يعد الدكتور أحمد عطية عبدالحليم، أستاذ الفلسفة العربية والإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة، أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين المصريين.. وهو صاحب مؤلفات شتى، تناولت مختلف فروع المعرفة، خاصة الفكر العربى المعاصر، وعلاقته بالغرب.. ليس ذلك فحسب، بل أسهم فى خلق بيئة فلسفية عربية إسلامية، تناهز نظيرتها الغربية..
فى هذا الحوار الطويل الشيق، تناولنا مع د. عطية عبدالحليم، ظاهرة تعاملنا مع الإسلام كـ «دين سماوى»، وسألناه: «هل نحن المسلمين ظلمنا هذا الدين الحنيف معنا، خاصة فى ظل تأويلات متطرفة خطفت الإسلام كدين ووضعته فى خندق مغلق مظلم.. سألناه عن هويتنا القومية، عن التطرف يمينًا، والإلحاد يسارًا، طرحنا القضايا القديمة المتجددة.. بديهيًا سألناه عن القضية الفلسطينية، وعربدة الصهاينة، وكيف تناول مفكرو الغرب وفلاسفتهم قضية اليهود فى أوروبا، وكان من الطبيعى أن نسأله عن مسار حياته الأكاديمية والمهنية.. فالأسئلة لا تنتهي، والإجابات جاءت واضحة شفافة رصينة..
بداية، شهد عالمنا العربى المعاصر ومنذ عقود مضت، تفسيرات متطرفة للإسلام، وجماعات استدعت عداء الغرب والعالم للمسلمين.. برأيك هل ظلمنا الإسلام معنا.. وبدلا من أن يكون إسلامنا قوة بناء، حوله بعض الجهلاء لقوة هدم؟!
اسمح لى أن أطرح أولًا السؤال الأخطر، لأننا فى تحد كبير يتمثل فى سؤال، فحواه (هل الإسلام مظلوم معنا بسبب تأويلنا، أم بسبب جهل للفهم الصحيح، خاصة أننا أصبحنا بين التطرف يمينًا، والإلحاد يسارًا).
الإجابة هنا تكمن فى طرق البشر لفهم الدين، والمبادئ الإسلامية الأساسية الثابتة، وكيفية أن تتوافق مع العصر الحالى، وتكون صالحة لكل زمان ومكان، وتستطيع أن تقدم حلولا للقضايا التى يحياها الإنسان المعاصر.
فالمجتمع ككل، إسلامى وغير ذلك، يعيش مشكلات وإشكاليات وأزمات وقضايا وصراعات، تمثل تحديات للأديان جميعًا، تحديات لكافة المذاهب والأيديولوجيات المختلفة.
نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: (قضايا التلوث والبيئة والنفايات بما فيها النووية.. نقص الطاقة.. العقم والإجهاض والإنجاب الصناعى والقتل الرحيم.. التجارة والربا والمراهنات.. الحرب والإبادة الإنسانية.. الأسرة الطبيعية متعددة الجنسين أو الأسرة من جنس واحد.. وغير ذلك الكثير.. كلها قضايا تواجه رجال الدين، وأصحاب الفكر الغربى المعاصر.. ومن هنا تعددت المواقف من الدين، تعدد بين طوائف مختلفة داخل الدين الواحد، وتفسيرات متنوعة، فى اليهودية، والمسيحية، والإسلام، وكذلك تعددت المواقف من خارج الأديان السماوية.
هنا نجد أننا إزاء كثير من الانقسامات، كثير من التحديات والمشاكل التى تحتاج حلًا، والحقيقة أن هذا الانقسام بين الأديان المختلفة، ليست من الدين الحق، فالأديان كلها لله تعالى، وإلى الله عز وجل، وكلنا خلقنا من أجل أن نعبد إلها واحدا.. لذا، لما الاختلاف فيما بيننا، والوحى الإلهى واحد، والدين واحد؟!.
