فى مثل هذه الأيام بشهر رمضان الكريم قبل سنوات، وفى طريقى إلى المجلة عبر شارع الوداع (القرافة) أسفل القلعة وجدت سائحا أجنبيا يابانى الجنسية ومعه كتاب يسأل عن ضريح المقريزى، وقفنى الناس فتكلمت معه وقلت له «لا أعرف المكان واعتذرت عن جهلى»، وأخذته معى إلى وسط البلد، أتذكر الحكاية كل عام، ولكن هذا العام فى زيارتى السنوية لأسرتى بالقرافة اصطحبت معى موسوعة فريدة أصدرتها مؤخرا د. جليلة القاضى عن تاريخ جبانات القاهرة فى 1400 عام..
رمضان شهر كريم فهو شهر الصوم وأحد أركان الإسلام، إلا أنه بجانب ذلك يحمل روحانيات البر والتواصل وصلة الرحم، ومنها الحرص منى على زيارة القرافة، لأن أحبائى بها، فأتكلم معهم وأشكو الهم وما أكثره، فالجبانات عند المصريين لها تاريخ وطقوس مستقلة نحبها ونمارسها فى الأعياد والمناسبات، فكانت الزيارة هذه المرة تحمل لى التاريخ الشخصى، والتاريخ الوطنى أيضا لشعبنا الذى يقدس القرافة والموت منذ عهد الفراعنة مرورا بالحقب القبطية والإسلامية وحتى الآن، إنه تراكم التراث المصرى الذى ننفرد به.
وهو ما عكسته رواية حديث الصباح والمساء لعبقرى نوبل الأدب نجيب محفوظ، كانت زيارة المقابر وفخامة الطقوس حاضرة بقوة بالرواية، لأن الفكرة الرئيسية التى فهمتها منها هو تأكيد حقيقة أن الموت هو الحقيقة ربما الأولى فى هذه الحياة ومهما امتد سن الإنسان فهو فى النهاية إلى الزوال أو الموت أى أن الإنسان وكما تبدأ الحياة بصرخة المولود تنتهى بصرخة الأهل، وولع الفراق، وكان دور وأداء عبلة كامل أو جليلة الطرابيشى فى الرواية وقد قررت أن تسكن ولا تفارق المقبرة بعد رحيل عائلتها هو مشهد، كما يقول أهل الفن، «مستر بيس»، لأنها به جسدت كل ثراء وتراث الموت فى وجدان المصريين تحديدا، فالجبانة أو القرافة، كما هى فى لغة المصريين الآن، وتعود التسمية كما تقول بعض المراجع إلى قبيلة أو بطن من بطون اليمينيين، الذين حضروا مع دخول الإسلام إلى مصر وأن أول من توفى فتم دفنه بجوار مكان هذه القبيلة، فعرف بها الاسم القرافة حتى بعد أن هاجرت منها القبيلة بعد جفاف المنطقة ظلت مكانا للدفن فيقال راح أو زار القرافة بمعنى زيارة الموتى، وهذه المرة فى صحبة الكتاب أو «معجم الجبانات» بالقاهرة ويرجع تاريخ القرافة لما قبل إنشاء القاهرة نفسها بثلاثة قرون، فبصحبته تراجع عدم معرفتى بالتراث المصرى للموت - بعيدا عن مقابر الفراعنة- فاستمتعت أكثر بالزيارة، وبصحبة الكتاب بنسخته العربية، والتى صدرت عن دار المرايا وكان الصدور الأول بالفرنسية قبل عقود ثم والثانية بالإنجليزية، أصدرته الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والتى ربما كان يحملها السائح اليابانى.
الكتاب يمثل موسوعة، وليس فقط دراسة علمية موثقة بالصور والخرائط لتاريخ الجبانات طوال 14 قرنا، وتذكر د.جليلة أستاذة العمارة بالجامعات الفرنسية فى مقدمتها الشديدة البلاغة لأنها ربطت بداية فكرته وبين حملها لابنها قبل أكثر من ثلاثين عاما، وبين مشروع توثيق الجبانات التراثية بصحبة أصغر زائر لها.
