اعتادت الإدارات الأمريكية السابقة استخدام أسلحة الحرب التجارية من تجميد أرصدة.. ومقاطعة للمنتجات.. إلخ.. ضد خصمين رئيسيين هما روسيا الاتحادية والصين.. ولكن الرئيس الأمريكى الحالي.. منذ أن دخل البيت الأبيض فى يناير الماضى.. وهو يضرب بعنف فى كل الاتجاهات.. وضد الجميع سواء الأصدقاء والخصوم أو الأعداء.. وتوسع بشكل غريب وعجيب فى نشر الحرب التجارية.. حتى صارت كالنار فى الهشيم.. وخلال الأسبوعالماضى بلغت تلك الحرب ذروتها.. ووضعت العالم -كل العالم- فوق صفيح ساخن . فخرج الرئيس الفرنسى ليستنهض الاتحاد الأوروبى- قائلاً: «نحن أكثر من 450 مليون نسمة وعلينا ألا نرضخ.. لذلك الهجوم الأمريكى الشرس.. وعلينا أن نرد بالمثل».. كما خرج رئيس الوزراء الإسبانى مطمئنا شعبه بأنه سيسير فى مسارين لتأمين الاقتصاد الإسبانى- المسار الوطنى الداخلى.. والمسار الأوروبى بالاشتراك مع بقية دول أوروبا..
كما ردت الصين هى الأخرى بفرض رسوم تصل إلى 125 فى المائة على الواردات الأمريكية.. ونتيجة لهذا الهجوم المضاد من أوروبا والصين وكثير من دول العالم.. ظهرت البورصة الأمريكية خلال الأسبوع الماضى بمؤشرات سلبية.. ورغم ذلك يظهر دونالد ترامب أكثر تصميما على المضى فى تلك الحرب.. التى قد تنفلت فى أى لحظة.. لتتحول إلى حرب عسكرية.. ستعمل حتما على تدمير العالم تدميراً حقيقياً.. قبل أن يخفف من وطأة قراره بتعليق الرسوم الجمركية الجديدة لمدة 90 يوماً باستثناء الصين وحدها.
والغريب أن الرئيس الأمريكي.. منذ أن وطأت قدماه البيت الأبيض فى يناير الماضى.. استطاع تفجير الخلافات والاختلافات.. حول تصريحاته التى لم تتوقف.. ضد المكسيك وكندا وبنما.. ثم إلى الصين وأوروبا فالمنطقة العربية.. ومن الواضح أن ترامب يعمل بكل السبل على تحييد الرئيس الروسى بوتين.. خاصة أن مصالح روسياالاتحادية موجودة فى كثير من مناطق الاستهداف الأمريكي.. وقد نجح ترامب فى إقناع بوتين برفع حمايته عن النظام السورى السابق (نظام بشار الأسد).. مقابل أن يترك له السيادة على المقاطعات الأربع التى يسيطر عليها فى أوكرانيا، ويحتاج ترامب إلى صفقة جديدة مع بوتين.. إذا ما أراد العدوان على إيران.. ذلك العدوان الذى تؤكده مؤشرات تحركات القوات الأمريكية فى المنطقة – خاصة أن إيران ترتبط باتفاق استراتيجى مكتوب مع روسيا الاتحادية..
أما أسوأ تصريحات ترامب العشوائية.. فكانت ضرورة تهجير سكان غزة إلى عدد من الدول المجاورة.. وقد وقفت مصر بحسم أمام هذا المخطط الإجرامى، وأكدت أن تهجير سكان غزة ظلم لن نشارك فيه، ظلم لأنه ضد كل القوانين والشرائع الدولية التى صدرت عن مجلس الأمن والأمم المتحدة.. والتى تؤكد على وجود دولة فلسطينية.. وأن غزة جزء أصيل من تلك الدولة.. ظلم لأن هذا التهجير القسرى، يتصادم مع عقيدة السيادة الوطنية.. حيثيظن ترامب أن بإمكانه إجبار الدول.. التى حددها لاستقبال سكان غزة.. ومن المؤكد أن كل دولة حرة سترفض مثل هذا العدوان على سيادتها الوطنية مهما كان التفوق الأمريكى فى مواجهة تلك الدول.. خاصة أن السجل الأمريكى حافل بكثير من الهزائم والإخفاقات فى مواجهة دول صغيرة وعليهم أن يراجعوا تجاربهم فى «فيتنام- أفغانستان – لبنان- الصومال – إلخ».
كما أن التهجير القسرى لسكان غزة ظلم لأن ميثاق حقوق الإنسان.. والتى يتشدق بها الأمريكان وكل الغرب.. ينص على حق الإنسان فى السكن.. وهذا السكن لن يكون إلا فى وطن.. وسكان غزة بعد أن قام العدوان الصهيونى الوحشى.. بتدمير كل بيوتهم متمسكون بالبقاء فى وطنهم.. وإذا تعذر وجود السكن فى هذا الوطن.. فليس أقل من وجود (القبر).. فالأحرار يرفضون الغربة أحياء وأمواتا..