..الوحى واحد، ولكن كل مجتمع استقبله بطريقته الخاصة، بحسب تاريخه وتقاليده وعاداته.. فالوحى نزل للبشرية جميعًا فى مجتمعات مختلفة، كل أمة تلقت الوحى وفق معتقداته، ومن هنا وجدنا التنوع والتعدد فى الأشكال المختلفة من الدين الحنيف، الذى جاء مع الخليل إبراهيم عليه السلام..
ومن هنا لا تتعجب إن كان الوحى الذى نزل فى جزيرة العرب، يختلف عما تلقته الأمم غير الإسلامية.. فمثلًا فى «فارس القديمة» أو «الأندلس»، ستجد ديانات وفلسفات متعددة، تلقى أهلها الدين بمعتقدات تختلف عما تلقاه أهل جزيرة العرب، ونفس هذا الاختلاف، ستجده بين الأتراك، والأكراد.
ومع ذلك هناك فهم واحد ومبادئ أساسية فى كل من اليهودية والمسيحية والإسلام، فهو دين واحد ذو تفسيرات ترتبط بالبيئة التى نزل فيها الدين.. المصريون - على سبيل المثال، استقبلوا الإسلام تقبلًا معتدلًا، عكس مجتمعات أخرى.
وهنا يجب أن نلجأ إلى القلب، والدين فى حدود العقل، فهما الفيصل، لأن الدين جاء للإنسان ولسعادة البشر، وداخل كل قلب.. ومن هنا نلخص ما سبق قوله: (عليك أن تعود إلى عقلك وتستفتى قلبك، فالقلب هو الطريق إلى الله عن طريق الدين فى حدود العقل.
التطرف والإلحاد «ضحايا» الفهم الخاطئ لتفسير الدين
من هنا نستطيع أن نفهم ماهية التطرف، على أنه محاولة مغلقة لتفسير وفهم الدين.. أليس كذلك؟
نعم، ومن هنا نستطيع أن نفهم إجابة السؤال المتعلق بالمراوحة بين التطرف يمينًا، والإلحاد يسارًا، فالتطرف ينشأ عن هذا الاختلاف التاريخى والاجتماعى فى تقبل الوعى بالدين، بينما ينشأ الإلحاد لأسباب متعددة..
ونستطرد القول هنا، إن الكثير ممن نعتبرهم ملحدين، هم أكثر البشر إيمانًا لانشغالهم بالله عز وجل، وسؤالهم عن إمكانية وجود الله فى هذا العالم المليء بالشر والفقر والمرض والحروب.. فكبار الملحدين منشغلون بقضية وجود الله جل جلاله، خاصة أن الخالق عندهم، هو الرحمة والعدل والمساواة بين البشر، ولأن هذه القيم أصبحت غائبة فى عالم اليوم، فإنهم يتساءلون: كيف يكون الله موجودًا فى ظل قتل وإبادة آلاف الفلسطينيين من أطفال وأمهات، كيف يكون موجودًا فى ظل الحروب التى لا معنى لها؟..
كل هذا يجعلنا نسأل: من هو الملحد ومن المؤمن؟.. ويصبح السؤال بلا جدوى، لأن الحكم لله وحده، ولذلك أقول إن القلب الإنساني، هو طريقنا إلى الله تعالى، وأقول إن العقل هو المعيار للدليل على وجود الله.. وأن علينا أن نجعل العقل وسيلة وأساسا للدين، وأساسًا للمعرفة الدينية، وهو السبيل لإيجاد هذه الصلة بيننا وبين الله، وهذا كلام مهم وضرورى لتجاوز التمزق والفرقة بين المذاهب الإسلامية المختلفة، وكذلك لتجاوز الانقسام بين الأديان المختلفة، الذى هو المشكلة الأكبر أمامنا جميعًا.
