رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

النبى فى رمضان.. مُدارستُه صلَّى الله عليه وسلَّم القرآنَ كل ليلة


16-3-2025 | 01:20

.

طباعة
بقلم: د. ياسين عطية جمعة

فى الحلقة الثانية من سلسلة «النبى فى رمضان» نستعرض معًا عملًا كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَخصُّ به شهر رمضان المبارك، وهو «مُدارستُه صلى الله عليه وسلم القرآنَ فى كل ليلة من ليالى رمضان»؛ قال ابنُ عباس رضى الله عنهما، فى الحديث الذى أخرجه الإمام البخاري: «كان رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه فى كل ليلة من رمضان فيُدارِسُه القرآن، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة».

من المعلوم أن رمضان هو شهر القرآن؛ إذ فيه نزل؛ قال تعالى: «شهر رمضان الذى أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان»؛ لذا يجتهد المسلمون جميعًا فى قراءته؛ لِما فى ذلك من العطاء العميم والثواب الجزيل؛ قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديث الذى أورده الترمذى فى سُننه: «مَنْ قرأ حرفًا مِن كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف».

 

وإذا كانت الغاية من قراءة القرآن الكريم هى تثقيل الميزان بالحسنات فإن وراءها مقصودًا أعظم وأكبر؛ هو فِقْهُ ما فيه من المعانى فقهًا سديدًا يُعين على اتباع أوامره واجتناب نواهيه، وانتهاج الطريق الأقوم لفلاح هذه الأمة التى هى خير أمة أُخرجت للناس، والتى كانت خيريتها فى أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر وإيمانها بالله، وهذه الأمور الثلاثة لا تتحصل على وجهها الأكمل والأتم إلا بفهم دستور الأمة وحبل نجاتها: القرآن الكريم.

 

ولا شك فى أن فهم القرآن لا يتأتَّى بمجرد ترداده باللسان، وإن كان الترداد فى حد ذاته شيئًا جليلًا، وإنما يتأتَّى بالمُدارسة التى كان يحرص عليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة فى رمضان.

 

و«المُدارسة» فى اللغة هى مداومة القراءة وتكريرها حتى الحفظ، وقال الإمام الزمخشرى إنها القراءة والتعلُّم، وقال الشيخ الطاهر ابن عاشور إن الدراسة هى القراءة بتمهُّل للحفظ أو للفهم أو للتدبُّر.

 

وهذا التدبُّر دعا الله عزَّ وجلَّ إليه عبادَه فى غير موضع من كتابه العزيز؛ فقال تعالى: «أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير اللَّه لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا»، وقال أيضًا: «أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»، وقال: «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب».

 

وتدبُّر القرآن الكريم ومُدارستُه كما أنهما يفتحان على صاحبهما بابَ الفَهْم يفتحان عليه أيضًا أبواب الخير، ويكونان سببًا فى أن يَذكره الله تعالى فيمن عنده؛ فعن أبى هريرة رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «ما اجتمع قومٌ فى بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلَّا نزلتْ عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده».

 

وتعبير النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ «قوم»، وهو نكرة، يفيد أن هذا الثواب يصيب أى قوم فى أى زمان ومكان، مُذ نطق النبى بهذا الحديث حتى قيام الساعة، وفى هذا بيان لسَعة رحمة الله تعالى وعمومها وشمولها، ومن هنا لا يظنن أحد أن مدارسة القرآن مقصورة على العلماء، وأنه لا سبيل لبقية المسلمين إلى تأمله وتدبره، بل الأصل أن يجتهد كل قارئ للقرآن فى مُدارسته بقدر ما لديه من العلم وبقدر ما يُيسره الله له.

 

ويُيسر الله تعالى لدارس القرآن من فيوضات المعانى بمقدار ما يحصله من الأدوات والوسائل المعينة على ذلك، ومن هذه الأدوات:

 

صدق النية وصفاء الروح؛ فخبيث النية وسيء الطوية يحجبه الله عن فقه مراداته والوقوف على معانى كتابه؛ قال تعالى: «سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون فى الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلًا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلًا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين».

 

التمكن من علوم اللغة العربية، وفِقه أساليب العرب فى كلامهم؛ قال تعالى: «إنا أنزلناه قرآنًا عربيا لعلكم تعقلون»، يقول شيخنا د. محمود توفيق سعد (رحمه الله) فى تفسير هذه الآية: ««قولُ الله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون) مؤذن فينا أنا لن نعقل ما فى القرآن إلا بلسان عربي، أى وفق معهود العرب فى الإبانة؛ فهمًا وإفهامًا، فمن لم يكن بذلك اللسان فقيهًا فإنه لا سبيل له بديلاً عنه - ولو جمع كل علوم أهل الأرض مذ خلقت إلى قيام الساعة - لينال شيئًا من فقه هذا البيان الإلهى المعجز المبلس».

 

الإحاطة بعلوم القرآن، وهى كثيرة، ومنها: أسباب النزول، التناسب بين الآيات والسور، الوجوه والنظائر، المحكم والمتشابه، غريب القرآن.. إلى غير ذلك من العلوم.

 

ولأن كثيرًا من الناس لا يستجمعون هذه الأدوات أو بعضها فقد يتسلل الحزن إلى قلوبهم واليأس إلى نفوسهم؛ لأنهم يظنون أنه قد حِيل بينهم وبين تدارس القرآن وتدبره، ولهؤلاء أقول: إن للمُدارسةِ مراتَ ودرجات؛ منها ما يقف عند الظاهر من المعاني، ومنها ما يتعمق فى الدلالات، ومنها ما يغوص على الأسرار والدقائق، أو بعبارة أخرى: معانى القرآن نوعان؛ معانٍ جمهورية يدركها كل أحد، ومعانٍ إحسانية لا يصل إليها إلا الخواص، ولأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفسًا إلا وسعها فليس كل أحد مطالبًا بالوصول إلى المرتبة الأعلى من المُدارسة، ويكفى أن يبذل المرء أقصى طاقته ثم يَتهيَّأ لعطاء الله له.

 

أما عن الطرق العملية التى ننصح بها قارئ القرآن لتدارُس كتاب الله فنختار منها طريقين؛ أولهما أن يستصحب مع مصحفه تفسيرًا سهلًا ميسرًا يعنى بمعالم الهداية فى كتاب الله، ويبتعد عن الاستغراق فى الآراء التفصيلية التى لا يتأتى فهمها إلا للعلماء، ومن هذه التفاسير الميسرة: «التفسير الوسيط»، الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف، وكذلك تفسير «المنتخب فى تفسير القرآن» الصادر عن المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

 

أما الطريق الآخر فهو إدامة الاستماع إلى أحد المفسرين المشهود لهم بالرسوخ فى العلم، والإحاطة بمعانى القرآن، مع القدرة على تقريب مراداته للناس جميعًا على اختلاف صنوفهم، ولا شك فى أن العالم الذى تتوافر فيه هذه الصفات هو إمام الدعاة فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوي؛ فقد آتاه الله بسطة فى العلم، ورزقه القدرة على الفهم والإفهام، ومكنه من مهارة ضرب الأمثال التى يُقرب بها المعنى القرآني، كما ألهمه كيفيات تنزيل المعانى القرآنية على الواقع المعاصر.

 

تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام، وكتبنا وإياكم فى الذين يتلون كتابه ويتدارسونه.