من أهم الندوات التى شاركت فيها فى معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته السادسة والخمسين التى عُقِدت فى أرض المعارض بالتجمع الخامس، كانت الندوة التى تناولت كتاب الدكتور صلاح سلام: العريش سنوات الحُب والحرب.
كان الحضور كثيفاً، والكتاب يوشك أن يكون من أهم الكُتُب التى صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فى السنة الأخيرة، حيث يقودها الدكتور أحمد بهيى الدين قيادة تؤرخ لميلاد جديد للهيئة باعتبارها دار النشر الأساسية والرئيسية، ليس فى مصر وحدها ولكن فى الوطن العربى كله.
قدمت الندوة المثقفة والإعلامية نسمة شحاتة، وشارك فيها معى علاوة على المؤلف الدكتور صلاح سلام، والدكتور جمال مصطفى سعيد الطبيب والأستاذ الجامعى المعروف، وتحدَّث من الصالة الدكتور جمال شيحة المثقف المصرى الكبير الذى جاء من المنصورة خصيصاً للمشاركة فى هذه الندوة.
وكان بين الحضور الذين تابعوا الندوة إنتصار خليل، الدينامو الذى يقف وراء تحركات بعض المثقفين، والمعرض عموماً هذا العام رُبما كان من أنجح المعارض التى أُقيمت فى تاريخ هذا المعرض المهم الذى أصبح يتصدر كل معارض الكُتُب فى العالم، أجمع، شرقه وغربه، وشماله وجنوبه.
نوستالجيا صلاح سلام
كتب الزميل الإعلامى والصحفى حمدى رزق مقدمة لهذه الطبعة من الكتاب، كان عنوانها: نوستالجيا صلاح سلام. وقال:
- ما بين أيدينا ليس مذكرات بالمعنى الحرفى للمذكرات للصديق الطبيب الدكتور صلاح سلام، ولكن أقرب إلى ذكريات ينطبق عليها ما قاله الشاعر الحزين أحمد رامى فى قصيدته الراقية: ذكريات، وتغنت بها العظيمة كوكب الشرق أم كلثوم، على موسيقى العبقري: رياض السنباطي.
ووصف الكتاب بأنه قصة حُب سيناوى من عيون سيناء لعروسته البهية العريش الصامدة فى وجه الزمان، لأهله وناسه، أحبها حُب ملك عليه قلبه. وترجمه قلمه ولسانه فى أقاصيص ملونة يقينى لايزال بئر عشق سلام، عامرة بالحُب، ولو قضى جُل عُمره يكتب بمداد حُبه، وينهل من بئر قلبه ما ارتوى عشقاً لقمر الصحراء، يُنير ليالى بيوت العريش.
أما الدكتور صلاح سلام فقد كتب:
- كانت أحلامنا تُسابق أعمارنا، ولذلك فإن هذا الكتاب مزيج نادر ما بين الذكريات القديمة والقريبة، وما بين الحاضر الذى يصف أرض سيناء الحبيبة، حيث وُلِدَ ونشأ المؤلف وعاش فيها وتشرَّب حكاياتها وكتبها فى هذا الكتاب الجميل. وهو ليس كتابه الأول عن العريش.
راديو زمان
يكتب المؤلف:
- كان الراديو الكبير الذى يقع فى شباك غرفة البايكة الشتوية التى كنا نأوى إليها شتاءً، حيث تقع فى الناحية القبلية من البيت الكبير المفتوح للهواء البحري. فالبحر لا يبعُد عن بيتنا، فالعريش كانت شريطاً ساحلياً فى ستينيات القرن الماضى، وما أدراك ما الستينيات.
سُمك الحائط لا يقل عن نصف متر. وكانت الشبابيك خشبية ولم يدخل وقتها إلى حضارتنا البدائية ثقافة الشباك الزجاجي. وكان الراديو يشغل كل هذه المسافة عرضاً، ويرتفع أيضاً قُرابة نصف المتر. ويأخذ شكلاً مستطيلاً، وفى شاشته الأمامية مفتاحان كبيران. أحدهما لتحويل المحطات، وهو أقرب للبكرة التى تدور حول نفسها، والآخر للصوت علواً وانخفاضاً. ومن الخلف غطاء به عدة فتحات مصنوعة من خشب مضغوط.
تفاصيل الحياة اليومية
يكتُب صاحب الكتاب:
- عاش جيلنا كل المتناقضات وتطورات العصر من النسخ باليد لكتاب الأضواء فى اللغة العربية الذى كان يأتى لنا مع فوج الصليب الأحمر قادماً من القاهرة، ليأخذ دورته على كل فصول المدرسة، ليقوم كل منا بنسخه إلا إذا جاد الزمان عليه بنسخة أخرى هبطت من السماء.
وهكذا بقية الكتب ونحن تحت الاحتلال الإسرائيلي، وعشنا زمن الطشت والغسالة إلى الأوتوماتيك والدراى كلين، وركبنا القطار الذى كان عدد المتشعلقين ربما يماثل عدد من بداخله. والأتوبيس 44 بشرطة القادم من عين شمس إلى ميدان التحرير. وأنا أنتظره فى شارع ابن سندر تحت شقة أخي. وهو يتهادى من شدة زحامه، ويميل على الجانب الأيسر ويكاد يزحف على الأرض. والبارزون من الأبواب والشبابيك أكثر من ركابه المحشورين كما السردين فى العلبة الحديدية.
