«أسرار وحكايات فى دهاليز صحافة القرن».. لم أكن أتخيل فى يوم ما أن يمنحنى القدر أن أجالس أكابر الفكر والثقافة والإبداع على مائدة مجلة «المصور» الصحفية، فعندما التحقت بـ«المصور» كصحفى تحت التمرين منذ ثلاثين عاماً تعاملت مباشرة مع فطاحل الكتاب وعظماء العمل الصحفي وعلى رأسهم أستاذى الكاتب الصحفى الكبير الراحل مكرم محمد أحمد طيب الله ثراه الذى أخذ علىّ عهداً بألا أكتب حرفاً منشوراً فى أية مطبوعة أخرى إذا كنت أرغب فى الاستمرار بالعمل فى «المصور»، وألا تغرينى شهوة الكتابة بأن أتحرى الدقة فيما أكتبه لأنه أرسى بداخلى قناعة أن رأسمال الصحفى لدى قرائه هى مصداقية قلمه وأن اعتذاره عما نشره من أخبار غير صحيحة يعد بمثابة شهادة انتحاره مهنياً..!
ما ذكرته عما تلقيته من تعاليم ووصايا مهنية من أستاذى الكاهن الأعظم داخل محراب صاحبة الجلالة لم تكن الوحيدة مما تعلمت منه، ولكننى سأكشف إليكم اللثام عن الوجه الآخر للعملاق مكرم محمد أحمد الذى لقننى دروساً فى الإنسانية ودفاعه عمن يعملون معه داخل «المصور» حيث ساندنى قبل تعيينى مدعماً لى بأن أتصل به لو واجهتنى أية مشكلة من مكتب أى وزير بالدولة، بل إننى عندما واجهت أول إعلان قضائى يأتى إلىّ على يد محضر بعد نشرى تحقيقاً صحفياً عن السيرك القومى وآخر عن فن الباليه فى مصر وجدته يتصدى لكل الأطراف التى كانت تهددنى باللجوء للقضاء ضدى لإيمانه بمصداقية ما أكتبه، ولأنه تأكد من صحة معلوماتى المنشورة فيما يخص هذين التحقيقين الصحفيين، بل يحضرنى موقف أشبه بالكوميديا السوداء حيث ذهبت كالمعتاد إلى «المصور» يوم الأربعاء الذى تصدر فيه المجلة، وكنت قد أعددت ندوة للنشر كانت مع وزير النقل «إبراهيم الدميرى» صاحب واقعة تفحم ركاب قطار الصعيد الشهيرة إلا أننى فوجئت بجهة أمنية تستدعينى لكى تتأكد من صحة ما قاله الوزير فى هذه الندوة حول اقتراحه بإلغاء شرطة المرور واستبدالهم بخريجى الجامعات المصرية ما جعله يتعدى على اختصاصات وزير الداخلية آنذاك اللواء حبيب العادلى، فأخبرت أستاذى مكرم الذى تدخل على الفور وأنهى هذا الموضوع باتصاله التليفونى بهذه الجهة ما جعلنى أستشعر بأن لى «ضهر وسند» داخل بلاط صاحبة الجلالة اسمه مكرم محمد أحمد، فضلاً عن أن هذه المواقف أكسبتنى فيما بعد الصلابة فى مواجهة مخاطر نشر الحقائق ضد بعض المصادر الصحفية، ثم لمست فيه من خلال تعاملى معه الوجه الآخر لمكرم محمد أحمد أثناء سنوات «المرمطة» والتى تعنى بلغة الصحافة «فترة تدريبى»؛ حيث بلغنى خبر وفاة أحد أقطاب الكتابة الرياضية داخل المجلة وهو أستاذى الجليل الراحل سلامة مجاهد الذى توفى فى إيطاليا إلا أننى وجدت أستاذى مكرم يتواصل مع أسرته، ولبى لهم طلبهم بإحضار جثة الفقيد من إيطاليا، فتواصل مع وزير الخارجية آنذاك والسفير المصرى بإيطاليا لإرسال جثمان أستاذنا المغفور له بإذن الله «سلامة مجاهد» .