فالدين نشأ فى أرضنا ومنطقتنا، سواء التوحيد لدى المصريين القدماء، أو الديانة الإبراهيمية فى جزيرة العرب، أو اليهودية أو المسيحية، ولا ننسى أن موسى عليه السلام جاء إلى مصر، ونزل عليه الدين، فاليهودية نشأت فى مصر، فى سيناء، وفى فلسطين، وليست ملكا للغرب، ليست ملكا لأوروبا، كما قال سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: (نحن أولى بموسى منهم).. فكم لاقى سيدنا موسى من تعنت اليهود، الكثير الكثير..
فإذا كانت الأوطان لنا، وكل منا له وطنه، فالدين لله، الدين واحد، الدين هو العقل، هو السبيل إلى الله، وعلينا أن نؤكد على هذه الصلة بين الوحى والإله.. وبهذا الفهم فنحن المسلمين أقرب لليهودية من أهلها، ولذلك نجد كثيرًا من الفلاسفة اليهود أكثر إحساسا بقضايانا وبالقضية الفلسطينية من كثير ممن يدعون التدين !
أقول أخيرًا فى هذا الشأن، إن التطرف يمينًا والإلحاد يسارًا، جاءا بفعل عوامل متعددة ليست من الدين فى شيء.. وأن الكثير من أهل التمكين، أو أهل التكوين، لا يوجد حوار بينهما للوصول إلى الأسس والمبادئ العامة التى على الدين أن يواجه بها تحديات العصر، لأن كلا منهما - ربما، كان بعيدًا عن منهج الفهم والتفسير والتأويل.. ويجب أن يكون الفهم والتحليل هو المنهج الأساسى للحوار بين فريقى التمكين والتكوين..
فكما أن الدين هو الصلة بيننا وبين الإله الواحد الأحد، يجب علينا أيضًا أن يكون الحوار ومنهج الفهم والتفسير هو الوسيلة بيننا، وبين الطوائف المختلفة داخل ديننا، وبيننا وبين أتباع الأديان الأخرى، فالإنسان خلق ووجد على الأرض ليكون فى خدمة الآخرين، لا إبادتهم أو طردهم.. هذا هو جوهر الدين الحقيقي، وما غير ذلك، نقول فيه: (لكم دينكم ولى دين).
هويتنا القومية ما بين الانفتاح والإغلاق
من هنا نسأل: ما هويتنا القومية، هل شرقية أم ماضوية أم عصرية أم خليط هجين من كل ذلك؟
إن الحديث عن الهوية لا يتم إلا من خلال الحديث عن الغرب، وكما يرى الفكر الفرنسى المعاصر، أن الأنا لا تتحدد إلا من خلال الآخر، ومن هنا نشأت الإشكالية التى حكمت الفكر العربى الحديث، وهى الأصالة والمعاصرة، أو التراث والتجديد..
والحقيقة أن هذه الإشكالية تحتاج لإعادة نظر لعدة أساب، أولها: أن الحديث عن الهوية والمعاصرة حديث ثنائى لا ينتج عنه إلا حلول ثلاثة مهددة سلفًا، إما أن تكون مع الهوية، أو مع المعاصرة، أو توفق بينهما، فهذا ما قدمه الفكر العربى منذ قرنين من الزمان إلى يومنا هذا..
وهذا الاستقطاب مع الضعف، يجعلنا لا نتقدم قيد أنملة، واشتغل كثير من المفكرين والفلاسفة للإجابة عن سؤال: من نحن؟.. وقد طرحت مجلة (الهلال) هذا التساؤل على عدد من المفكرين فى عدد يناير سنة 1927م.. فالحديث عن النهضة والتنوير هو حديث فى الوعى العربي، ويمكن أن نجد جذوره عند جيل الرواد من رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وفرانسيس مراج.. ثم فى جيل تالٍ بعد ذلك، ضم أمثال محمد عبده، ولطفى السيد.. ثم عند الأجيال التالية لهم..
