

«نعم.. زكريا هو المسئول.. رفع دعوى يطالبنى فيها بسبعة وثلاثين ألف جنيه يقول إننى أكلتها عليه.. هل هذا معقول؟

 

«ثم أبرق إلى الإذاعة يطلب منها منع إذاعة الأغانى التى أغنيها من ألحانه.

 

«ومع هذا سعيت إليه.. طلبت منه أن نترك القضية تأخذ مجراها الطبيعى وأن نترك الكلمة فيها للقضاء، وأن نبدأ من جديد.. يلحن لى وأغنى له.. ولكنه رفض».

 

وشعرت بالأسف وأنا أسمعها تقول هذا الكلام، وتمنيت لو أن زكريا أحمد يسعى هو أيضًا إلى أم كلثوم.. ماذا يخسر لو ترك القضاء يقول كلمته، وتعاون هو معها من جديد؟

 

فى السينما

 

وقلت أكمل لأم كلثوم قصتها، وأسعى عندها للمزيد من التفاصيل:

 

وفتحت لك السينما ذراعيها، وضمتك إليها فى إعزاز... ثم قيل إنك رفضت، أو رفض محمد عبدالوهاب، أن يضمكما فيلم واحد، فمن منكما الذى رفض؟ ولماذا رفض؟

 

وبدأت أم كلثوم تقول كلامًا يخيل إلى أن عددًا كبيرًا من الناس لا يعرفونه، قالت:

 

«عرض على عبدالوهاب يومًا أن نمثل ونغنى معًا فى فيلم واحد... فاتحنى فى الأمر فقبلت.

 

«وقلت له إننى أوافق على الفكرة، وقبلت أن يتقاضى كل منا 20 ألف جنيه من بنك مصر الذى احتضن الفكرة ورحب بتمويل الفيلم...

 

«ورأيت أن تكون قصته هى قصة ألمظ وعبده الحامولي... ومضت ثلاثة أشهر قرأت خلالها القصة وعرفت دورى فيها، وإذا بحسنى نجيب، وكان مديرًا لاستوديو مصر، يزورنى ويقول لى إن عبدالوهاب يرفض القصة لأنه لا يحب أن يغنى الأغانى القديمة!

 

«واتفقنا من جديد على قصة قيس وليلى، ولكن حسنى نجيب جاءنى بعد ثلاثة أشهر أخرى يقول إن عبدالوهاب يرفض أن يظهر على الشاشة بعمامة كالتى كان يلبسها قيس...وأنه يريد أن أمثل أنا ليلى كما كانت فى القصة، أما هو، قيس، فتعدل القصة له بحيث يمثل دور قيس مودرن، يهبط من المدينة إلى البادية فيلتقى بليلى ويحبها..!

 

«وثارت أعصابى وطلبت من حسنى نجيب أن يوفر جهده بعدما بدا من أن عبدالوهاب غير جاد فى الاتفاق».

 

قلت:

 

وهل كان عبدالوهاب فى هذه المساعى يشترط أن يلحن هو كل أغنيات الفيلم؟

 

قالت: «إننى ما كنت أرضى بملحن واحد كعادتى فى كل أفلامي... وعلى كل حال أنا لا أعرف أن عبدالوهاب كان له مثل هذا الشرط».

 

قلت:

 

لقد رأيناك تتجهين بفنك إلى فنانين شبان.. سمعناك تغنين لكمال الطويل ومحمد الموجى فما رأيك فيهما؟

 

وقالت أم كلثوم: «رأيى أن لكل ملحن لونه الخاص الذى يتميز به، وأنا أحببت دائمًا أن أقدم ألوانًا مختلفة لجمهوري... إننى أحب التجديد».

 

وكنت وأنا أسمعها تتحدث عن التجديد وحبها له، أراها محافظة بطبعها على القديم، تسريحتها مثلًا لم تتغير منذ جاءت إلى القاهرة فى عام 1924حينما كانت الموضة هى الشعر الطويل... القصير!.

 

وفساتين السهرة، لا تغير أم كلثوم طريقة تفصيلها... هى هى دائمًا فساتين ذات «ديكولتيه» مثلث، وحتى ثيابها العادية تتسم دائمًا بنفس فتحة العنق... ومع هذا فإن أم كلثوم تبدو دائمًا أنيقة رشيقة، يبهرك حديثها الطلي، وتأخذ بقلبك روحها الصافية المرحة...

 

حب وكراهية

 

رأتنى شربت عصير الليمون الذى قدمته لي، فطلبت لى فنجانًا من القهوة، ولم تطلب واحدًا لنفسها فقلت لها:

 

أتكرهين القهوة؟

 

قالت: «أنا لا أشربها... لا هى ولا غيرها».

 

قلت:

 

أهو خوفك على صوتك؟

 

قالت: «أبدًا... إننى فقط لا أحبها».

