الأمانة ليست مجرد غاية مرجوة، ولا هى قيمة نبحث عنها فى مجتمعنا فى واقعنا المعاصر فحسب، بل هى ذلك الخلق الرفيع الذى ينسج خيوط الثقة بين الناس، ويرسم لوحةً بديعةً للمجتمع المتماسك. هى جوهرةٌ ثمينةٌ تتلألأ فى أعماق النفوس الطيبة، وتشع نورًا يهدى إلى دروب الخير والجمال، يكفى أن نبيك لُقِّب بالصادق الأمين.
فالأمانة ليست مجرد كلمةٍ عابرةٍ، بل هى عهدٌ وثيقٌ يربط الإنسان بضميره، ويجعله مسؤولًا أمام نفسه وأمام الآخرين، هى منهج حياة، وبصمة واضحة، ولسان صادق فى الآخرين تجلب دعوات صالحات لصاحبها، بل هى ذلك الصوت النبوى الذى يهمس فى أذنك، قائلًا: «أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخُن من خانك».
ففى عالمٍ يموج بالتحديات والمغريات، تبرز الأمانة كحصنٍ منيعٍ يحمينا من الانزلاق فى مهاوى الخيانة والغدر، وهى تلك القوة الخفية التى تدفعنا إلى الوفاء بالوعود، وحفظ الأسرار، وأداء الحقوق، والتعامل بصدقٍ وإخلاصٍ فى كل جوانب حياتنا.
الأمانة ليست مقتصرة على حفظ الأموال والممتلكات، بل هى أوسع وأشمل من ذلك بكثير. إنها تشمل أمانة الكلمة، وأمانة العمل، وأمانة المسؤولية، وأمانة الوقت، وأمانة العلم، وأمانة العلاقات الإنسانية، فكل جوانب الحياة أمانة، قال تعالى: (إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).
الأمين هو ذلك الشخص الذى يحمل فى قلبه بذرة الخير، ويسقيها بماء الصدق والوفاء، فتنمو وتزدهر، وتثمر ثمارًا يانعةً من الثقة والاحترام والتقدير. هو ذلك الإنسان الذى يضع مصلحة الآخرين فى اعتباره، ويسعى جاهدًا لتحقيق العدل والإنصاف فى كل تعاملاته، لذلك لم يكن غريبًا أن النبى صلى الله عليه وسلم كاد يضحى بربيب حجره، وابن عمه سيدنا على بن أبى طالب من أجل أن يرد الأمانات يوم الهجرة إلى أهلها.
الأمانة هى أساس الحضارات، وعماد المجتمعات، وسر التقدم والازدهار. بها تزدهر التجارة، وتستقيم العلاقات، وتنتشر المحبة والسلام. وبغيابها تسود الفوضى، وتنتشر الخيانة، وتتفكك الروابط الاجتماعية، لذلك كان الوعيد المحمدى (إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة).
فالأمانة كنز لا يفنى، فهى صفة تبقى فى ذاكرة الناس، وتخلد ذكرى الأمين، وهى أفضل ما يتركه الإنسان من بعد موته، فالمال يفنى، والجاه يزول، أما الأمانة فتبقى خالدة، فازرع فى داخلك وفيمن حولك وازرع الأمانة عن طريق تربية النفس على خلق الأمانة، وتذكر أن الله تعالى يراقبنا فى كل أفعالنا وأقوالنا، فاستعِن بالله تعالى على أداء الأمانة، وتجنّب الكذب والخيانة، وأن نربى جيلًا يتجسد فيه هذا البيان، فقال النبى (لا دين لمَن أمانة له، ولا إيمان لمَن لا عهد له).
الأمانة ليست مقصورة على حفظ الودائع المادية فحسب، بل هى أشمل وأعمق من ذلك بكثير، إنها تشمل أمانة الكلمة، حيث يصدق اللسان، ويوفّى الوعد، ولا يخون العهد، إنها أمانة العمل، حيث يتقن المرء عمله، ويؤدّيه على أكمل وجه، ولا يغش ولا يخدع، إنها أمانة المسؤولية، حيث يتحمل المرء تبعات قراراته وأفعاله، ولا يتهرب ولا يتنصل مراعيًا البيان النبوى (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته).
الأمانة هى ذلك الضمير الحى الذى يراقب الإنسان فى السر والعلن، فيدفعه إلى فعل الخير، واجتناب الشر، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل. إنها ذلك الصوت الداخلى الذى يهمس فى أذن الإنسان، فيذكّره بواجباته، ويحذّره من زلاته، ويقوده إلى طريق الصواب، فكان هذا الدعاء النبوى الصادق (اللهم أرِنا الحق حقًّا وارزقنا اتّباعه، وأرِنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه).
فلنحرص على غرس قيمة الأمانة فى نفوسنا ونفوس أبنائنا، ولنجعلها نبراسًا يضيء لنا دروب الحياة، ولنكن قدوةً حسنةً فى الالتزام بها، حتى نعيش فى مجتمعٍ يسوده الوئام والتعاون، وينعم بالخير والرخاء، مجتمعًا مصريًا وسطيًا يستحضر هدى النبوة، ويسرى فيه سريان الماء فى الورد.