ونحن نرتكب خطأ معرفيًا، عندما نؤكد أن الهوية هى العودة للماضي، والحقيقة أن الهوية لا تتحدد من خلال الأجداد، ولكن من الأفعال، فقد نجد فردًا من أسرة عادية، ولكنه بعصاميته وكفاحه أسس لنفسه أصلًا جديدًا.. فالهوية ليست مسألة جاهزة، ولكنها ما نصنعه لأنفسنا، وهناك هويات مغلقة تتبناها الجماعات الدينية المختلفة فى كل دين، وهناك الهويات المفتوحة التى علينا أن نسعى لتبنيها لبناء هويتنا..
القضية الفلسطينية تدفع فاتورة هتلر
ماذا عن الموقف الفكرى من القضية الفلسطينية، وما يتعرض له شعب أعزل من حرب إبادة على يد الصهاينة، كيف تنظر لهذا الصراع على ضوء قراءتك للفكر الغربي؟
هذا السؤال المتعلق بالموقف الفكرى من القضية الفلسطينية، ومن العدو الإسرائيلى أعتبره سؤال الأسئلة اليوم، وهو السؤال بالألف واللام، وهو الإشكالية الأساسية التى يواجهها العالم.. وبالتالى الحديث عن الموقف الفكرى نستطيع تحديده على ضوء الموقف الفلسفى من المفكرين والفلاسفة فى العالم العربى منذ التواجد الصهيونى على الأرض العربية، وقبل إعلان الدولة العبرية، ومنذ كان هناك توافق عالمى على الاعتراف بها فورًا، ومنذ إعلان قيام دولتهم المزعومة، وتحدثت الأمم المتحدة عن وطنين، وطن فلسطيني، وآخر إسرائيلي..
ففى هذا المقام، كان هناك عدد كبير من اليهود ضد وجود وإقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين دون إفساح المجال لأصحاب الأرض الأصليين من أجل إعلان دولتهم العربية..
وكان هناك أيضًا ملايين من اليهود، يرون - أنه من الخير، بقاء اليهود فى العالم أفضل من تجمعهم فى هذا الكيان الجديد، والذى سيكون محاطًا بالأعداء ومليئا بالصراعات، أذكر منهم (أينشتاين، مارتن بوبر، آن أرند، الفيلسوفة اليهودية الأمريكية بودى باتلر، التى تقود معركة كبرى فى المقاطعة الأكاديمية للجامعات اليهودية.. وكذلك اليهودى الاسترالى مارسيليو، الذى ألف كتابات عن الاحتلال الاقتصادى لفلسطين، وكتابه المهم عما بعد إسرائيل، ودعوته لوطن واحد يجتمع فيه المعتدلين من اليهود والفلسطينيين.
ولكن الغرب اهتموا بالفكر المعادى للعرب والمؤيد للصهاينة، وتبعناهم نحن العرب فى هذا الموقف، فلم ندرك، ولم نتناول، ولم نبحث، ولم نشير إلى دراسات (جون روز) المتعددة، وموقفه المؤثر الذى عاد إليه واستخدمه ووظفه الصهاينة فى تعاملهم مع الفلسطينيين، وتوقف عند جهوده عدد كبير من الفلاسفة المؤيدين للحق الفلسطيني، وفى الصدارة منهم مارسيليو سيبير يفيسكي.
إضافة إلى ما سبق، علينا أن نشير إلى عدد من العرب، منهم المخرج السينمائى صبحى الزبيدى، الذى استخدم أفكار (جون روز) فى التأكيد على أهمية الخيال والذاكرة فى الحفاظ على الوطن وصورته، وعلينا أن نشير إلى موقف آخر لفلاسفة أوروبيين تعاملوا على أن الدولة الصهيونية هى دولة تحرر وطنى، بينما العرب هم أحفاد هتلر، ومعادون للسامية!!.