ومن المؤكد أن ما يحدث فى غزة ليس بعيداً عن الحرب التجارية الشرسة. التى فرضها ترامب على كل العالم.. برفع الرسوم الجمركية.. على كل الواردات التى تدخل الولايات المتحدة الأمريكية من أى دولة وبالرغم من تعليقه القرار جزئياً إلا أن الأزمة لم تنته بعد. حيث أعلن الرجل بكل صراحة أنه يهدف إلى تحويل غزة إلى منتجع سياحى عالمى بعد أن يقوم بتهجير سكانه قسريا.. كما أن آبار الغاز الموجودة على شواطئ غزة.. ليست بعيدة هى الأخرى عن تلك الحرب التجارية.. ولعلنا نتذكر أن الحرب البغيضة التى دارت رحاها على الأراضى السورية.. واستمرت ما يقرب من الأربعة عشر عاما.. كانت بسبب رفض النظام السورى السابق.. تنفيذ الرغبة الأمريكية.. بمرور أنابيب الغاز القطرى من الأراضى السورية.. ليذهب إلى أوروبا ضربا للاقتصاد الروسى.. ومن الواضح أن الأمريكان ومن خلفهم الكيان العبرى (يستكثرون) على الفلسطينيين الغلابة وجود مثل هذه الآبار الغنية بالغاز..
ويحرص الأمريكان منذ أن ورثوا الدور البريطانى.. بعد هزيمة بريطانيا فى العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 على أن يسيطروا على كل ثروات منطقة الشرق الأوسط.. وخاصة ثروات الوطن العربى.. ولذلك تنتشر قواعدهم العسكرية فى منطقة الخليج.. تلك القواعد التى سيكون لها دور حاسم إذا ما قررت أمريكا العدوان على إيران.. حيث توجد هذه القواعد على (مرمى حجر) من الأسلحة الإيرانية- وإذا ما تم استخدامها فى العدوان.. فإن الخسائر الأمريكية ستكون كبيرة جداً.. ولذلك يتردد أن الإدارة الأمريكية سوف تستخدم قاعدة ريجو هارسياف بالمحيط الهندى.. تلك القاعدة الموجودة لتهديد المصالح الصينية.. كما يتردد أن إيران تمتلك العديد من الصواريخ التى يمكنها الوصول بسهولة إلى تلك القاعدة.. وتمثل إيران حلقة مهمة فى الأهداف المستهدفة من الحرب التجارية الأمريكية.. حيث تعانى إيران منذ ثورتها الإسلامية عام 1979 وحتى الآن من حصار اقتصادى أمريكى.. وتجميد مليارات الدولارات الأمريكية.. حتى لا يستفيد الاقتصاد الإيرانى بتلك المليارات.
ووسط الآلة (الترامبية) العملاقة.. التى لا تتوقف عن إصدار التصريحات العشوائية فى كل الاتجاهات، تلك الآلة التى ينطبق عليها القول الشعبى المصرى (التلويش).. وسط كل هذا يعانى دونالد ترامب من مشكلة كبرى تتلخص فى افتقاده إلى وجود مستشارين على شاكلة الثعلب كيسنجر.. أو العاقل بريجنسكى.. مثل هؤلاء المستشارين يستطيعون كبح جماح التصريحات العشوائية.. إما بمناقشة الرئيس قبل إصدارها.. وإما بوضع تفسيرات تخفف من وطأة تلك التصريحات، ومن المؤكد أن مثل هؤلاء المستشارين يسعون مثل غيرهم.. من أعضاء الإدارات الأمريكية إلى الهيمنة الأمريكية وتحقيق مصالحهم.. ولكنهم يلبسون دوماً (القفازات الحريرية).. بدلا من تلك (القبضة الحديدية).. التى لا يتوقف ترامب عن التلويح بها.. وقد قرر دونالد ترامب أن يكون (الكاوبوى الأمريكي) بوجهه السافر والمتبجح.. ولكن هذا الكاوبوى كلما اصطدم بأصحاب الإرادات المدافعين بحق عن أوطانهم.. عاد مهزوما يجر أذيال الخيبة والحسرة.. وقد ذكرنا العديد من النماذج التى تؤكد ذلك (فيتنام – أفغانستان- لبنان- الصومال).
وقد تراجع ترامب نفسه عن كثير من تصريحاته العشوائية مثل ضم كندا إلى بلاده.. وبناء سور يفصل بلاده عن المكسيك.. وضم قناة بنما.. وذلك عندما فوجئ بمواقف صلبة بل وعنيفة من مسئولى تلك الدول.. كما تراجع عن فكرته المجنونة بالتهجير القسرى لسكان غزة عندما اصطدم بالموقف المصرى الصلب. بأن مصر لن تشارك فى هذا الظلم وأنها لن تتنازل عن سيادتها الوطنية، وإذا كان ترامب قد تراجع عن تصريحات التهجير القسرى لسكان غزة إلا أنه أعطى الضوء الأخضر للكيان الصهيونى بممارسة أقصى درجات الإبادة الجماعية ضد سكانه.. بعد أن كانت إدارته سببا رئيسيا فى انهيار اتفاق وقف إطلاق النار.. الذى شاركت فى إبرامه.. وحددت له ثلاث مراحل.. ولكنه انهار بعد مرحلته الأولى.. ويتطلب ذلك موقفا عربيا إسلاميا دوليا، يتسم بالقوة والصلابة حتى تتوقف تلك الإبادة.. ويعود ترامب إلى صوابه..
