رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الليثُّ أفقه من مالك .. ما تيسَّر من سيرة فقيه مصر المغبون قدره..


26-3-2025 | 18:55

.

طباعة
بقلـم:حمدى رزق

لفتة الصديق «أحمد المسلمانى» رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، بإطلاق اسم الإمام «الليث بن سعد» على مسجد ماسبيرو، أعادتنى إلى سلسلة مقالات بلغت خمسا كتبتها فى هذه الصفحة من مجلتنا (الغراء) فى حب فقيه تنويرى سبق عصره فى تأسيس «فقه المواطنة» حتى قبل سكّ المصطلح بقرون..

فى توطئة المسلمانى، قال إن إطلاق اسم الإمام الليث على مسجد ماسبيرو خطوة تعد باكورة لبرامج ممتدة تهدف إلى إبراز شخصية الإمام «الليث بن سعد» بوصفه رمزًا ملهمًا من رموز التجديد والمواطنة، ومعبرّا عن المدرسة المصرية الأصيلة فى فقهها وحمايتها للوطن ونسيجه المجتمعى.

أبحرت فى بحر فقه «الإمام الليث بن سعد»، ولبثت ليالى مؤرقا أبحث عن مناقبه، فلمست فيه علما غزيرا، لا يقل بحال عن كرمه، كان على سنة رسولنا الكريم، «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون فى رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه فى كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم أجودُ بالخير من الريح المرسَلة».

هكذا عُرف «الليث بن سعد»، وتناقلت الروايات خبر فقهه وكرمه، «فقد كان أبوه واسع الغنى، يملك فى قرية «قلقشندة» بالقليوبية حيث مولد الإمام ضيعة خصبة، تنتج خير الثمرات من زرع وفاكهة، ونشأ فى هذه الأجواء يحب الحياة ويُقبل عليها، غير مسرف فيها ولا ممسك، وكان مثله الأئمة العظام «جعفر الصادق وأبى حنيفة» يحب التطيب والتنعم بحلو المأكل والملبس، وذات يوم لامه الإمام مالك لتمتعه بأطيب الطعام، وتزينه بأبهى الثياب، وخروجه للنزهة فى الحدائق والأسواق، فكتب مالك إليه معاتبا: «بلغنى أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق «أى الثياب الراقية الفاخرة» وتمشى فى الأسواق». فكتب إليه الليث: «قال الله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ».

ويبدو أن مالك قد اقتنع بوجهة نظر الليث فسار على نهجه حينما طابت له الدنيا، فنال من زينتها ما جعل أتباعه يستفسرون عنها فيقول لهم «إن الله يحب أن يرى نعمته على عبده».

وبرغم ثراء الليث واتساع ثروته لكنه لم تستحق عليه زكاة قط، ذلك لأنه كان لا يحتفظ بأمواله لأكثر من عام، فكان يتخلص من المال وكأنه يبعد عن ثوبه عقربا، ويذكر أن امرأة طلبت منه رطلا من عسل لتعالج ابنها، فى وقت شحّ فيه العسل، فأمر كاتبه أن يعطيها مرطا من عسل «والمرط نحو مائة وعشرين رطلا».. فقال كاتبه: «سألتك رطلا أتعطيها مرطا؟» فقال الليث: «سألتنا على قدرها ونحن نعطيها على قدرنا».

وكانت له ضيعة بالفرما «قرب بورسعيد» يأتيه خراجها، فلا يُدخله داره، بل يجلس أمام أحد أبوابها العشرين، وقد جعل المال فى صرر يوزعها جميعا صرة بعد صرة، وكان لا يتصدق بأقل من خمسين دينارا..

ذلك أنه كان يُحسن استثمار أرضه، الواسعة الخصبة حتى لقد كانت تدر عليه نحو عشرين ألف دينار كل عام، فقد كان يحب الناس ويحب الحياة معتبرا أنه لا فائدة من أن تكون سعيدا وسط تعساء، ومن أجل ذلك نادى الليث بأنه ليس من حق أحد أن يحتفظ بمال إلا إذا بلغ الناس حد الكفاية، والحكام وولاة الأمور مسئولون أمام الله عن أن يوفروا للناس جميعا حد الكفاية لا حد الكفاف، وحد الكفاف هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب، أما حد الكفاية فهو ما يكفى كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب، والمسكن الصالح المريح، والدواب التى تحملهم، والعلم الذى ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم .

ولعل هذه الفتوى جاءت من اقترابه من الفقراء ومعاشرتهم وشعوره بمعاناتهم اليومية، فكانت الفتوى هنا انتصارا للعدالة الاجتماعية بمفهوم العصر الحالى.

لقد قيل عنه إنه فاق فى علمه وفقهه إمام المدينة المنورة «مالك بن أنس»، غير أن تلامذته لم يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره فى الآفاق، مثلما فعل تلامذة الإمام مالك، وكان الإمام الشافعى يقول: “الليث أَفقه من مالك إِلا أن أَصحابه لم يقوموا بِه”.

بلغ مبلغا عاليا من العلم والفقة الشرعى بحيث إن مُتولِّى مصر، وقاضيها، وناظرها كانوا يرجعون إلى رأيه، ومشورته.

عُرف بأنه كان كثير الاتصال بمجالس العلم، بحيث قال ابن بكير: «سمعت اللَّيث يقول: سمعت بِمَكَة سَنَةَ ثَلاث عشرَةَ ومائَة مِنَ الزُّهْرِى وَأَنا ابن عشرِين سَنَة».

لقد حق للمسلمين أن يحزنوا غير ملومين إذا ما طالعوا قول الإمام الشافعى عن الإمام الليث بن سعد، نصير الفقراء، وظهير الضعفاء، عزيز النفس، صافى الوجدان.

للأسف الشديد، فإن الأمة أضاعت هذا الإمام الفقيه والمحدّث الكريم، واسع العلم وشديد الهمة، سخى القلب والروح واليد، وما زلنا نضيع هذا الفقيه العالم المصلح الحالم، تاركين أثره ومدرسته الفقهية الرفيعة لتغوص فى بئر النسيان وتذبل عبر الأزمان .

فبرغم شهرة الإمام الليث الكبيرة لكن تلامذته لم يحفظوا أثره، حتى أن الإمام الشافعى الذى حاول أن يجمع من تراثه وآثاره قدر ما يستطيع وعانى كثيرا فى سبيل هذا الغرض، كما عانى أيضا الأديب الكبير «عبدالرحمن الشرقاوى». وهو يجمع ما ورد عنه؛ ليضمنه فى كتابه «الأئمة التسعة» من نفس المشقة التى عاناها الإمام الشافعى.

وفى الحقيقة، لا يعرف الواحد كيف يندثر أثر رجل كهذا كانت له من المكانة ما جعلته مقصدا للعامة والخاصة والصفوة والملوك والفقراء والمساكين، وكيف لا يحتشد تلاميذ الإمام الليث وراءه ليدونوا كل ما يكتب مثلما فعل تلامذة أبى حنيفة ومالك والشافعى.

الغريب والعجيب، أنه ما إن تأتى سيرة هذا الرجل إلا وأحيط بهالة من تفخيم وإجلال وإعجاب.. وكان الليث – رحمه الله – فقيه مصر، ومحدثها، ومحتشمها، ورئيسها، ومنْ يفتخر بوجوده الإقليم، بحيث إن متولى مصر وقاضيها وناظرها، من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه، ومشورته، ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على الإقليم، فاستعفى من ذلك.

أخبار الساعة