فى ظل تخلى بعض الدول عن دعم السودان ورأب الصدع الذى يهدد بقاءه، وسعى دول أخرى لتذكية الصراع «السودانى _ السودانى»، تبقى مصر الدولة الأكثر إخلاصًا فى سعيها للحفاظ على هذا البلد الشقيق، لذا يحظى السودان دائمًا بأولوية قصوى فى تحركات القيادة السياسية والدبلوماسية المصرية، ومنذ اندلاع الأزمة السودانية لم تتوقف مصر عن مساعدة الأشقاء السودانيين، ويؤكد ذلك اللقاءات المشتركة للرئيس السيسى مع الفريق البرهان وعدد من القادة الأفارقة، والزيارات المتكررة للسودان، والدعم السياسى على مستوى كافة المحافل القارية والدولية، وتأتى الزيارة الأخيرة للدكتور بدر عبدالعاطى وزير الخارجية إلى بورتوسودان وهى الجولة الثانية له فى أقل من شهر، لتعكس مدى الرغبة المصرية فى استقرار السودان والحفاظ عليه.
السفير ياسر سرور، مساعد وزير الخارجية، مدير إدارة السودان وجنوب السودان، تحدث فى حواره لـ«المصور» عن طبيعة العلاقات «المصرية _ السودانية»، وما بذلته الدولة المصرية من جهود لدعم استقرار السودان واستعادة نشاطه فى الاتحاد الإفريقي، بالإضافة إلى طبيعة المساعدات التى تقدمها مصر للأشقاء السودانيين، ومدى التوافق حول قضايا الأمن المائى، وغيرها الكثير من التفاصيل فى الحوار التالى:
بداية.. نُريد أن نوضح ما أهمية السودان لمصر، وما الثوابت المصرية فى التعامل مع الملف السودانى؟
العلاقات «المصرية _ السودانية»، تاريخيّة عميقة صامدة عبر الزمان أمام التحديات المختلفة، كما أنها متجذرة فى عمق الدولتين، فهى علاقات أزلية متشعبة فى العديد من المجالات، ويدعم هذه العلاقات أن البلدين يجرى فيهما شريان واحد كأساس للحياة متمثلاً فى نهر النيل، كما أن هناك صلة نسب ومصاهرة، وهو ما يجعلنا نصف العلاقة بين مصر والسودان بـ«الخاصة جدًا»، بالإضافة إلى ذلك فإن هذه الوشائج والروابط العميقة تحتم علينا التنسيق المشترك فى العديد من الملفات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك.
انطلاقًا من زيارة د. بدر عبدالعاطى الأخيرة للسودان وهى الثانية خلال فترة قصيرة.. ما أهمية الزيارة خاصة لقائه مع الفريق البرهان، وما دلالة التوقيت؟
أجرى «د. عبدالعاطي» زيارتين إلى بورتسودان، الأولى فى 13 ديسمبر 2023 والثانية فى 15 يناير 2025، وقد مثلت الزيارتان رسالة دعم من مصر إلى السودان الشقيق، وأود الإشارة هنا إلى أن زيارتين خلال فترة قصيرة لا تتعدى شهرين، بالإضافة إلى زيارة وزير خارجية السودان للقاهرة خلال نفس الفترة دليل قاطع على مدى عمق العلاقات، يؤكد العزم على تعزيز التنسيق فيما بين الدولتين الشقيقتين، هذه اللقاءات المشتركة تناولت العديد من الملفات، منها استعراض الجهود المصرية الرامية إلى تحقيق الاستقرار فى السودان الشقيق ومساعدته للخروج من محنته، كما تم تناول نتائج مشاركة مصر فى المبادرات المرتبطة بالملف السودانى، بالإضافة بحث سبل تعزيز التنسيق فى ملف العلاقات الثنائية وتطويرها إلى المستوى الذى يرقى إلى طموحات الشعبين الشقيقين، أما التوقيت فليست له دلالة محددة لأن مصر والسودان كما ذكرت بينهما تاريخ طويل من التآخى والتعاون المشترك.
