فى الوقت الذى أصبحت فيه إيران أكثر ضعفًا بعد التطورات الأخيرة فى المنطقة، أُتيحت الفرصة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب لاستخدام نفوذه لضمان تقليص طموحات إيران النووية، محاولًا فرض سياسة «الضغوط القصوى» عليها وفرض عقوبات تهدف إلى شل صادراتها النفطية مرة أخرى. ويبقى السؤال: هل سيتمكن ترامب من إضعاف طموحات طهران النووية دون اللجوء إلى العنف؟ ووسط سياسة «التشدد القصوى»، هل ستمنح إيران واشنطن فرصة دبلوماسية؟
يخطط الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لاستعادة حملة «الضغوط القصوى» على إيران فى محاولة لخفض صادراتها النفطية إلى الصفر، وتتضمن مذكرة ترامب، من بين أمور أخرى، أمرًا لوزير الخزانة الأمريكى بفرض «أقصى قدر من الضغط الاقتصادي» على إيران، بما يشمل العقوبات وآليات تنفيذها ضد منتهكى العقوبات القائمة، وذلك بهدف منع طهران من امتلاك سلاح نووي، وقد قلّصت أسعار النفط الأمريكية خسائرها بعد انتشار أنباء عن اعتزام ترامب توقيع المذكرة، مما عوّض بعض التراجع الناجم عن التوترات التجارية بين واشنطن وبكين. وحتى عند التوقيع على الأمر التنفيذى لإعادة فرض «أقصى قدر من الضغط» على إيران، أشار ترامب إلى أنه لا يزال يرغب فى التعامل مع طهران.
وردًّا على ذلك، قال وزير الخارجية الإيرانى عباس عراقجى إن مخاوف الولايات المتحدة إزاء تطوير إيران أسلحة نووية ليست مشكلة معقدة، ويمكن حلها نظرًا لمعارضة طهران لأسلحة الدمار الشامل، وأضاف: «إذا كان المبعث الرئيسى للقلق هو أنه لا ينبغى لإيران السعى إلى امتلاك سلاح نووي، فهذا أمر ممكن. فموقف إيران واضح؛ فهى عضو فى معاهدة حظر الانتشار النووي، وفتوى المرشد الأعلى على خامنئى أوضحت بالفعل موقفنا الرافض لأسلحة الدمار الشامل. أما سياسة الضغوط القصوى فقد أثبتت فشلها، وستواجه المصير ذاته فى حال تكرارها».
فى ظل ذلك، تبحث إيران عن وسائل يمكنها من خلالها تسريع تطوير سلاح نووى إذا قرر قادتها السعى إلى امتلاكه. وكان رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة قد صرّح فى ديسمبر بأن إيران تسرّع «بشكل كبير» عملية تخصيب اليورانيوم لتصل إلى درجة نقاء 60 فى المائة، وهى نسبة قريبة من مستوى التخصيب اللازم لصنع الأسلحة النووية، والذى يبلغ نحو 90 فى المائة، فى المقابل، نفت إيران مرارًا رغبتها فى تطوير سلاح نووي، وفى الوقت ذاته، يشعر الإيرانيون العاديون بالقلق، حيث انخفضت العملة الإيرانية، الريال، إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق، إذ بلغ سعر الدولار 850 ألف ريال، وذلك عقب تصريحات ترامب، مما يعكس استمرار التقلبات الاقتصادية التى يواجهونها.
بدأ ترامب حملة «الضغوط القصوى» ضد إيران خلال ولايته الأولى، عقب انسحابه من الاتفاق النووى الذى أُبرم بين طهران والقوى العالمية الكبرى، والذى كان ينص على رفع العقوبات الدولية عن إيران مقابل فرض قيود على برنامجها النووي. واتهم ترامب الرئيس السابق جو بايدن بالفشل فى فرض عقوبات صارمة على تصدير النفط الإيراني، مما أتاح لطهران بيع النفط لتمويل برنامجها النووى وتسليح الميليشيات فى الشرق الأوسط. ورغم العقوبات، نجحت إيران فى التهرب منها، حيث بلغت صادراتها النفطية 53 مليار دولار فى عام 2023، مقارنة بـ54 مليار دولار فى العام السابق، وفقًا لتقديرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. كما وصل إنتاج النفط الإيرانى خلال عام 2024 إلى أعلى مستوياته منذ عام 2018، بحسب بيانات منظمة أوبك.