وتوقفت معها عند قرافة المماليك، وعند المجموعة الجنائزية السلطان برقوق، فكما توقف السلطان سليم الأول عند غزوه لمصر لقراءة الفاتحة على روحه، وفى سرى قرأتها لهم على البعد، وعلى التاريخ أيضا، فالسهل الذى يحتوى الجبانات قيل قديما إن له تأثيرا هاما «لأن جسم الميت يحفظ به طويلا» فى جبانة باب النصر أو الجبانة الخشبية، والتى نشأت كما تقول بعد دفن أمير الجيوش بدر الجمالى سنة 487 خارج باب النصر أو سور القاهرة الشمالى، وهى ثانى أقدم مدافن للمسلمين بعد القرافة، ويربو عمرها على الألف عام، وتشكل مع جبانة باب الوزير التى لاتحمل اسم أمير أو ولى أو حتى خفير، وإنما تحمل اسم معلم تاريخى، واللافت كما تقول إن المصريين، استمروا فى دفن موتاهم بها وحافظوا عليها على مر الأجيال إلا أنه فى عام 1934 صدر مرسوم ملكى ينص على إزالتها لإقامة حديقة عامة، ولم يتم إزالتها بالكامل، ولكن استقطاعات طالت أجزاء منها فى النصف الثانى من القرن العشرين وتركت فريسة للإهمال والتدهور، ورغم ذلك نحن وربما من الشعوب القلائل التى يمتد الدفن طوال قرون وحتى الآن، على مقربة منها جامع الظاهر بيبرس ثم عالم المصريات السويسرى بوركهاردت، والشيخ يونس ومكان دفن بدر الجمالى وفى نهاية التسعينيات أثير الجدل حولها لحقيقة وجود مدافن المقريزى وابن خلدون بها، ويقال عليها أيضا مقابر الصوفية، وكتب ثم تقدم يوسف القعيد فى 2017 بطلب إحاطة بمجلس الشعب عن مقبرة ابن خلدون بباب النصر، وأنه عرف ذلك من زيارة إلى تونس والمغرب، تشير الباحثة إلى أن القبر كان معروفا حتى الستينيات من القرن الماضى، ولكن للأسف حدث فى نفس العام أن هدم البلدوزر حوش الصوفية وقبر المقريزى (وهو سؤال السائح اليابانى لى)، وتختلف مقابر باب النصر عن غيرها لأنها مصنوعة من الخشب بدلا من الحجر، وتسمى المقاصير، من أروع أجزاء الكتاب الجزء الخاص بجبانة المماليك الشرقية، وعمرها يعود إلى القرن الرابع عشر وبها منشآت لخمسة سلاطين، وتجمع يعرف ببستان العلماء واثنين من أهم المؤرخين هما ابن تغرى بردى، والجبرتى وأحواش كالقصور لأسرة مالكة أسرة محمد على وأعيان مصر ووزرائها مثل أحمد حسانين وصممه د حسن فتحى، وبالقرب من شارع صلاح سالم سنجد تحفا معمارية مثل مجموعة قايتباى أو مقابر الخفير وأيضًا يوجد مدافن المجاورين ثم مدافن باب الوزير الأحدث والمجاورين ورد ذكرها عند الجبرتى، وعلى مبارك وتضم مقابر فاخرة بعضها يمثل قصورا صغيرة لأن المصريين كانوا يقضون ومازالوا أيامًا بالقرافة، والكتاب ملىء بالصور البديعة من تصوير الفرنسى آلان بونامى، لمدافن الخديو توفيق، وصالح سليم وسليمان أغا السلحدار وزوجته زينب خاتون والرافعى وقصر الوالدة باشا والدة الخديو إسماعيل وأعيد بناؤه بالقرافة 1870، المدهش فى معلومات الكتاب أنه ذكر أن بعض المدافن تصل مساحتها إلى عشرة آلاف متر، ومقبرة الخديو توفيق 15 ألف متر، ونأخذ جولة لمقابر الإمامين وهما الإمام الشافعى والإمام الليثى ومقابر السيدة نفيسة، والتى لها فى وجدانى منزلة، لذلك أزورها كثيرا تشفعا، وهاتان المنطقتان تحتاج كل منهما مقالا مستقلا بصور وهى كثيرة، لأن زيارتهما ليس زيارة موتنا، ولكنه تاريخ حى شاهد على عظمة الحقب بتاريخ المصريين، لذلك فالاقتراح الذى قرأته بمقدمة الكتاب عن خطة 2050، ومنها نقل سكان الجزر العشوائية وعلى دفعات، والتى تحوط المجموعات الجنائزية وتحولت الفراغات إلى ساحات مفتوحة فأظهرت روعة الآثار، ثم تتبنى وزارة البيئة والجمعيات تشجير المحاور بأشجار الاكاليتوس التى لها قدرة عالية على امتصاص الماء مع مشروع قانون بضرورة الصيانة والترميم من أصحاب الأحواش، ولنتخيل المشهد من القلعة والمقيم أو حديقة الأزهر لهذه الجبانات الفريدة من نوعها عالميا، أو كما قال لى أستاذ فاضل كنا فى عزاء لدفن سيدة عظيمة تنتمى لأسرة شهيرة فى إحدى هذه الجبانات البديعة فقال قرافة ترد الروح فابتسمنا جميعا إنها فعلا أماكن ترد الروح والعلاقات والأوصال فنحن لانخشى السكن والزيارة لأهلنا من الراحلين خاصة فى الشهر الكريم.