إلى أين انتهت الجهود المصرية الهادفة لاستعادة نشاط السودان فى الاتحاد الإفريقى؟
نحن نكن كل التقدير للاتحاد الإفريقى كمنظمة عريقة نعتز جميعًا بعضويتنا فيها، ودائمًا ما تسعى مصر إلى دعم الاتحاد الإفريقى ودعم دوره وتعزيزه، وفيما يتعلق بدور الاتحاد الإفريقى إزاء الأزمة فى السودان، فإننى أود الإشادة بالزيارة الناجحة بالغة الأهمية التى قام بها مجلس السلم والأمن للاتحاد الإفريقى إلى بورتسودان فى أكتوبر 2024 فى مستهل رئاسة مصر للمجلس لشهر أكتوبر، وذلك فى ضوء رؤيتنا لأهمية استعادة التواصل بين السودان والاتحاد الإفريقى، وفى تقديرنا أتاحت هذه الزيارة التى تُعد الأولى من نوعها من جانب الاتحاد الإفريقى منذ اندلاع الحرب فى السودان الشقيق، التعرف على حقيقة الأوضاع فى السودان والنظر فى تغيير تعاطى الاتحاد مع الوضع فى السودان وجعله أكثر تفاعلاً، كما أن قمة الاتحاد الإفريقى المقبلة ستتناول بلا شك الوضع فى السودان الشقيق.
أين يقع ترتيب الملف السودانى بين ملفات الحقيبة الدبلوماسية المصرية؟
السودان ليس مجرد ملف تتعامل معه الدولة المصرية، وأود التأكيد على أن السودان الشقيق منذ قديم الأزل يحتل أولوية خاصة على المستويين الرسمى والشعبى، وهناك اهتمام بالغ ومتبادل من جانب القيادتين فى البلدين لتطوير وتعزيز العلاقات البينية، وأولوية السودان الشقيق تعود لاعتبارات كثيرة تاريخيّة وثقافية وشعبية واقتصادية وجغرافية، ولا ننسى أن السودان هو الظهير الجنوبى للدولة المصرية.
البعض يشكك فى نزاهة وتأثير الدور المصرى فى السودان.. كيف تدعم القاهرة الخرطوم، إقليميًا ودوليًا؟
أقول لمن يشكك فى نزاهة الدور المصرى ماذا فعلتم من أجل السودان؟!.. إن الموقف المصرى النزيه والأمين والمخلص تجاه السودان محل تقدير بالغ من جانب المجتمع الدولى ومن جانب السودانيين أنفسهم، والخطوات التى تتخذها مصر من أجل تحقيق الاستقرار فى السودان شاهدة على ذلك، والاتصالات التى يجريها الرئيس عبدالفتاح السيسى مع شقيقه الرئيس «البرهان»، بالإضافة إلى الاتصالات التى يقوم بها وزير الخارجية مع نظرائه بشأن السودان، شاهدة على النوايا الطيبة لدى مصر تجاه السودان، ودليل الحرص البالغ على مساعدة هذا البلد الشقيق للخروج من محنته، وهنا علينا أن نوضح عددًا من الخطوات التى قامت بها مصر فى هذا الإطار، والتى تتمثل فى انعقاد قمة دول الجوار فى مصر فى يوليو 2023، بالإضافة إلى استضافة مصر لاجتماع القوى المدنية والسياسية فى يوليو 2024 والذى نجح فى جمع القيادات والقوى المدنية السودانية المختلفة، فضلاً عن زيارة مجلس السلم والأمن للاتحاد الإفريقى تحت الرئاسة المصرية والمشاركة المصرية الفعالة فى كافة المبادرات الرامية لتحقيق الاستقرار فى السودان والدفاع عن مصالح أشقائنا السودانيين، وهذا محل تقدير بالغ من الأخوة فى السودان الذين دائمًا ما يؤكدون ثقتهم فى النوايا المصرية.. لذا نؤكد أن مصر ليس لديها أجندة خفية تجاه السودان وهدفها فقط الحفاظ على هذا البلد الشقيق أرضًا وشعبًا.