هذا الموقف المعادى للعرب ظهر مرة أخرى عند الفيلسوف الألمانى هابرماس، الذى عرفه القراء العرب بعد ترجمة أعماله، خاصة فيما كتبه عن أخلاق الحوار، والذى جعله أساس التعامل، وأبعد عنه الفلسطينيين، وأصدر بيانه للتضامن مع اليهود، وأيدهم فى غزوهم وقتلهم للمدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء، وبرر حق إسرائيل فى إبادتهم، وهذا موقف تبريرى لما فعله الألمان مع اليهود، والذى يدفع ثمنه الآن شعب آخر، هو فلسطين، فما ذنب شعبنا الشقيق فى اضطهاد اليهود على يد الألمان؟!.
وأنا أسعى لدراسة الوعى الأوروبى المعاصر، واللاوعى الغربى الذى يقف مع اليهود، بالتفصيل فى كتابى القادم عن (فلسطين والفلسفة، من كونجس بيرج إلى قدس بيري).
العولمة وتوحش الغرب والهوية القومية
هل نجحت العولمة فى اكتساح الهويات الوطنية، أم أن عالمنا يشهد عودة للهويات، ونعيش فى عالم سائل ومتحرك وسريع التغيير؟
سؤالك عن عصر العولمة ومدى اكتساحها للهويات القومية والوطنية، أم أن العالم يتحرك وفى حالة سيولة.. الحقيقة أن كلا القولين صائب، فتيار العولمة نجح فى اكتساح الهويات، كما أن العالم فى حالة سيولة وحركة.. وعالمنا اليوم هو عالم التقنية، عالم الاتصالات، عالم ما بعد الحداثة..
فرغم حرص شعوب كثيرة فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية على هوياتها، إلا أن الغرب لا يزال هو المثال والنموذج والقدوة، فاليوم هو غرب الهيمنة والسيطرة، غرب الرأسمالية المتوحشة، ورغم ذلك هناك من يتحدث عن عصر ما بعد الحداثة، أو الحداثة المستنيرة، أو المظلمة.. فتحدثت «جاكلين روس» عن هذا العالم باعتباره غير مستقر مع زلزلة المجتمعات، ما يعنى سيطرة العدمية..
هنا، يجب أن نميز بين تيار فلسفى يتحدث عما بعد الحداثة من فرنسيين وغيرهم، وعدد آخر يتحدث عن الحداثة وأهمية العلم والدولة، وتيار (مدرسة فرانكفورت)، وهو تيار المدرسة النقدية الذى يسعى للانتقال من مفهوم الدولة القطرية إلى ما بعد الدولة القطرية، ويرى فى نموذج الولايات المتحدة الأمريكية أنه النموذج الصواب، وعلى أوروبا أن تحذو حذوه، وعلى أوروبا دعم فكرة (الاتحاد الأوروبى) فى مواجهة العربدة والهيمنة الأمريكية، وفى مواجهة الدول العملاقة كذلك، خاصة فى آسيا مثل الصين والهند، وربما اليابان.
أيضًا وجدنا أن الاتجاهات القومية فى كل من إفريقيا وأمريكا اللاتينية بدأت تدعو بوضوح إلى درأ أخطار الاستعمار والرأسمالية، وظهر بقوة (تيار ما بعد الاستعمار)، وهو تيار للعرب فيه نصيب وإسهام كبير، وعلينا أن ندعم هذا الموقف فى التعامل مع الهيمنة الغربية.
«مسيرتي» تتلخص فى «أوراق فلسفية»
أخيرًا، حدثنا عن مسيرتك الفكرية، كيف بدأت، ما أبرز تحولاتك، وثمار إنتاجك الفلسفي؟
الحديث عن حياتى يبدأ من التحاقى بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وكان نظام التعليم - آنذاك، يمر بمرحلتين، فى السنة الأولى درسنا كل المواد من لغة عربية وتاريخ قديم ووسيط ومعاصر وجغرافيا وفلسفة ولغة إنجليزية، وتعلمنا على يد أساتذة كبار مثل رشاد رشدى فى اللغة الإنجليزية، محمد غلاب فى الجغرافيا، سعيد عبدالفتاح عاشور فى التاريخ، عبد اللطيف أحمد علي، وآخرون..
