تظل بصمات العلماء فى الحياة راسخة فى الأذهان، ولعل شخصية اليوم من أئمة الأزهر، شخصية مصلحة، قاد التقريب بين المذاهب وإليه يرجع الفضل فى نشر تعليم الفتاة فى الأزهر، حيث يعتبر أول من بدأ سياسة إنشاء معاهد الفتيات الأزهرية، وكلية البنات الإسلامية.
إنه الإمام الجليل، والفقيه الكبير، والمصلح الاجتماعي الكبير، شيخ الأزهر الشيخ الإمام محمود محمد داود شلتوت، الذي ولد في الثالث والعشرين من أبريل 1892 في منية بني منصور من أعمال مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة، فحفظ القرآن الكريم، مبكرًا ثم التحق بمعهد الإسكندرية الديني عام 1906، وحصل على المركز الأول في جميع مراحل الدراسة، ونال شهادة العَالِمية عام 1916، وكان أول الناجحين فيها.
عُين الشيخ شلتوت مدرسًا بمعهد الإسكندرية الديني في 4 يناير سنة 1919، وفي هذا العام، قامت الثورة الشعبية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر بزعامة سعد زغلول، وقام الشيخ شلتوت بواجبه الديني والوطني، وشارك فيها بقلمه ولسانه وجرأته المعهودة فيه.
وعندما عُين الإمام الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخًا للأزهر، رأى أن ينتفع به، نظرًا لمواهبه الفذة، وثقافته الواسعة، وحبه التجديد والإصلاح، فنقله إلى القاهرة مدرسًا بالقسم العالي، وكان يرأسه في وقتها الشيخ الإمام عبد المجيد سليم، الذي تولى مشيخة الأزهر بعد ذلك.
وكان الشيخ شلتوت قد كتب عدة مقالات في جريدة السياسة اليومية، والأهرام، والمقطم، تأييدًا لما دعا إليه الشيخ المراغي، وقد كان يدعو إلى الأخذ بالمبادئ التي ذكرها الإمام الشيخ المراغي في مذكرته المعروفة لإصلاح الأزهر.
لكنه في ذلك التوقيت، كان هناك من بين رجال الأزهر من يقاوم هذه الحركة الإصلاحية، وكذلك كان الملك لا يرتاح إلى هذه الحركة، فقامت العقبات في طريقها، فاستقال الشيخ الإمام المراغي على الرغم من مكانته العلمية بين المستنيرين من علماء الأزهر وطلابه المعروفين، وتولى المشيخة الإمام الظواهري، وكان من رجال الإصلاح، لكنه كان يرى التأني في الأمر ومراعاة الظروف حتى يستقر الوضع، ويمكن التفاهم مع ولاة الأمر في تنفيذ خطوات الإصلاح، وقابله كثير من العلماء والطلبة بثورة عاتية، فقابل ثورتهم بالشدة والعنف، ففصل الشيخ محمود محمد شلتوت من منصبه، كما فصل عشرات من صفوة علماء الأزهر ومشايخه الذين كانوا في طليعة المصلحين؛ لأنَّه نظر إليهم بوصفهم من مؤيدي الشيخ المراغي، وممن يناصبونه العداء.
وبعد فصله من الأزهر الشريف، عمل شلتوت بالمحاماة أمام المحاكم الشرعية، وكأن الله هيأ له ذلك؛ ليدرس أحوال الأسرة المصرية دراسة ميدانية، فيرى مسائل الزواج والطلاق والميراث والنفقة على طبيعتها الحية بين المتخاصمين؛ وليراجع ما كتبه الفقهاء مراجعة من ينشد استقرار الأسرة الإسلامية في ضوء التشريع الصحيح، وفي عام 1935 أعيد إلى عمله بالأزهر الشريف مع بعض المفصولين، فعُين مدرسا بكلية الشريعة، واختار أن يدرس مادة جديدة لم تكن مقررة من قبل، هي مادة الفقه المقارن.
وعندما جاءت دعوة للأزهر الشريف للاشتراك في مؤتمر القانون الدولي المقارن، المنعقد بمدينة لاهاي في هولندا عام 1937، وقع الاختيار من مجلس الأزهر الأعلى عليه؛ ليكون عضوًا في الوفد الذي يمثله في هذا المؤتمر، فتقدم للمؤتمر ببحث قيم عن “المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية”، ونال البحث استحسان أعضاء المؤتمر وإعجابهم، فأصدروا قرارًا بصلاحية الشريعة للتطور، وأنها مصدر من مصادر التشريع الحديث، وأنها أصيلة وليست مقتبسة من غيرها من الشرائع الوضعية، ولا متأثرة بها، كما أصدر المؤتمر قرارًا بأن تكون اللغة العربية إحدى لغات المؤتمر في دوراته المقبلة، وأن يدعى إلى هذا المؤتمر أكبر عدد ممكن من علماء الشريعة على اختلاف المذاهب والأقاليم.