الإعلام يتناول المساعدات المُرسَلة إلى غزة باستمرار، لكن ماذا عن المساعدات المرسلة إلى السودان؟
مصر تقدم الكثير إلى الأشقاء فى السودان انطلاقًا من التزام الأخ تجاه أخيه، وأود استعراض بعض الخطوات المصرية فى هذا الشأن على سبيل المثال، كقيام مصر بتسهيل عقد امتحانات الثانوية العامة للطلبة السودانيين فى ديسمبر 2024 وقد بلغ عددهم نحو 28 ألف طالب، جاء قرار رئيس الجمهورية تجاه هذا الموضوع حرصًا على مستقبل أبناء الشعب السودانى الشقيق، بالإضافة إلى إعادة فتح مدرسة الصداقة بالتنسيق مع السفارة السودانية فى القاهرة، وتقوم مصر أيضًا بتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى الشعب السودانى مرورًا من مصر بالتنسيق مع الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، كما تحرص مصر دائمًا على توفير الرعاية اللازمة للأشقاء السودانيين المتواجدين على الأراضى المصرية، ونعمل قدر الإمكان على توفير الخدمات الأساسية لهم أسوة بأقرانهم المصريين، فمصر لم تقم مخيمات للسودانيين، لكنهم يحيون جنبًا إلى جنب مع أشقائهم المصريين ضيوفًا على مصر، ومنذ بداية الأزمة وفرت مصر شحنات من المساعدات الإنسانية إلى السودان من القوات المسلحة المصرية ووزارة الصحة والسكان ووزارة التضامن الاجتماعى والهلال الأحمر، بالإضافة إلى تواصل مصر المستمر مع المنظمات الأممية من أجل المساعدة فى تيسير حياة السودانيين الضيوف على مصر.
خلال مباحثات الوزير د. بدر عبدالعاطى مع الوزير يوسف الشريف أكدا أن الأمن المائى أمر لا تهاون فيه.. ما أبرز الدول الداعمة لأمن مصر والسودان المائي، وما آخر تطورات الملف؟
بطبيعة الحال ملف الأمن المائى من الملفات الرئيسية التى توليها الدولة المصرية اهتمامًا بالغًا فى ضوء أنه يعد قضية وجودية، وهو إحدى القضايا محل الاهتمام المشترك بين مصر والسودان، خاصة فى ظل المرحلة الدقيقة التى يمر بها ملف نهر النيل، ونعمل على التنسيق المشترك من أجل حماية مصالحنا المائية عن طريق الحوار الهادف والبناء، ومصر تطالب بالتنسيق بين دول الحوض والالتزام بمبادئ القانون الدولى بشأن استخدام الأنهار المشتركة، تلك المبادئ المطبقة فى العديد من الأنهار.. فنحن لم نبتدع شيئًا جديدًا، هذا هو أساس قضيتنا العادلة التى نوضحها إلى العالم أجمع.. إننا نرفض بشكل قاطع أية اتهامات لمصر بأنها تعارض التنمية فى دول الحوض وأننا نستأسد بمياه النيل، هذا ادعاء باطل وعار تمامًا من الصحة وما تقوم به مصر بشكل ثنائى مع دول الحوض خير دليل على بطلان هذا الادعاء وصدق نوايا مصر تجاه دول الحوض، وهنا أتساءل كيف نحافظ على استدامة نهر النيل فى ظل إقامة مشروعات بشكل أحادى؟.. ويجب توضيح أن هناك تفهمًا من جانب العديد من دول الحوض لقضية مياه النيل بالنسبة إلى مصر، وأننا نحصل على 97 فى المائة من احتياجاتنا المائية من نهر النيل الأعلى اعتمادية مقارنة بدول الحوض الأخرى.
خلال الزيارة الأخيرة تم النقاش حول استعداد مصر لإعادة إعمار السودان.. هل هذا يعنى وجود مؤشرات لقرب إعلان وقف إطلاق النار، وما حجم الإعمار الذى تحتاجه السودان؟
تناول وزيرا خارجية مصر والسودان مسالة إعادة الإعمار أمر طبيعى، وهناك ترحيب شديد من جانب الأشقاء فى السودان بالدور المصرى فى هذا الأمر، وسيتم مستقبلاً عقد لقاءات ثنائية من أجل تناول تفصيلى لعملية إعادة الإعمار وحجمها والمشروعات المطلوب تنفيذها، وبالطبع سيكون للقطاع الخاص فى كل من مصر والسودان دور كبير فى عملية إعادة الإعمار، فإعادة إعمار السودان تتطلب إعدادًا جيدًا وهذا ما يتم بالفعل، وأود الإشارة على سبيل المثال إلى عقد الملتقى الأول لرجال الأعمال من مصر والسودان فى القاهرة، والذى أوضح بشكل مبدئى مجالات التعاون، منها ما هو مرتبط بالنقل والكهرباء والزراعة ومجالات أخرى، وهناك تفكير لعقد النسخة الثانية من هذا الملتقى قريبا.