وكانت الحيرة الأولى، هل أختار الدراسات اليونانية واللاتينية، أم أختار الفلسفة، فالأخيرة هى عقل الشعب اليوناني، والدراسات اليونانية هى وجدانه، فاخترت الفلسفة وحظيت بأساتذة كبار، مثل الدكتور إبراهيم بيومى مدكور، رئيس مجمع اللغة العربية، والدكتور توفيق الطويل رائد الدراسات الأخلاقية فى الفكر العربي، ودرست على يد الدكتور أبو الوفا التفتازانى نائب رئيس جامعة القاهرة - وقتها - وشيخ مشايخ الطرق الصوفية، ودرست أيضًا تحت يد الدكتور عبد الغفار مكاوي، والدكتورة أميرة حلمى مطر فى الفلسفة اليونانية وعلم الجمال، وكان اتجاهى وميلى إلى أستاذى الذى أعتز به هو الدكتور يحيى هويدى، الذى أشرف على رسالتى لنيل درجتى الماجستير والدكتوراه، ود. توفيق الطويل الذى عملت معه معيدًا فور تخرجي.. وكانت مادة الأخلاق، هى الأفضل لي، وكنت أميل إليها بشدة.
وأستطيع أن أقول إننى شغفت بمحاور ثلاثة، هي: أولًا تخصصى فى الفلسفة الحديثة والمعاصرة، خاصة فيما يتعلق بالأخلاق والقيم.. والاهتمام الثانى يدور حول الفلسفة العربية والإسلامية، وكذلك علاقتها بالفلسفة اليونانية.. ثم ثالثا الاهتمام بالفكر العربى المعاصر، الذى شغلنى كثيرًا.
ومن هنا اتجهت إلى عملين مهمين: الأول، إصدار مجموعة من الكتب حول أهم أعلام الفكر العربى المعاصر.. ثانيًا، شغلت بإصدار مجلة أوراق فلسفية، التى تتناول قضايا هذا الشأن، ونحتفل هذا العام باليوبيل الفضى لإصدارها، فقد أصدرنا العدد الأول منها سنة 2000م، وكان آنذاك بمناسبة مرور مائة عام على الفيلسوف الألمانى (نيتشه).
والخلاصة أننى شغلت بالفكر العربى المعاصر، وعلاقته بالفكر الأوروبى والغربي، وتياراته المختلفة.. وأهتم بوجه خاص بثلاثة أعمال: الأولى، موسوعة الفلاسفة العرب المعاصرين فى أربعة أجزاء، يتجاوز كل مجلد منها 800 صفحة.. أما العمل الثانى، فهو الموسوعة العربية للنظريات الأخلاقية، وصدرت فى مجلدات أربعة، وهناك مجلد خامس يدور حول الفلسفة الأخلاقية الإفريقية، ومعظمه ترجمات عن دراسات إفريقية.. والعمل الثالث هو إصدار ثلاثة مجلدات للتعريف بالفلسفة الإفريقية، وإذا أضفنا المجلد السابق، يصبح لدينا أربعة مجلدات، وهذه الإصدارات هى الأولى من نوعها باللغة العربية..
وهذا ما دعانى لتقديم اقتراح بدبلوم فى جامعة القاهرة تتعاون فيه كلية الدراسات الإفريقية مع قسم الفلسفة بآداب القاهرة، وهذا التخصص جارٍ اعتماده، بحيث يفيد كل متخصص فى الشأن الإفريقي، سواء دبلوماسيا أو مثقفا أو أكاديميا..