وفي عام 1937 عين وكيلًا لكليَّة الشريعة ثم عين مفتشًا بالإدارة العامة بالجامع الأزهر في العام التالي وفي عام 1939 عين مفتشًا بالمعاهد الدينيّة، ثم رأى الشيخ المراغي أن يعيده مرة ثانية وكيلًا لكلية الشريعة؛ ليمكنه من تحقيق برامجه الإصلاحية فيها، لينضم لهيئة كبار العلماء في عام 1941، بعد أن تقدم ببحث حول “المسئوليَّة المدنيَّة والجنائيَّة في الشريعة الإسلاميَّة”، ففاز بها بإجماع الأعضاء، وصدر الأمر الملكي رقم (24) لسنة 1941 بتعيينه عضوًا بهيئة كبار العلماء، والإنعام عليه بكسوة التشريف العلمية من الدرجة الأولى.
وكان أول عمل قام به الشيخ شلتوت في هيئة كبار العلماء، أن تقدم باقتراح لإنشاء مكتب علمي تكون مهمته معرفة ما يهاجم به الدين الإسلامي والرد عليه، وبحث المعاملات التي جدت وتجد في هذا الأمر، بل ووضع مؤلفًا لبيان ما تحتوي عليه كتب التفسير المتداولة من الإسرائيليات، وتنقية كتب الدين من البدع والخرافات، وقد ألفت لجنة لهذا الغرض برئاسة عبد المجيد سليم، وكانت هذه اللجنة إرهاصًا لإنشاء مجمع البحوث الإسلاميَّة فيما بعد، وكان للشيخ محمود شلتوت الفضل في اقتراحه ومتابعة المطالبة بإنشائه حتى تمَّ له النجاح، وظهر المجمع إلى الوجود في عهد مشيخته ولا يزال يؤدي دوره العالمي الكبير إلى الآن.
كما عين عضوا عاملا بمجمع فؤاد الأول للغة العربيَّة بناء على مرسوم الملك فاروق الصادر بتاريخ 11 سبتمبر 1946.
وفي عام 1957 عين الشيخ شلتوت وكيلا للأزهر الشريف، ليعين في العام التالي وبالتحديد في الثالث عشر من أكتوبر عام 1958م، شيخًا للجامع الأزهر، حيث صدر في عهده قانون تطوير الأزهر المعروف بالقانون رقم 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها، وبعد صدور هذا القانون أصبح الشيخ محمود شلتوت أول حامل للقب الإمام الأكبر، بناء على نص القانون الجديد، كما أصبح عضوًا ورئيسًا لمجمع البحوث الإسلامية، وشاءت الأقدار ألا يحضر افتتاح جلسات ذلك المجمع بسبب وفاته المفاجئة، ولكنه استطاع أن يقوم بحملة تطوير كبير في المناهج الأزهرية بإعادة النظر فيها، فأدخل الدراسات القانونية في كلية الشريعة، لتتم المقارنة بين دراسة الفقه الإسلامي والقوانين المعاصرة، وأدخل فقه الشيعة مما كان له أكبر الأثر في التقريب بين جماعات المسلمين في أنحاء العالم، فكان من كبار المؤسسين لدار (التقريب بين المذاهب الإسلاميَّة) التي قامت لإزالة الجفاء وتوثيق الصلات بين الطوائف الإسلامية، وبخاصة بين طائفة السنة وطائفة الشيعة، وكان له مكان الصدارة في كل هيئة يشترك فيها بما يبذله من آراء قيمة، وجهود مضنية، ودراسات علمية عميقة.
كما اهتم الشيخ شلتوت بالقضية الفلسطينية اهتمامًا كبيرًا حيث سافر إلى غزة في أثناء مرضه الأخير، وكانت تحت الإدارة المصرية في ذلك الوقت ليتفقد أحوال أهلها، وعقب عودته، جاء وفد من أساتذة الجامعات الأمريكية لزيارته في منزله، فارتفع صوت الإمام الأكبر مدويا وهو يقول لهم: “لقد زرت قطاع غزة، ورأيت الظلم مجسمًا، ورأيت المشردين في الفيافي والقفار، ورأيت الجياع والعرايا، ورأيت ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، إنها العنصرية الصهيونية التي أخرجتهم من ديارهم وجعلتهم كطائفة من الحيوانات أنتم العلماء والأساتذة بلّغوا حكومتكم ما قلته لكم عما رأيت من جياع ومشردين سُلبوا أوطانهم، وحُرموا حق الحياة الكريمة قولوا لبلدكم بلد الحرية حرام أن يظل هؤلاء على هذه الحال، والعدو سائر في غيّه بلا رادع ولا وازع من ضمير، وإني أدعوكم لنصرة المظلوم من عسف الظالم في فلسطين السليبة الحبيبة”.
مرض الشيخ شلتوت، مما استدعى تدخلا جراحيا، فتمت العملية الجراحية له بنجاح، لكنها ربما كانت صحوة الموت حيث فارق الحياة وخرجت الروح من الجسد لتصعد إلى بارئها في مساء ليلة الجمعة (ليلة الإسراء والمعراج)، ليؤدي المصلون عليه صلاة الجنازة في الثالث عشر من ديسمبر عام 1963.