 

قلت:

 

سؤال محرج، ولكننى سألقيه عليك... ما رأيك فى عبدالحليم حافظ كمطرب... وما رأيك فى محمد عبدالوهاب؟

 

وابتسمت أم كلثوم وقالت:

 

«لا محرج ولا حاجة... عبدالحليم حافظ صوته جميل، ولكن فى الأغانى الخفيفة فقط..

 

«أما عبدالوهاب فهو فنان لو أراد... ولكنه للأسف أشبه بالمرآة يعكس ما أمامه، وليس ما فى نفسه..

 

«وهو سريع إلى تقليد كل من ينجح فى عالم الفن، لا يفكر فى أن يكون من يقلده من مستواه، أو من غير مستواه».

 

وأسعدنى أن أبدت أم كلثوم رأيها بصراحة فى عبدالوهاب، وهو لا شك سيشعر حينما يقرأ كلامها هذا بأنها لا تهاجمه وإنما هى تعاتبه، وتعبر عن أملها فى أن يتجه بألحانه دائمًا الوجهة السليمة التى تناسب مكانته الفنية الكبيرة...

 

أيام المرض

 

وبدا أن حديثى مع أم كلثوم يشرف على نهايته، فقلت لها وأنا أعود بها إلى قصة حياتها.

 

وأحسسنا يومًا أنك تدفعين لفنك من صحتك.. بان عليك المرض واشتد، وكان لا بد أن تسافرى للعلاج بالخارج، ويوم غادرت بك الطائرة مصر إلى أمريكا تعلقت بها قلوب الناس تدعو لك بالعودة سالمة، فهلا حدثت الناس عن مرضك الذى تعذر علاجه فى مصر؟

 

وقالت أم كلثوم بعد أن سرحت قليلًا:

 

«لم أكن أدفع لفنى من صحتي، بالعكس.. كنت أغنى وأغنى لأنسى المرض وأتغلب عليه..

 

«حقيقة كنت وأنا مريضة أجد فى الغناء راحة كبرى.. وكنت مريضة بالغدة الدرقية، واشتد على المرض حتى وجدتنى عاجزة عن الغناء.

 

«وكان قد مر على مرضى أربعة أعوام وأنا أقاوم، وأصبحت عصبية جدًا، وارتفع نبضى إلى 130 حتى إننى كنت ألهث حينما أرفع السماعة لأرد على التليفون.

 

«وأصبحت أحب الوحدة وأفضلها على أن أرى أصدقائى يتألمون من أجلي... وكثيرًا ما قضيت أياما طويلة لم أر خلالها مخلوقًا.

 

«ورفض الأطباء فى مصر أن يجروا لى جراحة خوفًا على حبال صوتي، وكذلك رفض الأطباء الإنجليز، ولم يبق أمامى سوى أطباء أمريكا، الذين عالجونى بالذرة». وسكتت أم كلثوم، وأحسست بها تسترجع أيام سفرها إلى أمريكا وتتذكر حوادثها، حلوها ومرها، وطال صمتها فقلت لها:

 

فيم تفكرين؟

 

وابتسمت أم كلثوم وقالت:

 

«لقد تذكرت الماضي.. تذكرت أننى وأنا فى الطائرة وهى متجهة إلى أمريكا تعبر بنا المحيط، تملكنى اليأس وهو إحدى الراحتين فنمت وأنا لا يهمنى ماذا يكون المصير الذى يخبئه القدر لي.

 

«ولما عولجت وكنت عائدة بالطائرة إلى مصر ولم أنم... كانت حالى عكس ذلك تمامًا، كنت أتعجل العودة إلى الوطن وكنت أشعر بالخوف أحيانًا لأننى فى طائرة.. كنت سعيدة بشفائى من المرض.. سعيدة بالأصدقاء الذين كانوا يسألون عنى باستمرار..

 

«وكم تمنيت يومئذ لو أن الله وهبنى علمًا أساعد به على شفاء الناس.. وأنا أتساءل عن هذه الاختراعات العظيمة التى يراها العالم اليوم، لماذا لا يتجهون بها إلى ما فيه الخير للناس، بدلًا من التفنن فى توجيهها إلى التدمير.

 

قلت لأم كلثوم أختم الحديث:

 

والآن.. كيف حال صحتك؟

 

وضحكت أم كلثوم مقهقهة وهى تقول ردًا على سؤالي:

 

«قل أعوذ برب الفلق...»

 

ولما غادرت «الفيللا» بعد الساعات اللطيفة التى قضيتها معها كانت كلماتها العفوية ترن فى أذنى فأسمع صوتها الحلو، الذى نحس حلاوته حتى فى كلامها، وتذكرت عبارة غريبة لا يفتأ يرددها زميل لى حينما يتحدث عنها:

 

«عندما تمضى الأيام وندخل التاريخ، سيقول المؤرخون عنا إننا قوم كنا نعيش بمصر فى أيام عاشتها أم كلثوم»!