كما حرصت على تقديم مراجعة شاملة للأجيال العربية المختلفة بتقديم التيارات الفلسفية الغربية، مثل تقديم الفلسفة المثالية عند د. توفيق الطويل، ود. عثمان أمين.. والفلسفة الوجودية عند د. عبد الرحمن بدوى.. والوضعية المنطقية عند د. زكى نجيب محمود، وفلسفات الحداثة، وما بعد الحداثة، وبعد عام 1967 قدمنا مرحلة ثانية من المشاريع الفلسفية العربية المشتركة، بين مصر والمغرب، وغيرها، لدى كل من: د. محمد عابد الجابرى، د. محمد أركون، د. حسين مروة، د. الطيب تيجيني، د. حسن حنفى.. كذلك كل من: نصيف نصار فى لبنان، وهو من أبرز الفلاسفة العرب المعاصرين، ولا تقل جهوده عن جهود د. فؤاد زكريا فى مصر، والذى يطيب لى أن أصفه بالفيلسوف، بالألف واللام، كذلك الفيلسوف المغربى محمد عزيز الحبابي..
وحاليًا أقوم مع عدد من الزملاء بمراجعة القراءات العربية الفلسفية، والإسلامية، والغربية، وكان كتابى عن (الديكارتية فى الفكر العربى المعاصر)، أول خطوة فى هذا الاتجاه، ثم طرحت فكرة القراءة والتلقى على مستويات متعددة، لأمثال: (مايرلبونتيه، بيرجسون، ونيتشه)..
ثم أسست لمرحلة أسميتها (من التأسيس إلى التجاوز)، وهى تقوم على مفهومين: الأول، الانتقال من مفهوم السيد والعبد، أو من شراء السيد والعبد، إلى جدل الاعتراف المتبادل، فبدلًا من صراعهما، يجرى الاعتراف المتبادل بينهما، ولخصت ذلك فى عبارة: (من التلقى إلى اللقاء، ومن الاستضافة إلى الإضافة) فى الفلسفة، ليس نقلا للتصورات والمفاهيم عن الغرب، بل إبداع للمفاهيم والتصورات، وهو ما نحن بحاجة إليه، وهذا لن يتم بدون تقديم نقد جذرى، أطلق عليه (النقد الثلاثي)..
لقد قدم المفكر المغربى القدير عبد الكبير الخطيبي، كتابًا مهمًا تحت عنوان (النقد المزدوج)، وينصب علينا نحن والغرب، وأضفت أنا نقدًا ثالثًا ينصب على واقعنا وقضايانا، وهذا استلهام من دراسة السينما، وما يسمى (المونتاج المزدوج)، والذى يصور حدثين يحدثان فى وقت واحد، وينقل من مشهد أول لمشهد ثان، وأردت أن أطوره لمونتاج ثلاثي، لدراسة تراثنا القديم، ودراسة الغرب، ودراسة واقعنا نحن..
ومن هنا نستطيع كعرب أن نقدم إسهامًا فى الفكر المعاصر، ونشارك فيما يجرى اليوم فى العالم، ولا نكتفى باستهلاك المفاهيم والتيارات والتصورات الغربية، وهذا التيار الذى ندعو إليه يندرج ضمن الفلسفة المقارنة.. ولقد بدأت بكتاب (نحن)، ثم كتاب (نحن وهيجل)، من صراع السيد والعبد، إلى الاعتراف المتبادل، هذه هى المرحلة الأولى، ثم نسعى لتقديم الفلسفة الموازية التى نقرأ فيها تراثنا القديم، والفكر الغربى بناء على واقعنا، وهناك محاولتان فى طريقهما للنشر الآن: الأولى أتساءل فيها عن وجود فيمولوجيا أخلاقية عربية إسلامية، والثانى عن نظرية الصمت، وأفعال الص
مت، كما وردت لدى علماء المسلمين الأوائل، خاصة لدى الحافظ ابن أبى الدنيا فى كتابه (الصمت وأخلاق اللسان).