القارئ يسمع دائمًا عن التدخلات الخارجية فى السودان لكنه قد لا يرى القوى المتصارعة وأهدافها ومصالحها من الصراع بشكل واضح.. هل يمكن التوضيح؟
أولاً دعنا نؤكد أن حل الأزمة السودانية فى أيدى السودانيين أنفسهم وليس من الخارج، ولا يمكن إنكار أن هناك أطماعًا لبعض الأطراف فى السودان نتيجة لعدة عوامل، على رأسها الثروات الطبيعية فى السودان والموقع الجغرافى للدولة الشقيقة، خاصة ارتباطًا بأمن البحر الأحمر، ونحن نثق أن السودان الشقيق يعى تمامًا هذه التحديات وقادر على التعامل معها، ودائمًا ما تصر مصر على وحدة وسلامة واستقلال السودان.
وكيف ترتبط الأحداث السودانية بالخطة الموضوعة من قوى دولية للضغط على مصر ووضع عقبات للتأثير عليها، وما المطلوب من مصر لتخطى هذه الضغوط والعقبات؟
للأسف الشديد لا توجد دولة فى العالم محاطة من كامل حدودها بأزمات مثل مصر، وهذا يفرض تحديات كثيرة على القيادة السياسية والدولة المصرية، فلا يمكننا أن نتجنب التعامل مع هذه التحديات الخطيرة نظرًا لتأثيرها على الأمن القومى المصرى، ومصر قادرة على تخطى أية عقبات أو صعاب طالما كانت موحدة وكان أبناؤها على قلب رجل واحد، ونحن ندرك جيدًا طبيعة التحديات والمخاطر، لذا يقوم كل منا بدوره على أكمل وجه، بدءًا من القيادة السياسية ومؤسسات الدولة وما يدعمها من تحركات دبلوماسية مرورًا بقواتنا المسلحة الباسلة، وانتهاء بشعبنا العظيم الذى يؤكد للعالم دائمًا حبه لوطنه ودعمه لقيادته وقد رأينا هذا جليًا فى عدة مواقف كان آخرها مسيرات دعم قرارات الرئيس فى رفض تهجير الفلسطينيين، ولمصر ثوابت فى سياستها الخارجية تلتزم بها وتطبقها ورغم كل التحديات المرتبطة بالوضع الإقليمى والدولى نحن ملتزمون بهذه الثوابت وأود أن أشير هنا إن ما يحدث فى جوارنا يفرض علينا ضغوطا شديدة ونتعامل مع تلك الضغوط والتحديات بشرف ونزاهة ودون أجندات خفية، ومصر ملتزمة بمسئوليتها كدولة إقليمية رئيسية وتلعب الدور الذى يقع على عاتقها من أجل تحقيق الاستقرار رغم كل الصعوبات والدور المصرى الإقليمى والدولى مهم لتحقيق الاستقرار فى السودان الشقيق رغم كل ما يكتنف ذلك من عقبات وتدخلات خارجية، ونحن نعارض ونرفض بشدة تأجيج الحرب فى السودان فى ضوء الاعتبارات السابق تناولها.
إذا نجح مخطط تقسيم السودان، كيف ستتأثر القارة وما تبعات ذلك على الدول المجاورة؟
أولاً نحن نرفض رفضًا قاطعًا أى مخططات تهدف إلى تقسيم السودان ونسعى لإفشال هذه المخططات، ثانيًا نحذر دائما من الترويج لمثل هذه الأفكار أو المساعى، ودائمًا ما نؤكد للجميع أن تقسيم السودان ستكون له تداعيات كارثية على المنطقة بأكملها، لذلك تشدد مصر دائمًا على ضرورة الحفاظ على وحدة وسلامة أراضى السودان الشقيق، لأن سودانًا موحدًا يعنى استقرار الدول المجاورة له والمنطقة كلها.
أخيرًا.. ما المطلوب من الشعب السودانى لدعم جيشه الوطنى والحفاظ على دولته؟
نثق تمامًا فى إدراك ووعى الشعب السودانى الذى بلا شك يجب أن يحافظ على مؤسساته الوطنية ووحدة وسلامة أراضيه، ونحن نؤكد دائمًا على ضرورة أن يكون حل الأزمة السودانية نابعًا من السودانيين أنفسهم، وأن الدروس المستفادة من تجارب دول حولنا يتمثل أهمها فى عدم السماح بانهيار المؤسسات الوطنية، فهذا الأمر إذا حدث لا قدر الله سيؤدى إلى دائرة مفرغة من انعدام الأمن وعدم الاستقرار، وعلى الجميع نبذ العنف وإلقاء السلاح واللجوء إلى الحوار المجتمع الجاد.