على الجانب الآخر تتلمذت على يد شيخ النقاد الفنيين الكاتب الصحفى الكبير الراحل عبد النور خليل الذى كنت أتعامل معه لسنوات طوال على ظنى بأنه مسيحى الديانة، فكنت أتواصل معه فى أعياد إخوتى الأقباط، كما اعتدت بحكم صداقتى للعديد منهم داخل محل إقامتى بشبرا إلا أننى فوجئت فى إحدى المرات التى جمعتنى به داخل مكتبه أنه يخبرنى بأن ابنه الكاتب الصحفى الكبير الراحل محمد عبد النور قد تولى رئاسة تحرير مجلة «صباح الخير» فانفجرت ضحكاً..!
أثناء تلك اللحظات شاهدت فى أعين أستاذى عبد النور خليل علامات الدهشة والريبة فصارحته بأننى كنت أتعامل معه كما أتعامل مع أصدقائى المسيحيين بتقديم التهنئة له فى أعيادهم، وصارت تربطنى به علاقة قوية من الود والحب والأبوة، وفى إحدى المرات اتصلت بالفنانة الكبيرة الراحلة نادية لطفى، وعندما عرفت أننى صحفى فى «المصور» قالت لى سلم لى على «نورا» فسألتها من تقصدين، فأجابتنى عبد النور خليل الذى تكن له كل الحب والاحترام لأنه أول من اكتشفها فنياً ودعم أولى خطواتها داخل الوسط الفنى، وطلبت منى أن أكتب خبرا عن الحالة الصحية المتدهورة للمونتير كمال أبو العلا، وبالفعل نشر لى كاتبنا الكبير عبد النور خليل هذا الخبر، فأصدر الدكتور إسماعيل سلام وزير الصحة حينذاك قراراً بسفر كمال أبو العلا للعلاج على نفقة الدولة بالخارج فور صدور عدد مجلتنا الغراء «المصور».
لعب أستاذى عبد النور خليل فى حياتى دوراً هاماً حيث تشربت منه الكثير من فنون الكتابة الصحفية إلى جانب أنه كان يواسى بداخلى مشاعر اليأس بعد أن طال أمد انتظارى للتعيين لسبع سنوات عجاف فى تاريخى المهنى، ففى إحدى المرات حكى لى أن فكرى باشا أباظة رئيس مجلس إدارة دار الهلال قد كافأه بسبب شكوى جاء بها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب إلى مكتب الباشا ضده؛ حيث فوجئ عبد النور خليل باستدعاء فكرى باشا أباظة له فتوجس خشية أن يعاقبه الباشا إلا أنه قد فاجأه بمنحه مكافأة قائلاً له إنه كان سبباً فى أن يأتى إلى مكتبه عبد الوهاب بنفسه لكى يشكو إليه العبقرى عبد النور خليل..!
كانت هذه الحكاية بمثابة عظة يقدمها إلىّ أستاذى عبد النور خليل لكى يشد من أزرى بعد إحساسى باليأس من عدم تعيينى، حيث كنت أقول له فى تلك الفترة العصيبة من حياتى إننى لم أبلغ مكانة من يعيش ولم أصل إلى ما ينعم به الميت من تقرير مصيره.
قائلاً له «أنا لا حصلت أكون عايش ولا حتى أكون ميت فكلاهما يعرف مصيره لكننى أجهل مصيرى»..!
إلى أن جاءتنى الانفراجة من الله عز وجل؛ حيث ذهبت لإجراء حوار مع أحد المصادر من ذوى النفوذ والجبروت وواجهته ببعض الاتهامات وعلامات الاستفهام التى تدور حول أدائه الوظيفى، فشعر بعد انتهائى من الحوار معه بأننى قد اقتنصت منه بعض الردود والإجابات التى لو نشرت ستطيح به من منصبه إلا أنه اتصل بأستاذى مكرم محمد أحمد راجياً منه ألا ينشر هذا الحوار..! ففوجئت بكاتبنا الكبير يستدعينى قائلاً لى «أنت عملت إيه مع هذا الرجل؟!».
فحكيت له ما حدث فنظر إلىّ بإعجاب شديد وطلب منى أن أفرغ هذا الحوار وأقدمه إليه فقرر فور قراءته له أن يعوضنى عن عدم نشره لهذا الحوار بإصداره قرار تعيينى بـ«المصور» مكافأة لى عما فعلته مع هذا المصدر ذى الجاه والنفوذ لأننى جعلته يتوسل إلى أستاذى الراحل مكرم..!