ويصف الحال هناك فى تلك البلاد التى لا حد لجمالها، والتى حاربت مصر كلها من أجل استردادها من العدو الصهيونى يكتُب:
- كان هذا فى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، بعد أن دخلت كلية الطب، وعشت فى الستينيات ما وراء البحر فى العريش فى بُقعة هى أقرب للقرية منها إلى المدينة، رغم ما سمعناه عن بعض الضباط الأحرار عبد الناصر والسادات ويوسف صديق وغيرهم. فقد عاش من حياته العسكرية فيها أو على مقربة منها. ولكن فيما يبدو اعتبروها أرض حروب، فيجب أن تظل كما هي.
أيام تلك الحروب
كتابة صلاح سلام تُطل منها الحروب فى كل فصول كتابه المهم. يكتُب:
- بعد انتهاء حرب يونيو 1967 وانحسار المقاومة بشكلٍ كبير، بدأ العدو الإسرائيلى فى تقوية خطوطه الأمامية على الضفة الشرقية فى قناة السويس وبناء خط بارليف، ونظراً لما كان يمتلكه من التفوق الجوى بعد أن دمَّر الكم الأكبر من مطاراتنا بضربته الاستباقية. فقد دان له ما يريد.
وبدأ جنود الاحتلال فى خلع قُضبان السكة الحديد الواصلة من العريش إلى القنطرة. والفلنكات الخشبية لاستخدامها فى سقف خنادقهم. ولكى تكون تحركاته ومواقعه سرية فى شرق القناة فقد قرر تهجير سكان القنطرة شرق مدينة العريش.
ويحكى المؤلف تفاصيل تؤكد عدوانية وبربرية هذا العدو الصهيونى الذى انتصر جيشنا العظيم عليه واسترد لنا سيناء وعمَّرها لأهلها الذين كانوا قد هجروها؛ لتُصبِح قِبلة لكل المصريين ولكل زوار مصر من جميع أنحاء العالم.
«طاسة الخضَّة»
يكتُب المؤلف بقلم الطبيب الذى يسكن بداخله:
- لم تكن الأمراض النفسية مُدرجة على قائمة الطب فى سيناء إلا أواخر القرن الماضي. فالمريض النفسى هو من فقد عقله فقط “المجنون”. وبناء عليه كان التشخيص إما ملبوساً أو أصابه مس من الجِن، أو مخاوى أو متزوج جِنيَّة، أو أصيب بحالة من الفزع أو الهلع، أو معمول له عمل. وفى هذه الرقعة الأخيرة حدِّث ولا حرج. فمن الطواف بالشيوخ إلى قارئات الفنجان، إلى ذبح القرابين وزيارة الأولياء وطريق لا ينتهي. وتعددت أشكال العلاج.
لكننى كنت أرى طوقاً نحاسياً ذا رقبة علوية وقاعدة، وتوجد فى نهاية الرقبة ثقوب مُثبَّت فيها حلقات رقبة من النحاس أكبر من العملة المعدنية بقليل. وكانت أمى الحاجة وهيبة “ياسمين” تحتفظ بها فى كيس من القماش وتضعها داخل الخزانة حيث تحتفظ بأكواز “جمع كوز” وكان يُسمى المجمع. ربما لأنه يجمع محتويات مهمة.
فى هذه الخبيئة النحاسية كانت تُسمى طاسة الخضَّة. ومن يستعيرها يضعها فى الماء طول الليل، ثم يستحم بهذا الماء ليزول عنه الأذى الذى أصابه. والذى نتج عن الخضَّة كما كانوا يعتقدون.
ويستطرد المؤلف كثيراً فيما كان يُطلق عليه الطب الشعبي، وهو موروث ثقافى موجود فى كل أنحاء مصر مع اختلافات بسيطة، لتُعطى كل مكان بصمته وخصوصيته. لكن السواد الأعظم فى علم الخُرافات الطبيَّة كان فى علاج الأمراض النفسية التى يعيش على ريعها نفر من الدجالين والمشعوذين، وبعض من يسمون أنفسهم الشيوخ. وبعد أن يكون المريض استُهلِك نفسياً ومادياً ومعنوياً يفكرون فى الذهاب إلى طبيب نفسي. فيرفض المريض لأنه لا يعتقد أنه مجنون.
إنه كتاب جميل مليء بالتفاصيل، عندما كنت أقرؤه كنت أشعر بالندم الشديد لأن الدكتور جمال حمدان «4 فبراير 1928– 17 أبريل 1993» رحل عن عالمنا قبل أن يُصدِر الدكتور صلاح سلام موسوعته الفريدة عن سيناء، وهذا الكتاب يُمثِّل جزءاً منها. وأعتقد أنه مازال لديه الكثير يُمكن أن يُضيفه. فهو يُحب الطب، ولكن قبل الطب وبعده يُحب الكتابة ويُخلص لها إخلاصاً غير عادى.
شكراً لمعرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته السادسة والخمسين، الذى أقام ندوة لمناقشة هذا الكتاب.