لا تعترف الصين بالعقوبات الأمريكية، إذ تشترى الشركات الصينية معظم النفط الإيراني. وقد بنت الصين وإيران، بمساعدة شبكة من الوسطاء، نظامًا تجاريًا يستخدم اليوان الصينى فى الغالب، متجنبين التعامل بالدولار الأمريكى والتعرض للهيئات التنظيمية الأمريكية. لذلك، تسعى إدارة ترامب إلى تطبيق «قانون وقف إيواء البترول الإيرانى لعام 2024»، وهو قانون لم تُطبقه إدارة بايدن بصرامة، لكنه يسمح بفرض إجراءات على الموانئ والمصافى الأجنبية التى تعالج البترول الإيرانى المصدَّر فى انتهاك للعقوبات. وتشير الخطوة التى اتخذتها مجموعة ميناء شاندونغ الشهر الماضي، بمنع ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات الأمريكية من الرسو فى موانئها الواقعة فى المقاطعة الصينية الشرقية، إلى التأثير المحتمل الذى قد يحدثه هذا القانون.
بموجب اتفاق عام 2015 بين إيران والقوى العالمية الكبرى، تم رفع العقوبات عن طهران مقابل فرض قيود على برنامجها النووي. إلا أن الولايات المتحدة انسحبت من الاتفاق فى عام 2018، خلال الولاية الأولى لترامب، الأمر الذى دفع إيران إلى التراجع عن التزاماتها النووية المنصوص عليها فى الاتفاق. كما حاولت إدارة ترامب فى عام 2020 تفعيل إعادة فرض العقوبات بموجب الاتفاق، إلا أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رفض هذه الخطوة. وأبلغت بريطانيا وفرنسا وألمانيا مجلس الأمن فى ديسمبر الماضى بأنها مستعدة، إذا لزم الأمر، لتفعيل إعادة فرض جميع العقوبات الدولية على إيران لمنعها من امتلاك سلاح نووي. ومع ذلك، ستفقد هذه الدول القدرة على اتخاذ مثل هذا الإجراء فى 18 أكتوبر المقبل، حيث تنتهى صلاحية قرار الأمم المتحدة لعام 2015. وفى هذا السياق، وجّه ترامب سفيره لدى الأمم المتحدة للعمل مع الحلفاء من أجل «استكمال إعادة فرض العقوبات الدولية والقيود المفروضة على إيران”.
وفى هذا الإطار، قال الدكتور محمد خيري، الباحث فى الفلسفة السياسية والمتخصص فى الشئون الإيرانية، إن إيران تسعى إلى التأكيد على أنها لن ترضخ للضغوط التى يفرضها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، خاصة فى ظل حالة العداء التى ينتهجها تجاه العديد من الأطراف. وأضاف أن برنامج إيران النووى شهد تطورًا ملحوظًا بعد الانسحاب الأمريكى الأحادى الجانب من الاتفاق النووى عام 2018، وهو ما أدى إلى تسريع وتيرة تخصيب اليورانيوم، وتقريب طهران من العتبة النووية. ولفت إلى أن الضغوط الأمريكية على إيران غالبًا ما تؤدى إلى نتائج عكسية، إذ تدفع طهران إلى تعزيز برنامجها النووى بدلًا من التخلى عنه.
وأوضح الدكتور خيرى أن الرئيس الأمريكى لا يملك وسيلة فعالة لإيقاف البرنامج النووى الإيرانى سلميًا سوى التفاوض المباشر مع طهران والتوصل إلى اتفاق سياسى مشابه للاتفاق النووى الموقع عام 2015. وأشار إلى أنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق يرضى الطرفين، فإن إيران ستعتمد على ما يسمى «اقتصاد المقاومة» لتجاوز العقوبات الأمريكية، مع استمرارها فى تخصيب اليورانيوم لأغراض عسكرية، مما يقربها من امتلاك قنبلة نووية. كما أضاف أن واشنطن قد تلجأ فى بعض الحالات إلى استخدام العنف غير المباشر، مثل توجيه ضربات سيبرانية للبرنامج النووى الإيراني، أو تنفيذ عمليات اغتيال تستهدف العلماء والمسئولين البارزين فى هذا المجال.